إن الوقف في الإسلام لم يكن مجرد نظام اقتصادي، بل هو انعكاس لمفهوم "العبادة الممتدة"، ومصدر ثابت لاستقلالية التعليم والدعوة والعبادة. ومن هنا، فإن أي مساس به لا يُقرأ فقط كخسارة مادية، بل كضربة لهويةٍ دينيةٍ متجذرة.
تواجه الهند في المرحلة
الراهنة تحولات قانونية عميقة تطال صميم العلاقة بين الدولة وتعددها الديني
والثقافي، وهي العلاقة التي شكّلت لعقود طويلة سمة مميزة للهند كدولة تعددية. فقد
أُقرت مؤخراً تعديلات واسعة على قانون الوقف الهندي الصادر عام 1995، وجاءت هذه
التعديلات تحت عنوان جذّاب ظاهرياً "قانون الإدارة الموحدة للوقف والتمكين
والكفاءة والتنمية" لكن وراء هذا العنوان تكمن توجهات تثير قلق العديد من
المتابعين والناشطين في شؤون الأقليات، وخاصة المسلمين.
التحديث أم الهيمنة
القانونية؟
رغم أن الحكومة قدمت هذه
التعديلات بوصفها إصلاحاً إدارياً يهدف إلى تعزيز الشفافية والكفاءة في إدارة
ممتلكات الوقف، إلا أن القراءة المتأنية لمضامين القانون الجديد تُظهر أن الهدف
يتجاوز حدود الإصلاح الإداري، ليطال البنية الدينية والثقافية للمجتمع. فالقانون
الجديد يُمهّد لتوحيد الأطر القانونية التي تحكم المؤسسات الدينية، ويدفع باتجاه
إخضاع الأوقاف الإسلامية لرقابة صارمة من قبل الدولة، وتقييد استقلاليتها التاريخية
في إدارة شؤونها.
بعبارة أخرى، يتم الدفع
باتجاه إلغاء الطابع الخصوصي للمؤسسات الدينية التابعة للأقليات، وعلى رأسها
المؤسسات الوقفية الإسلامية، بحجة التطوير والتحديث. وهذا التوجه، في سياق سياسي
تهيمن عليه أيديولوجيا قومية هندوسية، يُفهم على أنه محاولة لإعادة تشكيل الحضور
الديني للأقليات ضمن تصور الدولة للأمن القومي والتنمية، وليس وفق احتياجات هذه
الأقليات أو رؤيتها الذاتية لمصالحها.
ويبدو أن هناك مرحلة جديدة بدأت، تتمثل في توسيع نطاق التدخل الرسمي في شؤون
الأقليات الدينية، تحت غطاء التنظيم القانوني والإداري، بينما الدافع الحقيقي قد
يكون أيديولوجياً في جوهره، يرمي إلى تقليص الفضاء الديني والثقافي للأقليات.
وفي الوقت الذي كانت فيه
المؤسسات الإسلامية مشغولة في الدفاع عن وقفها، بدأ الإعلام المرتبط بالتيار القومي
الهندوسي يسلط الضوء على الكنيسة الكاثوليكية وملكيتها الواسعة للأراضي، مما ينذر
بأن مرحلة جديدة من التدخل في شؤون الأقليات الدينية قد بدأت.
مفهوم الوقف في
الإسلام: من الخصوصية إلى الاستهداف
الوقف في الإسلام ليس مجرد
آلية لتخصيص الممتلكات، بل هو مؤسسة ذات جذور دينية وروحية عميقة، تعود إلى زمن
النبي محمد صلى الله عليه وسلم. يتجلى الوقف كأداة لتحقيق العدالة الاجتماعية، ودعم
الفقراء، وتمويل التعليم والخدمات المجتمعية. ويمتاز الوقف بكونه دائماً لا يُورّث،
ويُدار وفق نية الواقف، ويخضع لأحكام الشريعة.
ولكن التعديلات الجديدة
على القانون، بحسب ما بيّنه الوزير الأسبق سلمان خورشيد، تكشف عن جهل عميق بطبيعة
الوقف وأحكامه. فقد اشترط القانون الجديد أن يكون الواقف مسلماً مارس شعائر الإسلام
لخمس سنوات، وهو شرط غريب يناقض جوهر الإسلام الذي لا يشترط الممارسة لإثبات
الإيمان، بل يكفي النطق بالشهادتين.
|
فإن استهداف الأوقاف في الهند اليوم ليس سوى تكرار لمحاولة اجتثاث الروح
الإسلامية من خلال تجفيف منابعها. وإذا لم تُقرأ هذه التحولات من هذا
المنظور العميق، فسوف نخسر الكثير قبل أن نستفيق |
كما أن التعديلات ألغت
مفهوم "الوقف بالاستخدام"
(Waqf by user)، وهو المفهوم الذي يعترف
بالملكية الوقفية لمكان استخدم منذ قرون كمسجد أو قبر أو مدرسة دينية حتى وإن لم
تُسجل أوراقه رسمياً. حذف هذا المفهوم يعني أن آلاف الأماكن الدينية مهددة بالضياع.
