اتفاقية بلازا لعام ١٩٨٥ اتفاقية محورية، توصلت إليها خمس دول صناعية كبرى - وهي الولايات المتحدة واليابان وألمانيا الغربية وفرنسا والمملكة المتحدة - بهدف إعادة تنظيم عملاتها لمعالجة اختلالات التجارة ومنع المزيد من السياسات الحمائية.
أعادت التعريفات الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، على العديد من الدول - الحلفاء والمنافسين على حد سواء - الحديث عن السياسة النقدية التي قد يتبعها البيت الأبيض، وما إذا كانت تكررًا لاتفاقية بلازا عام 1985 والتي شكلت تحوّلاً جذرياً في نهج القوى الاقتصادية الكبرى في السياسة النقدية العالمية.
لقد حمت اتفاقية بلازا الاقتصاد الأمريكي من التدهور وأخرجته من أزمته، لكن ذلك كان على حساب حلفائها الاستراتيجيين وكانت اليابان من بين أكثر الدول تضررا من تلك الاتفاقية فقد أودت بها إلى ركود اقتصادي حاد وتباطأ في النمو الذي وصل إلى 0.5 في المائة وهو ما أدى إلى ما يعرف بالعقد الضائع، حيث استمرت تداعيات هذه الاتفاقية عقدا كاملا إلى أن استطاعت اليابان تجاوزها.
منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود وتحديدا في العام 1985، وتحت ضغوط هائلة مارستها الولايات المتحدة على الدول الصناعية الكبرى وقتها، وهي "ألمانيا الغربية، واليابان وبريطانيا وفرنسا" وافقت تلك الدول على دعم خطة خفض الدولار، ورضخت كل من اليابان وألمانيا للولايات المتحدة وتمت الموافقة على رفع قيمة العملتين الألمانية واليابانية أمام الدولار، وفي وقت قياسي أسرع من المتوقع، تلاشت التهديدات الاقتصادية للهيمنة الاقتصادية الأمريكية.
الظروف الاقتصادية التي أدت إلى الاتفاق
في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، عندما كان رونالد ريجان رئيساً للولايات المتحدة، كانت أمريكا تعاني من عجز تجاري كبير - كما هي الآن - وبفضل السياسات المالية التوسعية التي انتهجتها الإدارة وقتها، اكتسبت العملة الأمريكية قوة نسبية مدعومة بأسعار فائدة مرتفعة. وشهد الاقتصاد الأمريكي، الذي كان يتعافى من الركود التضخمي الذي عانى منه في سبعينيات القرن الماضي، نموًا قويًا وارتفاعًا في أسعار الفائدة في ظل السياسة النقدية المتشددة التي انتهجها رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي وقتها "بول فولكر". وقد جذبت هذه السياسة رأس المال الأجنبي، مما عزز قيمة الدولار الأمريكي. ورغم أن صعود الدولار كان مفيدًا من جهة، إلا أنه قوّض الصادرات الأمريكية بجعلها أكثر تكلفة وأقل تنافسية في الأسواق الدولية، مما ساهم في تفاقم العجز التجاري.
في الوقت نفسه، ازدهرت اليابان وألمانيا الغربية، الشريكتان التجاريتان الرئيسيتان للولايات المتحدة، بفضل نمو قوي قائم على الصادرات. وعزز انخفاض قيمة عملتيهما مزاياهما التصديرية، مما فاقم اختلالات الميزان التجاري.
كما ترددت دول أخرى في السماح لعملاتها بالارتفاع بشكل طبيعي مقابل الدولار، خوفًا من عواقب وخيمة على اقتصاداتها المعتمدة على التصدير. وهو ما زاد من تفاقم الأمور أكثر.
أدى هذا الوضع إلى توترات سياسية داخلية في الولايات المتحدة، حيث ضغطت القوى الصناعية والنقابات العمالية الأمريكية على الحكومة لاتخاذ إجراءات تصحيحية ضد ما اعتبرته ممارسات تجارية غير عادلة. وتم تكثيف الضغوط على صناع القرار الأمريكيين من قبل المصنعين المحليين.
لعبت الولايات المتحدة الدور المركزي في اتفاقية بلازا عام 1985، مدفوعةً بمخاوفها بشأن عجزها التجاري المتنامي وتأثير قوة الدولار الأمريكي على القدرة التنافسية التجارية. وكان لجيمس بيكر، وزير الخزانة الأمريكي آنذاك، دورٌ محوري في تنسيق الاتفاق، داعيًا إلى نهج تعاوني لخفض قيمة العملة. وكانت اليابان، ممثلةً بوزير ماليتها، نوبورو تاكيشيتا، مشاركًا أساسيًا آخر، في ظل مواجهتها ضغوطًا متزايدة من شركائها التجاريين لمعالجة فائضها التجاري المتنامي.
