الدولة الصفوية في إيران.. التاريخ والمنهاج
ليس من قبيل المبالغة القول إن قيام الدولة
الصفوية في إيران شكّل كارثة لإيران والعالم الإسلامي معاً، إذ ظلت إيران قرابة
تسعة قرون تتبع مذهب أهل السنة والجماعة، فكانت الصبغة السنية واضحة في جميع ألوان
النشاط البشري لأهلها، وهو ما مكّن هذا القُطر من المساهمة في بناء صرح الحضارة
الإسلامية بواسطة علمائها، أمثال: البخاري، ومسلم، وسيبويه، والفراهيدي،
والبيروني، وغيرهم.
لكن بقيام الدولة الصفوية في إيران؛ تغيّر
مسار النشاط البشري فيها تغيُّراً جذرياً في جميع مجالات الحياة: العقدية،
والفكرية، والفنية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ووُجّه الإيرانيون إلى
وجهة مغايرة تتسم بالعداء الصارم لكل ما له صلة بأهل السنة.
فقد كان قيام هذه الدولة مقترِناً بالقضاء
على مذهب أهل السنة في إيران، كما تزامن مع ارتكاب مذابح ومظالم بحقهم، والتضييق
عليهم في أغلب عهود الحكم الصفوي.
كما أن التعصب المذهبي أوقع الصفويين في
محذور عقدي؛ وهو التحالف مع الدول النصرانية في أوروبا؛ أملاً في إضعاف الدولة
العثمانية السنية التي كانت تقود الجهاد ضد الصليبيين؛ رافعةً راية الإسلام،
فاتحةً القسطنطينية، غازيةً في أوروبا، مما أضعف الفتوحات الإسلامية في هذه الجهة
وأعاقها.
وفي المقابل، رحب الصفويون بإقامة النصارى
في بلادهم وعاملوهم بكل احترام وتقدير، ووثّقوا صِلاتهم الاقتصادية بالدول
النصرانية في أوروبا، وسمحوا للتجار الأجانب بِحُرية الحركة في المدن الإيرانية،
ومنحوهم الامتيازات التجارية، مما شجع على ازدياد النفوذ الأوروبي في منطقة
الخليج، حيث مهّدوا له الطريق بعقد التحالفات العسكرية والتجارية مع البرتغاليين و
الهولنديين و الإنجليز، فكان عهدهم بامتياز هو عهد إدخال قوى الاستعمار الأوروبي
في هذه المنطقة.
وهكذا نلاحظ موقف الرافضة في إيران من
السنّة في هذا البلد أو في البلاد العثمانية، على أنهم أشد خطراً عليهم من أي عدو
آخر، فنكّلوا بأهل السنّة في إيران، وجاهروا العثمانيين بالعداء، بينما أظهروا
الود والموالاة للدول الأوروبية النصرانية والنصارى المقيمين في إيران. وقامت
السياسة الصفوية على هذا الأساس طوال مدة حكمهم التي استمرت أكثر من قرنين من
الزمان من سنة 907 هـ (1507م) إلى 1148هـ (1735م).
المعاملة السيئة
لأهل السنة:
بعد دخول إسماعيل الصفوي مدينة تبريز؛ أصر
على أن كل من يخالف التشيع ويرفضه؛ فإن مصيره القتل؛ حتى ذُكِر له أن عدد سكان
تبريز السُّنة لا تقل نسبتهم عن الثلثين (65%) [1]؛ فقال: إن من يقول حرفاً واحداً؛ فإنه
سيسحب سيفه ولن يترُك أحداً يعيش. وقد روي أن عددَ مَنْ قُتِلوا في مذبحة تبريز
أكثر من عشرين ألف شخص، ومورس ضد السكان السنَّة أبشع أنواع القتل والتنكيل، حيث
قُطِّعت أوصال الرجال والنساء والأطفال ومُثِّل بالجثث [2].
وبعد هزيمته للأوزبك في محمود آباد - وهي
قرية تبعد قليلاً عن مرو - سنة 916هـ /1510م؛ أعمل إسماعيل الصفوي القتلَ في أهل
مرو، وأمضى فصل الشتاء في هراة، وأعلن فيها المذهب الرافضي مذهباً رسمياً، على
الرغم من أن أهالي هذه المناطق كانت تدين بالمذهب السني. كما سعى تعصُّباً إلى
إنشاء عدد من المدارس لتدريس مذهبه ونشره بين الناس [3].
وكان الشاه عباس الأول أيضاً شديدَ الحرص
على نصرة المذهب الرافضي، مما دفعه للبطش بالمخالفين وإلحاق الأذى والضرر بهم،
وبخاصة أهل السنة.