منح سلطات قضائية
للسلطة التنفيذية
من أبرز التعديلات المثيرة
للجدل هي منح صلاحيات واسعة للمحافظ
(Collector)
في تحديد ملكية أراضي الوقف، وهو أمر خطير لأنه يُخضع ملكية دينية لسلطة تنفيذية
غير مختصة شرعاً أو قانوناً. هذا التحول يعتبر خرقاً لمبدأ فصل السلطات، ويمنح
الإدارة القدرة على تقرير مصير ممتلكات وقفية دون رقابة قضائية حقيقية.
وقد حدث بالفعل أن ألغت
المحكمة العليا في دلهي قراراً اعتمد على وثائق ضعيفة لإعلان 123 موقعاً (بينها
مساجد ومقابر) كأراضٍ وقفية. هذا المثال يوضح خطورة ترك هذه الملفات الحساسة
للإدارة دون مراجعة قضائية صارمة.
تأثير التعديلات على
هوية المسلمين ووحدتهم
تتضمن التعديلات أيضاً
تأسيس مجالس وقف منفصلة للسنّة والشيعة، مما يُخشى أن يُعمق الانقسام داخل الطائفة
المسلمة. كما أن الحديث عن مجلس خاص بالبوهرة والآغاخانية يعكس محاولة لتفتيت الصوت
الإسلامي وتقسيمه إلى كيانات طائفية يسهل التحكم بها.
وإذا أضفنا إلى ذلك فتح
الباب أمام تمويل مشاريع الوقف من غير المسلمين ومن جهات أجنبية، يتضح أن هناك
سعياً لجعل الوقف مؤسسة شبه حكومية يمكن التحكم بها وتوجيهها بعيداً عن روحها
الدينية.
من الوقف إلى الكنيسة
تغيير محور الاستهداف
بمجرد أن تم تمرير تعديلات
قانون الوقف، بدأت المقالات في صحف الناطقة باسم الفكر القومي الهندوسي تطرح
تساؤلات حول ملكية الكنيسة الكاثوليكية للأراضي في الهند، مشيرة إلى أن الكنيسة
تمتلك أكثر من سبعين مليون هكتار. هذه الأرقام يتم تداولها دون توثيق دقيق، ويُراد
منها تهيئة الرأي العام لتقبل فكرة إخضاع أملاك الكنيسة لنفس المنطق الذي تم به
تعديل قانون الوقف.
وتستند هذه الدعوات إلى
تعميم حكومي قديم يعود لعام 1965 يطالب الأساقفة بتسجيل أراضيهم، رغم أن هذا
التعميم لم يُفعل ولم يتحول إلى قانون نافذ. ومع ذلك، يبدو أن هناك محاولة لإحيائه،
تماماً كما أُحييت قضايا وقف عمرها قرون تحت غطاء التنظيم.
نحو "علمنة قسرية"
للمؤسسات الدينية
التعديلات على قانون
الوقف، وما يُحاك الآن ضد الكنيسة، ليستا إلا وجهين لعملة واحدة: السعي نحو علمنة
قسرية للمجال الديني تحت شعار التنظيم والشفافية. لكن هذه العلمنة لا تعني فصل
الدين عن الدولة، بل تعني إخضاع الدين لمنظومة الدولة، وهو ما يتنافى مع جوهر
العلمانية الهندية التي تقوم على الحياد تجاه الأديان.
إن تحويل التعديات على
أراضي الوقف من جريمة جنائية إلى مخالفة مدنية، مع فرض فترة تقادم بناءً على قانون
التقادم لعام 1963، هو مثال واضح على تساهل الدولة في حماية الوقف، بينما كانت في
الوقت نفسه تمنح موظفيها سلطات غير محدودة للتدخل في شؤونه.
مآلات الصراع على
المقدس
المؤسسات الوقفية
الإسلامية، ومعها الكنيسة، تقف اليوم في مفترق طرق. فإما أن تخضع لمنطق الدولة
الجديد الذي يرى في كل ممتلكة دينية فرصة اقتصادية، أو أن تدخل في صراع قانوني طويل
الأمد قد يستنزف مواردها ويضعف مكانتها.
وما يزيد الأمر تعقيداً هو
غياب صوت موحد للمسلمين أو المسيحيين في الساحة السياسية، مما يجعلهم أكثر عرضة
للاختراق والتقسيم. بينما تُقدم الدولة روايتها على أنها تطوير وتنظيم، فإن الواقع
يشير إلى أن الهدف هو إعادة تشكيل المجال الديني بما يتوافق مع رؤية أيديولوجية ذات
طابع قومي هندوسي.
