• - الموافق2025/04/16م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
منظمة

لا تُخفي "بيتار يو إس" استراتيجيتها في رصد الخصوم، بل تفتخر على موقعها الرسمي بأنها تتابع بدقة نشاطات المعادين للصهيونية، وتعدّ قوائم دورية بأسماء طلاب وأكاديميين ومثقفين يهود وغير يهود، لمجرد أنهم أعربوا عن تعاطفهم مع فلسطين


في الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة التحولات السياسية داخل الولايات المتحدة تجاه القضية الفلسطينية والحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، ظهرت منظمة صهيونية متطرفة تُدعى "بيتار يو إس" كواحدة من أكثر الأدوات رعبًا في ملاحقة الأصوات المعارضة للاحتلال الإسرائيلي، حتى وإن كانوا من أبناء الديانة اليهودية أنفسهم، باسم "الدفاع عن إسرائيل" تشرع هذه المنظمة الصهيونية في تصنيف المعارضين وتصفيتهم معنويًا وعلنيًا، واضعة على طاولتها قوائم سوداء تضم نشطاء وطلبة وصحفيين، ومعلنة على الملأ ولاءها لأجهزة استخباراتية إسرائيلية، ومع صعود الأصوات المناهضة للصهيونية حتى من داخل المجتمعات اليهودية الأمريكية، جاءت "بيتار يو إس" كأداة ردع غير رسمية ولكن فعّالة، تسعى لتأديب الخارجين عن الخط الإسرائيلي، وكأنها امتداد حديث لما كان يعرف بـ"الوشاة السياسيين" في الأنظمة الفاشية، إنها قصة عن التجسس، والابتزاز، والتحريض، تُروى هذه المرة بلكنة أمريكية، وتُدار من قلب تل أبيب.

النشأة والجذور الأيديولوجية

يعود اسم "بيتار" إلى منظمة شبابية صهيونية تأسست في عام 1923م على يد زئيف جابوتنسكي، أحد أعمدة الفكر الصهيوني المتطرف، ومؤسس ما يُعرف بالصهيونية التصحيحية، التي سبقت لاحقًا ظهور أحزاب اليمين الإسرائيلي المتشدد وعلى رأسها الليكود، لم تكن "بيتار" حركة كشفية أو ثقافية، بل كانت أقرب إلى تنظيم شبه عسكري يغرس في أتباعه مبادئ التفوق القومي اليهودي، وأهمية بناء دولة عبرية قوية بالسلاح والردع، لا بالخطاب أو التفاوض، هذه الخلفية العنيفة هي ما يفسر كيف تحولت المنظمة لاحقًا إلى ذراع شبه أمنية تتبنى خطابًا تحريضيًا.

أما "بيتار يو إس"، فهي إعادة بعث لهذه الأيديولوجيا، لكن هذه المرة داخل الأراضي الأمريكية، حيث تبنّت المنظمة رواية أكثر حدّة ضد الفلسطينيين، بل وحتى ضد أي شخص ـ حتى وإنا كان يهوديًا ـ ينتقد سياسات إسرائيل، وقدمت نفسها كدرع واقٍ لما تسميه "يهودية الدولة"، وهو مفهوم محوري في العقل الصهيوني المعاصر، يعني تكريس الطابع الاثني والديني للدولة على حساب أي سرديات أخرى، وهي بذلك تعيد تدوير خطاب الخطر الوجودي الدائم الذي طالما استُخدم لتبرير العنف والهيمنة باسم النجاة، لكن هذه المرة ضمن سياقات جامعية وأكاديمية حيث تخوض معاركها الأكثر تعقيدًا، وما يُلفت أن خطاب المنظمة لا يستند فقط إلى صهيونية كلاسيكية، بل إلى مزيج بين عقيدة أمنية وعقلية تصفوية، تتعامل مع المعارضة كخيانة لا تُغتفر.

وقد نجحت "بيتار يو إس" في تجنيد عشرات النشطاء من الجيل اليهودي الجديد داخل أمريكا وكندا، ممن تلقوا تعليمهم في الجامعات الأمريكية الكبرى، ويملكون مفاتيح الوصول إلى الدوائر الطلابية والإعلامية، هذا التمكين سمح للمنظمة بأن تصبح أكثر من مجرد لوبي صغير أو رابطة ضغط، بل جزءًا من منظومة تنسيق سياسي وأمني تُنسّق مع السفارة الإسرائيلية في الولايات المتحدة، وأحيانًا مع أطراف أمنية ومخابراتية في إسرائيل نفسها، وتبدو المنظمة اليوم كما لو أنها تمارس تجنيدًا استباقيًا للولاء، تحت شعار: "من ليس معنا فهو ضدنا".