في يونيو من عام 1985، كان وزير الخزانة جيمس بيكر ووزير المالية الياباني في ذلك الوقت نوبورو تاكيشيتا يناقشان العلاقة بين الدولار والين واتفقا على الحاجة إلى القيام بشيء ما بشأن سعر الصرف. كانت السلطات النقدية اليابانية تخشى من ارتفاع قيمة الين بسبب الضرر المحتمل الذي قد يلحق بالصناعات التصديرية، والتي كانت تشكل العمود الفقري للاقتصاد، لكنها لم تكن تملك الأدوات الكافية لمواجهة رغبات الولايات المتحدة.
كما سعت ألمانيا، بقيادة وزير المالية غيرهارد ستولتنبرغ، إلى الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي في أوروبا، مع الاستجابة للدعوات الدولية لتحقيق فائض تجاري أكثر توازناً. كما لعبت فرنسا، بقيادة وزير المالية بيير بيريغوفوي، والمملكة المتحدة، برئاسة نايجل لوسون وزيراً للخزانة، أدواراً مهمة، حيث وازنت كل منهما بين مصالحها الاقتصادية المحلية والضغوط القصوى التي مارستها الولايات المتحدة. وقد أدى هذا في نهاية المطاف إلى الخروج باتفاقية بلازا.
ويمكن إجمال أسباب الاتفاقية في نقاط ثلاث:
· تراجع تنافسية الصادرات الأمريكية بسبب غلاء الدولار.
· تفاقم العجز التجاري الأمريكي.
· ضغط كبير على اقتصادات حلفاء أمريكا الصناعيين، الذين واجهوا ركودًا بسبب فائض الدولار وانخفاض صادراتهم.
أهداف الاتفاقية وشروطها:
كانت اتفاقية بلازا لعام ١٩٨٥ اتفاقية محورية، توصلت إليها خمس دول صناعية كبرى - وهي الولايات المتحدة واليابان وألمانيا الغربية وفرنسا والمملكة المتحدة - بهدف إعادة تنظيم عملاتها لمعالجة اختلالات التجارة ومنع المزيد من السياسات الحمائية. وكان الهدف الرئيسي من الاتفاق هو خفض قيمة الدولار الأمريكي مقابل الين الياباني والمارك الألماني.
في ذلك الوقت، كان الدولار الأمريكي القوي يجعل الصادرات الأمريكية أكثر تكلفة لذا فقد التزمت كل دولة عضو في الاتفاقية ببيع الدولار الأمريكي وشراء عملاتها الخاصة بطريقة منسقة، بهدف التأثير على أسعار الصرف بشكل فعال. وخفض سعر الدولار
من خلال الاتفاق على تنسيق التدخل في أسواق الصرف، نجحت دول مجموعة الخمس في خفض قيمة الدولار الأمريكي، لم تكن شروط الاتفاق ملزمة قانونا، بل اعتمدت بدلا من ذلك على التفاهم والثقة بين البلدان؛ ومع ذلك، ساعدت تدخلاتها المشتركة وتعديلاتها في السياسات النقدية في تحقيق خفض ناجح لقيمة الدولار بنحو 51% مقابل الين و38% مقابل المارك الألماني على مدى العامين التاليين.
كانت أهداف اتفاقية بلازا
1. خفض سعر صرف الدولار مقابل الين الياباني والمارك الألماني.
2. إعادة التوازن التجاري بين الدول المشاركة.
3. دعم الاقتصاد الأمريكي عبر تعزيز الصادرات.
4. تجنب سياسات حمائية كانت مهددة بسبب تزايد العجز التجاري الأمريكي.
تأثير الاتفاقية على الاقتصاديات العالمية
كان لاتفاقية بلازا، المُوقّعة عام ١٩٨٥، تأثيرٌ كبيرٌ على الأسواق المالية العالمية، إذ أطلقت عملية إعادة تنظيم جذرية للعملات الرئيسية. وكان الهدف من هذه الاتفاقية، التي توصلت إليها الاقتصادات الرائدة في العالم - وعلى رأسها الولايات المتحدة واليابان وألمانيا الغربية وفرنسا والمملكة المتحدة - معالجة المبالغة في قيمة الدولار الأمريكي. وكانت نتيجتها المباشرة انخفاضًا متعمدًا وكبيرًا في قيمة الدولار مقابل العملات الرئيسية الأخرى.
لكن الانخفاض السريع في قيمة الدولار أدى إلى زيادة التقلبات في أسواق الصرف الأجنبي العالمية، حيث واجه المتداولون والمستثمرون صعوبة في التكيف مع المشهد النقدي الجديد. وأثارت التحولات المفاجئة في تقييمات العملات حالة من عدم اليقين، مما دفع إلى إعادة تقييم سريعة لديناميكيات التجارة الدولية وتدفقات رأس المال المالي. وشهدت الأسهم والسندات، اضطرابات، حيث أثرت هذه التغييرات على أرباح الشركات وقدرتها التنافسية الدولية. مما يعزز من اقتصاد الولايات المتحدة.
