• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
السلطة تتهم

ياسر عرفات



كيف يمكن أن تتصرف حكومة وطنية في بلد ما،  تعرض رئيسها لعملية اغتيال، عندما تصل إلى قناعة تامة بأن دولة ما هي التي تقف وراء الاغتيال؟.  إن الرد الأولي والطبيعي يتمثل في قطع العلاقات مع هذه الدولة،  والسعي الحثيث لتفعيل مواد القانون الدولي ومؤسسات العدالة الدولية لملاحقة الدولة المتهمة، وصولاً إلى تشكيل لجنة دولية للتحقيق، بحيث لا يحدث أي تغيير على طابع العلاقة بين الجانبين قبل أن تصدر لجنة التحقيق قراراتها. هذا في الأوضاع الطبيعية، لكن الأمر لا يبدو طبيعياً عندما يتعلق الأمر بالسلطة الفلسطينية. فقد اتهمت السلطة على لسان توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة " فتح ""إسرائيل" بالمسؤولية المباشرة عن اغتيال الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وذلك في أعقاب نتائج التحقيقات المخبرية التي أشرفت عليها قناة " الجزيرة ". مع العلم إن الأمر لا يحتاج أصلاً إلى تحقيقات الجزيرة لكي يتسنى الجزم بأن عرفات قد بشكل غير طبيعي. فقد ذهب الصحافي الإسرائيلي أوري دان، أوثق أصدقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون عندما كشف مقابلة أجرتها معه صحيفة " لوموند " قبيل وفاته بشهر، حيث كان يعاني مرض السرطان، إن"إسرائيل" هي التي " تخلصت من عرفات بطريقتها الخاصة ".

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: إن كانت السلطة الفلسطينية ترى في"إسرائيل" المتهم الوحيد باغتيال عرفات، فما الخطوات التي يتوجب أن تترتب عن هذا الاتهام؟.

المؤسف والمحزن، إن السلطة الفلسطينية التي لم تقدم جديداً باتهام"إسرائيل" بالمسؤولية عن اغتيال عرفات، قد اختارت تحديداً أن تكافئ"إسرائيل" على جريمتها هذه بشكل جعل اتهامها لها مدعاة للسخرية في وسائل الإعلام الصهيونية، في حين أن النخبة الصهيونية الحاكمة لم تتعاطى مطلقاً بأي قدر من الجدية مع هذا الاتهام، في مؤشر واضح على إدراكها إن السلطة الفلسطينية تتهمها بفعل الحرج الشديد الذي وقعت فيه، بعدما تبين إنها سوفت في إجراء تحقيقات في وفاة عرفات، مع كل ما توفر من شواهد على تورط"إسرائيل".

ومما يفاقم الأسف أن وزير الخارجية الصهيوني أفيغدور ليبرمان علق على اتهام السلطة بالقول إن السلطة لا يمكنها اتهام"إسرائيل" بمثل هذه التهم و" هي التي شجعت"إسرائيل" على شن حرب 2008 ضد حركة حماس ".

لقد أقدمت السلطة على عدة خطوات تدلل على أنها في الواقع تكافئ"إسرائيل" على جريمتها ضد عرفات وضد غيرها من أبناء الشعب الفلسطيني الذين قتلوا في عمليات الاغتيال وخلال الحملات العسكرية والاعتداءات التي شنها جيش الاحتلال، بل إن السلطة في الواقع تقدم مغريات لإسرائيل لمواصلة هذه الجرائم. ونحن هنا، بصدد التعرض لعدد من الإغراءات التي تقدمها السلطة لإسرائيل لتشجيعها على مواصلة نهج الاغتيالات والعدوان.

الالتزام بعدم ملاحقة الصهاينة دولياً

لقد منح قبول " فلسطين " كدولة " مراقب " في الأمم المتحدة قيادة السلطة الحق في طلب الانضمام للمحافل الدولية، سيما محكمة جرائم الحرب الدولية، وبالتالي الحق في تقديم دعاوى ضد الكيان الصهيوني بسبب الجرائم التي يرتكبها ضد الشعب الفلسطيني. إن إحدى الوسائل التي كان بالإمكان توظيفها في ملاحقة الصهاينة هو رفع دعاوى ضد ""إسرائيل" "، ليس فقط على خلفية المجازر التي ارتكبت خلال حربي 2008 و2002، بل أيضاً على خلفية مشاريع الاستيطان التي تهدد بتهويد الأراضي الفلسطينية، مع العلم إن محكمة الجنايات الدولية اعتبرت الاستيطان اليهودي في الأراضي التي احتلت عام 1967 جريمة حرب، بكل ما تعني الكلمة. ومن نافلة القول، إنه كان بإمكان السلطة طلب إجراء تحقيق دولي في اغتيال عرفات. لكن ما حدث، إن السلطة التزمت أمام الإدارة الأمريكية وإسرائيل بعدم استغلال حقها في رفع دعاوى في المحاكم الدولية ضد"إسرائيل" كجزء من صفقة تسمح بعودتها لطاولة المفاوضات. وقد كانت النتيجة أن"إسرائيل" قتلت واغتالت 18 فلسطينياً منذ أن استأنفت المفاوضات مع السلطة قبل ثلاثة أشهر، دون أن تقدم السلطة على أي فعل. ليس هذا فحسب، بل إن جميع المتحدثين باسم الحكومة الصهيونية يعلنون صباح مساء إنهم بصدد توظيف مزيد من القوة ضد المدنيين الفلسطينيين العزل. ومن المفارقة إن تواطؤ السلطة لم يغري الكيان الصهيوني فقط بتكثيف العدوان، بل إن قطعان المستوطنين الصهاينة باتوا يكثفون اعتداءاتهم ضد المدنيين الفلسطينية، وضمن ذلك في المدن التي تحافظ فيها السلطة على وجود أمني، مثل مدينتي الخليل ونابلس.