اصطياد الخصوم

لا تُخفي "بيتار يو إس" استراتيجيتها في رصد الخصوم، بل تفتخر على موقعها الرسمي بأنها تتابع بدقة نشاطات المعادين للصهيونية، وتعدّ قوائم دورية بأسماء طلاب وأكاديميين ومثقفين يهود وغير يهود، لمجرد أنهم أعربوا عن تعاطفهم مع فلسطين، أو انتقدوا العدوان على غزة، ففي قلب الجامعات الأمريكية، وهي بيئة يفترض أن تكون حاضنة للتعدد والجدل الحر، تعمل "بيتار يو إس" كحارس أيديولوجي متشدد، يرصد المحاضرات، والمقررات، والفعاليات الطلابية، بل وحتى مواقف الأساتذة، مدّعيًا أن أي انحياز للحقوق الفلسطينية هو بمثابة خرق لمعايير الولاء اليهودي أو دعم مبطّن لما يسمونه الإرهاب، لا تكتفي المنظمة بمراقبة الخطاب، بل تسعى لتأطيره، عبر التأثير على صنّاع القرار داخل الجامعات، والضغط من خلال اللوبيات المالية، وإشهار سيف "معاداة السامية" في وجه كل من يتحدث عن الاحتلال الصهيوني أو يطالب بمساءلة إسرائيل، بهذا الشكل تحولت "بيتار" إلى جهاز رقابة غير معلن داخل الحرم الأكاديمي في الجماعات الأمريكية والكندية، وباتت تتعامل مع المعارضة الفكرية لا باعتبارها اختلافًا مشروعًا، بل كفعل يستحق العزل والملاحقة.

 

أعلنت المنظمة صراحة أنه "لا يوجد أبرياء في غزة"، وذهبت إلى حد وصف جميع سكان القطاع بـ "النازيين"، في خطاب لا يُخفي طبيعته، بل يتماهى مع أشد التيارات تطرفًا داخل اليمين الصهيوني

ومن بين أشهر الشخصيات التي لاحقتها المنظمة: الصحفي اليهودي الأمريكي بيتر باينارت، والباحثة راشيل ليكين، والناشط شاي ديفيداي، إضافة إلى قادة منظمات مثل "أصوات يهودية من أجل السلام"، و"كود بينك"، و"صندوق إسرائيل الجديد"، وقد نشرت "بيتار" صور هؤلاء ومواقع عملهم ومواقفهم السياسية، داعيةً الحكومة الإسرائيلية إلى منعهم من دخول إسرائيل مدى الحياة، وهو ما تم بالفعل بحق بعضهم، واللافت أن هذه الحملات لا تقتصر على الرصد، بل تمتد إلى التشهير والتأليب والتنسيق مع جهات سياسية يمينية في الولايات المتحدة وكندا لتجريم أي فعل تضامني مع الفلسطينيين، وهذا يجعل "بيتار يو إس" تعمل كجهاز رقابة اجتماعي غير رسمي، يفرض حدودًا على حرية التعبير داخل الجامعات بالأخص، فبمجرد أن يُتهم شخص ما بأنه "معادٍ لإسرائيل"، تنهال عليه حملات الضغط والفصل والتحقيق.

في خدمة الموساد

في تطور أكثر خطورة يكشف عن الوجه الأمني الحقيقي لـ"بيتار يو إس"، أعلنت المنظمة مؤخرًا أنها نظّمت زيارات ميدانية إلى الحدود مع قطاع غزة تحت عنوان لافت: "مهمة الموساد"، وهي تسمية لا تخلو من دلالات رمزية وسياسية عميقة، وخلال هذه الزيارات، دُعي النشطاء والمناصرون للقاء ضباط سابقين في جهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد"، إلى جانب قادة من جهاز الأمن العام "الشاباك"، في مشهد يوحي بتحوّل المنظمة من مجرد ذراع دعائي أو أداة ضغط داخل الجامعات، إلى كيان شبه أمني يتغذّى من المؤسسة الاستخباراتية الإسرائيلية ويعيد تصدير سردياتها داخل البيئة الأمريكية، هذا النوع من الفعاليات لا يمكن قراءته كمجرد نشاط توعوي أو تثقيفي، بل هو في حقيقته جزء من منظومة تعبئة أيديولوجية قائمة على عسكرة الوعي والترويج لعقيدة "العدو الدائم"، التي تشكل حجر الزاوية في البنية الذهنية للأجهزة الأمنية الإسرائيلية، كما يعكس انخراط "بيتار يو إس" في هذه الأنشطة تقاطعًا واضحًا مع شبكات الدولة العميقة في إسرائيل، لا سيما تلك التي تتبنى نهجًا استباقيًا في تصدير "أمن إسرائيل" كقضية عالمية، يتم تدويلها وتفويض أطراف غير حكومية بتنفيذها داخل المجتمعات الغربية.