وكان عباس هذا ينتقم من أهل السنة متى واتته
الفرصة لذلك. وقد وصل العداء به إلى درجة أنه حاول إقناع الإيرانيين بالتخلي عن
الذهاب إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، والاكتفاء بزيارة قبر الإمام الثامن علي
بن موسى الرضا في مشهد؛ وذلك لأن الواجب القومي - في زعمه - يحتِّم عدم سفر
الإيرانيين إلى مكة عبر أراضي العثمانيين السنة؛ حتى لا يدفعوا لهذه الدولة
المعادية رسمَ عبور [4].
ويعلِّل رولان موسينيه هذا التصرف بالحيلولة
دون خروج الذهب من البلاد [5]. ولكي يرغِّب قومه في هذه الفكرة؛ كان عباس
الأول يكثر من التردد على مشهد وزيارة قبر الإمام الثامن بها. كما أن سيْرَه على
الأقدام من أصفهان إلى مشهد كان وسيلة من وسائل ترغيبهم في تقليده والحج إلى ذلك
المزار القبوري، بدلاً من التوجه إلى الكعبة المشرفة في مكة [6]. ولذلك
اعتاد الفرس أن يحجوا إلى مشهد بدلاً من الحج إلى مكة المكرمة [7].
وكانت المعاملة السيئة التي عامل بها
الأكرادَ الإيرانيين مرجعُها بالدرجة الأولى إلى تبعية هؤلاء الأكراد للمذهب
السني، وعدم قبولهم الدخول في مذهب الرافضة، مما جعلهم هدفاً لغضبه وحقده، ووصل
الأمر في تعنّته معهم إلى درجة التشريد في البلاد، ونقلَ عدداً كبيراً منهم من
كردستان إلى خراسان، وسبّب لهم ألماً نفسياً وإحساساً بالظلم والغربة والتشرد [8].
وكان الشاه عباس الأول قاسي القلب، خشناً مع
الأسرى السنَّة من العثمانيين والأوزبك. وكان أقل عقاب يوقع عليهم إن لم يُقتلوا
هو سَمْل عيونهم. ولم يكن يصفح عن أي أسير منهم إلا إذا أعلن تخلّيه عن المذهب
السني ودخوله في المذهب الرافضي [9].
وقد نقل جلال الدين محمد اليزيدي (المنجِّم
الخاص) للشاه عباس في كتابه « تاريخ عباسي » العديدَ من مظاهر تعنته مع أهل السنة،
منها:
- أنه نزل في عام 1008هـ (1599م) ببلدة
سمنان؛ وبسبب تطاول حاكمها عليه وعدم امتثال أهلها لقوانينه؛ اعتُقِل عدد كبير من
أهل السنة بها، وأمر عباس بإطعام عوامهم بآذان علمائهم وأنوفهم، ثم حصّل 300 تومان
منهم تكفيراً لجرمهم! [10]
- وفي عام 1018هـ (1609م)، بلغه أن حاكم
مدينة همذان - ويدعى ( محمود الدباغ) وهو سني المذهب - كان يؤذي الشيعة هناك، فأمر
بإلقاء القبض عليه والفتك به، ولكن محموداً اختفى، فأصدر الشاه أمراً مؤداه: إذا
لم يظهر محمود الدباغ في ظرف ثلاثة أيام، فسيُقتل كل أفراد القبائل السنية في
المدينة، ويُستولى على أموالهم ونسائهم وأطفالهم، وأخيراً ألقي القبض على الدباغ
وأُعدِم [11].
- وفي عام 1020 هـ (1611م)، زار عباس قبر
الشيخ زاهد الجيلاني مرشد جده صفي الدين الأردبيلي، وتصدق بأموال طائلة، وأمر أن
توزع على خدام القبر وزواره؛ بشرط ألا يقدَّم منها شيء لأي سني، كما قام بلعنهم [12].
وعلى العموم، فإن الصفويين الذين أقاموا
دولة فارسية رافضية متعصبة في إيران؛ حاربوا أهل السنة الذين كانوا أكثرية في
البلاد بكل الوسائل المتاحة لهم.
تشجيع رعايا
الدول النصرانية في أوروبا على القدوم إلى إيران واحترامهم وإكرامهم:
بدأ هذا التشجيع منذ عهد إسماعيل الأول،
وبلغ أَوْجَه في عهد الشاه عباس الأول.