تكثيف التعاون الأمني

مما يثير الأسى، إن السلطة لم تكتف فقط بعدم الدفاع عن المواطنين الفلسطينيين، بل إنها أصبحت تطارد كل فلسطيني تثور شبهاب حول دوره في استهداف هؤلاء المستوطنين. فمؤخراً قتل إثنان من جنود الاحتلال في الخليل وقلقيلية وإصابة إحدى المستوطنات بالقرب من رام الله، فما كان من الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية إلا إن قامت بحملة اعتقالات واسعة النطاق في صفوف قادة وعناصر حركتي حماس والجهاد الإسلامي. وعلى الرغم من إنه لم يثبت أية صلة بين هذين التنظيمين  وهذه الحوادث، إلا إن السلطة الفلسطينية وبناء على إملاءات ""إسرائيل" " شنت هذه الحملة  خشية إن يكون قد تشكل تنظيم مقاوم جديد في الضفة الغربية. يمكن القول إن السلطة التي تدفع ضريبة كلامية فقط في اتهامها لإسرائيل بالمسؤولية عن دم عرفات تقيم في الواقع شراكة إستراتيجية في الحرب التي تشنها على حركات المقاومة في الضفة الغربية، والمتمثلة في التعاون الاستخباري والتنسيق الأمني. والنتيجة كانت أن دور أجهزة حكومة رام الله الأمنية أصبح حاسماً، ليس فقط في تجفيف منابع المقاومة الفلسطينية، بل أيضاً أسهم بشكل كبير في  تعزيز مستويات الشعور بالأمن الشخصي والجماعي لدى المستوطنين في الضفة الغربية والقدس، وهو ما أقنع بالتالي جماعات جديدة من اليهود بالقدوم للاستيطان في الضفة الغربية. ويكفي هنا الإشارة فقط إلى الاستنتاج الذي انتهى إليه التحقيق الواسع الذي نشره الصحافي الإسرائيلي يهوشوع برينر، في موقع " وللا " الإخباري في 20-9-2013، بأن تعاون السلطة الفلسطينية الأمني في"إسرائيل" قد حول المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية إلى " جنة عدن " لكثير من اليهود، وشجعهم على استغلال الفرص الكبيرة المتاحة لهم هناك. وحسب برينر، فإن الدافعية للاستيطان في أرجاء الضفة الغربية قد تعاظمت خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بسبب الجهود الحاسمة التي بذلتها الأجهزة الأمنية التابعة لسلطة رام الله في القضاء بشكل شبه مبرم على بنى المقاومة في الضفة الغربية؛ وهذا ما قلص مستويات الخوف لدى الإسرائيليين من الإقامة في الضفة الغربية.  لقد أسهمت السلطة عبر استهداف حركات المقاومة في تحسين البيئة الاقتصادية للمستوطنات في الضفة الغربية، بحيث إن تحسين هذه البيئة جعلها بيئة مناسبة لإقامة المشاريع الصناعية. فبفضل تحسن البيئة الأمنية تحول المجمع الصناعي " بركان "، القريب من مستوطنة " أرئيل "، شمال غرب الضفة الغربية إلى واحد من أهم التجمعات الصناعية في"إسرائيل"، وتوسعت مجالاته، حيث إن المزيد من المستثمرين اليهود باتوا يتجهون لتدشين مصانع في المنطقة؛ مع العلم إن هذا التجمع قد أصابه الشلل أثناء اندلاع انتفاضة الأقصى. وفي الوقت ذاته كان لللتعاون الأمني مع الكيان الصهيوني الذي يصر عليه عباس دور حاسم في تحويل المستوطنات في الضفة الغربية إلى مركز السياحة الداخلية بالنسبة للصهاينة. فبعد أن كان الصهيوني الذي يبحث عن الاستجمام يدفع آلاف الدولارات في رحلة سياحية للخارج، فإنه أصبح يتجه لمستوطنات الضفة الغربية بغرض السياحة، مما أسفر عن تعزيز اقتصاديات المستوطنات. ويكفي إن نشير هنا إلى ما جاء في التحقيق الذي نشره موقع " وللا " الإسرائيلي بتاريخ 20-9-2013، والذي شدد على الدور الذي تلعبه السلطة الفلسطينية في تحسين البيئة الأمنية في المستوطنات بشكل أدى إلى تحسين البيئة الاقتصادية للمستوطنات.