الأخطر من ذلك أن الخطاب الذي رافق هذه الزيارات كان تحريضيًا بشكل فج، إذ أعلنت المنظمة صراحة أنه "لا يوجد أبرياء في غزة"، وذهبت إلى حد وصف جميع سكان القطاع بـ "النازيين"، في خطاب لا يُخفي طبيعته، بل يتماهى مع أشد التيارات تطرفًا داخل اليمين الصهيوني، الذي بات يهيمن على القرار السياسي والعسكري في إسرائيل، هذا النوع من التصنيف الجماعي يشكّل تمهيدًا نظريًا لأي سياسات تصفية جماعية أو تهجير للسكان، بل ويسعى إلى خلق شرعية معنوية للقتل، باعتباره دفاعًا مسبقًا عن الذات اليهودية، ولا شك أن إقحام رمزية الموساد داخل الفضاء الجامعي الأمريكي من خلال أنشطة "بيتار يو إس" لا ينفصل عن مشروع أوسع لتجفيف منابع التضامن مع فلسطين في الغرب، وتحويل أي تعاطف إنساني إلى تهمة أمنية، وهي استراتيجية تُظهر كيف أن المنظمة تسعى ليس فقط إلى مراقبة الرأي العام، بل إلى إعادة تشكيله ضمن منطق أمني صارم تعمل إسرائيل على تنفيذه منذ عقود.

مناخ مناسب

مع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السلطة أدلى بالعديد من التصريحات الحادة بشأن المظاهرات الطلابية المؤيدة لفلسطين في الجامعات الأمريكية، فقد وصف هذه الاحتجاجات بأنها "غير قانونية" وهدد بفرض عقوبات صارمة على المشاركين والمؤسسات التعليمية التي تسمح بها، كما أوقف التمويل الفيدرالي عن بعض الجامعات التي سمحت بمثل هذه الاحتجاجات، مشيرًا إلى أن الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين في الجامعات الأمريكية تجاوزت الحدود في مستوى الكراهية، واصفًا إياها بأنها جزء من "ثورة راديكالية يجب سحقها"، وفي اجتماع مغلق مع مانحين يهود في نيويورك، تعهد ترامب بترحيل الطلاب الأجانب المشاركين في هذه الاحتجاجات، وهو ما شرعت إدارته بالفعل في تنفيذه.

استفادت "بيتار يو إس" من المناخ السياسي الأمريكي الحالي الذي يشهد تصاعدًا غير مسبوق في دعم إسرائيل، خصوصًا مع التبدلات التي أحدثتها إدارة دونالد ترامب تجاه الشرق الأوسط، فالمنظمة لم تكتفِ بمجرد استثمار هذا المناخ، بل اندمجت داخله بفاعلية، متبنية خطاب ترامب ومفرداته ومزاجه الشعبوي، بما في ذلك نظرته القمعية للحريات الأكاديمية ومواقفه الصلبة ضد الحركات الطلابية الداعمة لفلسطين، وقد كشفت تقارير متعددة عن أن المنظمة أعدّت قوائم سوداء بأسماء طلاب تصفهم بأنهم "مؤيدون لحماس"، وأن إدارة ترامب قد شرعت بالفعل في إصدار قرارات ترحيل بحق بعض الطلاب المهاجرين والباحثين وحاملي التأشيرات الدراسية، ولا شك أن هذا الأمر يكشف عن مدى تغوّل "بيتار يو إس"، ليس فقط كمنظمة ضغط، بل كأداة تنفيذية تشارك فعليًا في هندسة سياسات العقاب والإقصاء داخل أمريكا.

صمت وتواطؤ خبيث

في ظل هذه الانتهاكات، يبرز سؤال مُلح: من يحمي "بيتار يو إس"؟ ولماذا تصمت السلطات الأمريكية أمام نشاط منظمة تمارس التشهير، وتهدد حرية التعبير، وتحرض على كراهية دينية وعرقية، وهي أمور من المفترض أنها تخالف القانون الأمريكي الذي يتشدق الأمريكيون دومًا بأنه يجرّمها؟، الجواب لا يكمن فقط في النفوذ الصهيوني داخل مراكز القرار الأمريكي، بل أيضًا في هشاشة الحريات الأكاديمية حين تتعلق بإسرائيل، فالمعايير تتبدل، والتسامح يتبخر، والديمقراطية تُعطل.

العديد من الجامعات الأمريكية باتت تتجنب الخوض في شكاوى تتعلق بـ"بيتار"، خوفًا من التورط في ملفات توصف بأنها "معاداة للسامية"، رغم أن المستهدفين هم في أحيان كثيرة يهود أنفسهم، وهنا تتبدى المفارقة الموجعة: أن تدافع عن فلسطين، حتى وأنت يهودي، يُجعَل منك عدوًا في نظر منظمة تدّعي أنها حامية اليهود، المفهوم نفسه يُعاد تعريفه بيد منظمة صغيرة لكنها ذات صوت عالٍ، هذا الامتداد المؤسسي يجعل من "بيتار" أداة تنفيذ موازية، مهمتها القذرة أن تلطخ، وتقصي، وتُسكت من يجرؤ على قول لا للاحتلال أو لا للحرب، كل ذلك يحدث بينما يتحدث العالم عن ديمقراطية إسرائيلية، وحرية رأي في الولايات المتحدة.

أعلى