ففي رسالة بعثها البوكيرك - الحاكم
البرتغالي في الهند - إلى الشاه إسماعيل الأول جاء فيها: « إني أقدّر لك احترامك
للنصرانيين في بلادك، وأعرض عليك الأسطول والجند والأسلحة لاستخدامها ضد قلاع
الترك في الهند. وإذا أردت أن تنقضَّ على بلاد العرب أو تهاجم مكة؛ فستجدني بجانبك
في البحر الأحمر أمام جدة أو في عدن أو في البحرين أو القطيف أو البصرة، وسيجدني
الشاه بجانبه على امتداد الساحل الفارسي، وسأنفذ له كل ما يريد »! [13].
كما أن الصفويين في شخص عباس الأول شجّعوا
لأول مرة بناءَ الكنائس، وأطلقوا العنان للمنصّرين والقسس ليفسدوا في بلاد
المسلمين وليرفعوا رايات الشرك والضلال.
وقد تساهل شاه عباس الأول تساهلاً لم يُسبق
له نظير مع النصارى، وأصدر مرسوماً إلى رعاياه يؤكد فيه أنهم أصدقاؤه وحلفاء
بلاده، وأنه يأمرهم باحترامهم وتبجيلهم وإكرامهم أين حلوا. كما فتح بلاده للتجار
الإفرنج، وأوصى ألا تؤخذ الرسوم على بضائعهم، وألا يتعرض لهم أحد من الحكام أو
الأهالي بسوء. وقد اشتهر هذا السلطان بحسن معاملته للنصرانيين من كافة الأجناس [14].
ويرى شاهين مكاريوس أنه أول من فعل مثل ذلك
من سلاطين المسلمين في بلاد إيران [15].
وقد أرسل ملوك أوروبا رسلَهم وتجارهم لزيارة
إيران وعقد معاهدات سياسية وصفقات تجارية مع الشاه عباس الأول؛ لتوفير كل متطلبات
الأمن والراحة لهؤلاء الأوروبيين [16].
وفي عهد هذا الشاه، جاء اثنان من أكابر
الإنجليز إلى إيران، وهما: أنتوني شرلي (SheRly) وأخوه روبرت شرلي، ومعهما خمسون فارساً، فأمر عباس
باستقبالهم وإكرامهم، وقرّبهم منه وأجزل لهم العطايا. فحين وصلت هذه البعثة
الإنجليزية إلى قزوين والشاه عباس موجود في خراسان؛ أصدر أوامره إلى عماله في
قزوين بأن يحسنوا وِفادتهم، ويبالغوا في إكرامهم حتى يعود إلى قزوين، فوجد حين عاد
جميع أعضاء البعثة يقفون على مشارف المدينة مع مستقبليه من كبار رجال الدولة
الصفوية، فصافحهم وصحبهم إلى داخل قزوين، وأَنعم عليهم بإنعامات كثيرة، منها: مائة
وأربعون من الخيل، ومائة بغل، ومائة جمل، ومبلغ عظيم من المال، ثم صحب أفراد البعثة
معه إلى العاصمة أصفهان، حيث قضوا في ضيافته ستة أشهر [17].
واستشار كبيرَهم أنتوني شرلي في أمر الحرب
مع العثمانيين، فأشار عليه بتعليم جنوده مبادئ العسكرية، وبالتحالف مع دول أوروبا
ضد السلطنة العثمانية، فرضي الشاه بقوله، وانتدبه سفيراً لينوب عنه أمام حكومات أوروبا
في هذا الأمر، وأصدر (فرماناً) بذلك يدل على ثقته التامة بهذا الرجل الإنجليزي
الذي صار من أعظم المقربين إليه [18].
وفي عهد الشاه عباس الثاني (1642 - 1666م)؛
منح الناسَ حرية الأديان، وتمتع الأوروبيون في أيامه بالحرية وبنعمة السلطان، فكان
تجارهم أدنى مجلساً منه ويروون الأمور عنه [19].
وهكذا نلاحظ في عصر الصفويين علاقات وثيقة
مع الكفار، وانسجاماً وتفاهماً معهم، واحتراماً متبادلاً، ومودة ومحبة! مع العلم
بأن الولاء والبراء أصل من أصول الاعتقاد، وركن من أركان توحيد الألوهية، وعروة من
عُرى الإيمان، مما يعني عدم التساهل فيه على الإطلاق مهما كانت الدوافع؛ فالله -
عز وجل - نهى المسلمين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء: } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم
مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ {(المائدة: 51).
بل جعل - سبحانه وتعالى - اتخاذ الكافرين
أولياءَ وعدمَ البراءة منهم، صفةً من صفات المنافقين، وسبباً في دخول النار وتبوّء
الدرك الأسفل منها: } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ
عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا * إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ
مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا { (النساء:144-145)
توطيد العلاقة
مع الكنيسة الكاثوليكية
في روما والتعاطف الشديد مع نصارى إيران:
ومن الذين اتصل بهم الشاه عباس بابا روما،
وحاول عن طريقه حثّ ملوك أوروبا النصارى على وحدة الكلمة والتعاون مع إيران للقضاء
على الدولة العثمانية، كما اهتم البابا من جانبه بتوطيد علاقاته بالشاه عباس
تدعيماً لموقف النصارى في إيران. وقد أرسل البابا عدة رسائل إلى عباس يوصيه فيها
بحسن معاملة نصارى إيران والسماح لهم ببناء الكنائس وإقامة الطقوس النصرانية.