الهجوم على الأوقاف:
مدخل لإضعاف الإسلام
–
دروس من سمرقند وبخارى
حين نعود إلى صفحات
التاريخ، وتحديدًا إلى ما جرى في مدن العلم والنور مثل سمرقند وبخارى، ندرك أن
استهداف الأوقاف لم يكن يومًا مسألة إدارية محضة، بل كان ولا يزال سلاحًا
أيديولوجيًا لضرب العمق الحضاري للإسلام. ففي تلك العصور، حين تغلغل التيار
العلماني المدعوم من قوى سياسية جديدة، كانت أولى خطواتهم نحو إضعاف الإسلام هو
تجفيف ينابيعه المؤسساتية. فبدأ الهجوم على الأوقاف، لا بحجة التطوير، بل بإلغاء
استقلاليتها، ومن ثم فُرضت الضرائب على المدارس والمساجد، وأُعاقت مواردها الطبيعية
التي كانت تكفل لها الاستمرار، وتضيق الخناق على العلماء وطلبة العلم الذين كانوا
يتخرجون من تلك المؤسسات، ليفقد المجتمع بوصلة الهداية والعلم في آن واحد.
ولعلنا نتساءل اليوم: أليس
ما يحدث في الهند نسخة جديدة من تلك الخطة القديمة؟ أليست التعديلات القانونية التي
تطال مؤسسات الوقف، وتجريدها من قدسيتها، والسعي لإخضاعها للسلطة التنفيذية، ثم فتح
الباب لتمويل خارجي مشروط، إلا صورة معاصرة لما حدث في قلب آسيا الوسطى؟ الخطر لا
يكمن في تغيير بنود قانونية فحسب، بل في تغيير وظيفة الوقف من حارس للهوية والمجتمع
إلى أداة خاضعة لمعادلات الدولة السياسية والاقتصادية.
إن الوقف في الإسلام لم
يكن مجرد نظام اقتصادي، بل كان انعكاسًا لمفهوم "العبادة الممتدة"، واستمرارًا لعمل
الخير بعد موت الإنسان، ومصدرًا ثابتًا لاستقلالية التعليم والدعوة والعبادة. ومن
هنا، فإن أي مساس به لا يُقرأ فقط كخسارة مادية، بل كضربة لهويةٍ دينيةٍ متجذرة.
ولذلك،
فإن استهداف الأوقاف في الهند اليوم ليس سوى تكرار لمحاولة اجتثاث الروح الإسلامية
من خلال تجفيف منابعها. وإذا لم تُقرأ هذه التحولات من هذا المنظور العميق، فسوف
نخسر الكثير قبل أن نستفيق. إنها دعوة لإحياء
الذاكرة التاريخية، لاستخلاص العبرة، واتخاذ الموقف المناسب قبل أن يعيد التاريخ
نفسه على نحو أكثر قسوة وأشد وقعًا.
المعركة من أجل الروح
وخلاصة القول إنّ ما تشهده
الهند اليوم من تعديلات قانونية تمسّ جوهر الوقف الإسلامي ليس مجرّد إصلاح إداري،
بل هو حلقة في سلسلة من التحولات الأيديولوجية التي تستهدف البنية الدينية
للأقليات، وتعيد رسم العلاقة بين الدولة والمقدس. فالتضييق على مؤسسات الوقف،
والتهيئة لاستهداف ممتلكات الكنيسة، يعكس اتجاهاً نحو مركزية الدولة في إدارة الشأن
الديني، وتفريغ المؤسسات الروحية من استقلالها ورمزيتها.
ليست المسألة مجرد أملاك
أو قوانين، بل تتعلق بالروح التي قامت عليها مؤسسات الوقف. الوقف في الإسلام ليس
عقاراً فحسب، بل هو تجسيد للإيمان والنية الصادقة في خدمة المجتمع.
التعديلات الأخيرة ليست
سوى خطوة في مسار طويل يستهدف ترويض المجال الديني وتفريغه من جوهره الروحي ليصبح
مجرد مكون إداري خاضع لسلطة الدولة. وإذا لم يُواجه هذا المسار بوعي جماعي وموقف
قانوني موحد، فإننا أمام خطر حقيقي يُهدد مستقبل التعددية الدينية في الهند.
وبالتالي
تحتاج الأمة الهندية بأجمعها إلى تحرك قانوني جماعي من قبل مجالس الوقف والكنائس
للطعن في التعديلات أمام المحكمة العليا، وتوحيد الخطاب الإعلامي للأقليات لتوضيح
مخاطر هذه القوانين على مستقبل التعدد الديني، وحشد الدعم الدولي والمنظمات
الحقوقية لتسليط الضوء على هذه القضايا، وتطوير إدارة الوقف داخلياً بما يضمن
الشفافية ويقطع الطريق على الذرائع الحكومية.
بهذا، تكون المعركة ليست
فقط قانونية أو سياسية، بل معركة من أجل الحفاظ على روح الهند المتنوعة، وعلى الحق
في أن يكون للدين مكانه وخصوصيته دون تدخل سلطوي مغلف برداء الإصلاح.