المسؤولية عن تعزيز الثقل الديموغرافي للمستوطنين

لقد قام المشروع الصهيوني على ركيزتين أساسيتين، أحدهما المهاجرون اليهود والثاني الأرض التي يتم احتلال من الفلسطينيين العرب. وعلى الرغم من إن"إسرائيل" تحتل الضفة الغربية منذ العام 1967، إلا إن قطاعات كبيرة من الصهاينة رفضت القدوم للاستيطان في الضفة الغربية، بحيث اقتصر الحماس للاستيطان على أتباع التيار الديني الصهيوني. فعلى سبيل المثال رفض العلمانيون القدوم للاستيطان لإنهم لم يكونوا مستعدين لتحمل المخاطر الأمنية الناجمة عن عمليات المقاومة الفلسطينية. لكن تحسن الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية وتقليص المخاطر الناجمة عن العمليات التي تنفذها حركات المقاومة ضد مستوطنات الضفة الغربية، عبر شن حملات أمنية تشارك فيها الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة وإسرائيل ضد البنى التنظيمية لحركات المقاومة، قد أسهم في إقناع قطاعات من العلمانيين اليهود للانتقال للإقامة في الضفة الغربية لاستغلال المزايا الاقتصادية الهائلة التي تقدمها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة للمستوطنين. فعلى سبيل المثال دللت معطيات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي على إن الأزواج اليهودية الشابة التي تقطن في المناطق التي تعاني ضائقة اقتصادية داخل "إسرائيل"، سيما مدن التطوير والأحياء الشعبية في المدن الكبرى  باتت تتجه للاستقرار في مستوطنات الضفة الغربية بسبب مزاياها الاقتصادية، والمتمثلة في قروض السكن الميسرة جداً، والتخفيضات الضرائبية، وفرص العمل، وجودة التعليم، والعلاوات في الأجور...وغيرها من مزايا. لقد كانت هذه المزايا قائمة طوال الوقت، لكن الجديد هو تحسن البيئة الأمنية في أرجاء الضفة الغربية بفعل جهود السلطة الفلسطينية، وهذا ما جعل العلمانيين يتوجهون للإقامة في مستوطنات في عمق الضفة الغربية، بل وفي مستوطنات نائية. أي أن سلوك السلطة التآمري يسمح في الواقع باستكمال شروط الهيمنة الصهيونية على الضفة الغربية، عبر السيطرة على الأرض وفي الوقت ذاته تعزيز ثقل المستوطنين الديموغرافي.

إسدال الستار على المصالحة

من اللافت أن اتهام السلطة "لإسرائيل" بالمسؤولية عن اغتيال عرفات قد تزامن مع إعلان عباس بشكل لا لبس فيه أن المصالحة مع حركة حماس لا يمكن أن تتم قبل أن تظهر نتائج المفاوضات مع"إسرائيل"، وكأن نتائج هذه المفاوضات لم تظهر بعد. أي أنه في الوقت الذي تستبيح فيه"إسرائيل" الضفة الغربية وتوغل في القتل والعدوان، فإن عباس يستجيب لإملاءاتها بعدم انهاء حالة الانقسام القائم حالياً، والذي يهدد القضية الفلسطينية برمتها. إن عباس تجاهل حقيقة أن تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني قد أثبت إن النخب الصهيونية الحاكمة لا تبادر إلى تبني الحلول السياسية عندما يكون هناك استقرار أمني. فمنذ العام 1967 وحتى اندلاع الانتفاضة الأولى أواخر عام 1987 كانت"إسرائيل" تستخف بكل المبادرات الداعية لحل الصراع مع الفلسطينيين؛ وفقط بعد اندلاع الانتفاضة وتكبد المجتمع الصهيوني أثمان باهظة، تعاظمت الدعوات داخل"إسرائيل" لحل الصراع سلمياً. وهذا ما يحدث الآن، حيث إنه بفضل الهدوء الأمني توقفت عمليات المقاومة بشكل شبه تام بفضل تعاون السلطة الفلسطينية في تعقب قادتها وعناصرها، وهذا ما أسهم في إضفاء مزيد من التطرف على مواقف الحكومة الإسرائيلية. وقد وجد هذا التطرف تعبيره الأوضح في  خطاب رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتيناهو مؤخراً في جامعة " بار إيلان "، والذي يعتبر أكثر الخطابات يمينية وتطرفاً التي يلقيها منذ أن بدأ حياته السياسية. لقد أنذر نتنياهو السلطة بإن الاعتراف بيهودية"إسرائيل" هو شرط لانجاز أي تسوية، مع العلم إن قبول الفلسطينيين بذلك يعني تنازلهم المسبق عن حق العودة. وإلى جانب ذلك، فإن نتنياهو يطالب السلطة بالموافقة على كل الترتيبات التي ترى"إسرائيل" إنها تحقق أمنها.

قصارى القول، قيادة السلطة الفلسطينية تتهم ""إسرائيل" " بدم عرفات، لكنها في الوقت ذاته تعزز الشراكة الإستراتيجية معها في مواجهة المقاومة.

فهل من حياء!!!


:: موقع مجلة البيان الالكتروني

 

أعلى