كان التأثير مدمراً للثقة في الأسواق المالية العالمية والأنماط الراسخة للتدفقات النقدية ورأس المال. لكن كل هذا لم يكن مهما بالنسبة لصناعي السياسيات الاقتصادية في الإدارة الأمريكية.
فقد واجهت الصناعات الموجهة نحو التصدير في الدول ذات العملات المرتفعة، مثل اليابان وألمانيا، تحديات فورية مع ارتفاع أسعار سلعها في السوق العالمية. في المقابل، شهدت الولايات المتحدة ارتفاعًا في تنافسية صادراتها، مما خفف في نهاية المطاف بعض الاختلالات التجارية التي عجّلت بالاتفاقية.
تأثيره الاتفاقية المباشر على اليابان:
بعد الاتفاق، ارتفعت قيمة الين الياباني بشكل كبير وسريع مقابل الدولار. بين عامي 1985 و1987، ارتفع الين من نحو 240 ينًا للدولار إلى أقل من 120 ينًا للدولار. هذا الارتفاع المفاجئ أضر بصادرات اليابان، والتي كانت المحرك الرئيسي لنموها الاقتصادي.
لمواجهة تراجع الصادرات وتباطؤ النمو، قامت بنك اليابان بخفض أسعار الفائدة إلى مستويات منخفضة جداً. وتبنت الحكومة اليابانية سياسة تحفيز اقتصادي قوي، ما شجع الاقتراض والاستثمار. أدى ذلك إلى تضخم في أسعار الأصول، خاصة في سوق العقارات والأسهم.
في أواخر الثمانينات، وصلت أسعار العقارات والأسهم في اليابان إلى مستويا 3. فقاعة الأصول وانفجارها (بداية "العقد الضائع") في أواخر الثمانينات، وصلت أسعار العقارات والأسهم في اليابان إلى مستويات غير واقعية. في عام 1990، انفجرت الفقاعة الاقتصادية، ما تسبب في:
· انهيار سوق الأسهم.
· انهيار سوق العقارات.
· ركود اقتصادي طويل الأمد.
دخلت اليابان في ما يُعرف بـ*"العقد الضائع" (Lost Decade)، وهي فترة امتدت طوال التسعينات تميزت بضعف النمو والانكماش المالي.
تأثيره الاتفاقية المباشر على ألمانيا:
كان لاتفاق بلازا تأثير مهم على ألمانيا الغربية (حينها) رغم أنه لم يكن بنفس حدة التأثير على اليابان:
بعد الاتفاق، ارتفع المارك الألماني بشكل ملحوظ مقابل الدولار. هذا الارتفاع جعل المنتجات الألمانية أغلى ثمناً في الأسواق العالمية، مما أثر سلباً على صادراتها. لكن الاقتصاد الألماني كان يعتمد بدرجة أقل على التصدير مقارنةً باليابان، لذا كان التأثير أقل حدة.
ألمانيا كانت تعاني من مخاوف تضخمية في أوائل الثمانينات. ارتفاع المارك ساعد على: خفض تكلفة الواردات. تحقيق استقرار في الأسعار. هذا مكّن البنك المركزي الألماني (Bundesbank) من الحفاظ على سياسة نقدية صارمة تركز على استقرار الأسعار.
ارتفاع المارك ساهم في ترسيخ قوته كعملة مرجعية في أوروبا. وأصبح المارك أساساً للعديد من سياسات سعر الصرف الأوروبي (مثل آلية سعر الصرف الأوروبي – ERM)، وكان خطوة تمهيدية نحو إنشاء اليورو لاحقاً.
لتقليل الاعتماد على التصدير، بدأت ألمانيا في التركيز على الابتكار، التكنولوجيا، والجودة العالية في منتجاتها. هذا ساعدها على الاحتفاظ بمكانة قوية في السوق رغم ارتفاع العملة.
أما فرنسا فواجهت بعض الصعوبات نتيجة تغيرات سعر الصرف، لكنها التزمت بالاتفاق في إطار السياسة الأوروبية المشتركة.
ورغم تلك الآثار على الاقتصاد العالمي واقتصاديات الدول الصناعية المصدرة لم تردد الولايات المتحدة في الضغط على أهم حلفائها: اليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، للإقرار بهكذا اتفاقية، إلا أن ترامب هذه المرة رأى أن يوفر تكلفة المفاوضات والاستضافات، وأوقات الحوارات والنقاشات ومراعاة جزء ولو ضئيل من مصالح الحلفاء ليصدم العالم بقراراته المنفردة متبع سنن من قال: أنا ربكم الأعلى. فيصيرهم إلى ما صار.