ومن الرسائل المهمة التي تبين حرص البابا
على تعميق هوة الخلاف بين الشاه عباس الأول والعثمانيين؛ تلك الرسالة التي أرسلها
البابا بولس الخامس مع وفْدٍ وصل إلى إيران ليهنِّئ الشاه عباس بانتصاره على
الأوزبك السُّنّة، ويحرضه على محاربة العثمانيين.
ومن النقط الهامة الواردة في هذه الرسالة ما
يلي:
1 - كم يتمنى البابا إضعافَ الدولة
العثمانية، وكم يأمل في التعاون مع جميع القوى الراغبة في تحقيق هذا الأمل!
وسيجتهد في استنفار جميع الملوك النصارى للاتحاد بينهم؛ كي يقوموا بهجمة مشتركة ضد
الدولة العثمانية من الغرب، في حين يقوم الشاه عباس بهجمة أخرى من الشرق.
2 - يعد البابا بإرسال المهندسين والخبراء
العسكريين للعمل من أجل تقوية جيش إيران.
3 - يرغب البابا في إنشاء سفارة في كلٍّ من
أصفهان وروما؛ للإشراف على توطيد العلاقات بين الطرفين.
4 - يأمل البابا من شاه إيران أن يُحْسِن
معاملة نصارى إيران، وكذلك النصارى الأجانب، وألاّ يعاقب من يعتنق الدين النصراني
(أي المرتدين من المسلمين)، وألاّ يجبر النصارى على التخلي عن دينهم (أي الدخول في
الإسلام) [20].
وهكذا نجحت الكنيسة الكاثوليكية في حمل
الشاه عباس الأول على التعاطف الشديد مع نصارى إيران، وكذلك نصارى أوروبا الذين
كانوا يفِدون إلى إيران، إذ كانت لديه القابلية النفسية لهذا التعاطف. كما جعلوه
يوافق على بناء الكنائس في أصفهان وغيرها من المدن الإيرانية، بل إنه أمر ببناء
كنيسة في جلفا على نفقته الخاصة [21].
كما أنه سمح للبعثات التنصيرية بالقدوم إلى
إيران، ومنحها حرية الحركة والتنصير. وقد أدى هذا إلى ارتداد بعض الإيرانيين عن الإسلام،
ومنهم عدد من مستشاري الشاه عباس، بل إنه أدّى إلى اتهام بعضهم الشاه عباس نفسَه
بالميل إلى النصرانية. كما أدى تعاطفه مع البعثات التنصيرية إلى أن عرض عليه أحد
القساوسة الدخولَ في الدين النصراني، فردّ عليه الشاه قائلاً: لِنترُك هذا إلى وقت
آخر [22]!
وكان الشاه عباس الأول حريصاً على التعاطف
مع النصارى في كل مناسبة، والاشتراك معهم في احتفالاتهم الدينية، ولو أدى ذلك إلى
الإقدام على أفعال تتجافى مع روح العقيدة الإسلامية.
ففي عام 1018هـ (1609م) أرسل إلى بلاد
الكرج؛ لإحضار عدد من الخنازير ليقدِّمها هدية لنصرانيي جلفا في عيدهم، ثم ذهب بعد
ذلك لتهنئتهم بالعيد، وشاركهم احتساءَ الخمر، وأمر جميع مرافقيه من رجال البلاط
الصفوي باحتساء الخمر مشاركةً للنصارى في هذه المناسبة، على الرغم من توافق ذلك
العيد النصراني مع اليوم الخامس عشر من رمضان، ثم قال موجِّهاً حديثَه إلى أحد
قساوستهم: « عندما تذهب إلى روما وتمثُل أمام البابا؛ أخبره كيف شربت الخمر في
نهار رمضان، وأن ذلك في محضر القاضي والمفتي، وكيف جعلت الجميع يشربون الخمر، وقل
له: إنه على الرغم من أنني لست نصرانياً؛ فإنني جدير بالتقدير والاحترام » [23].
وهكذا وقَع الشاه في عدد من المخالفات
العقدية، وهي: تهنئة المشركين بعيدهم، ومشاركتهم في احتفالهم، وشرب المسكر،
وانتهاك حرمة الصيام، والمجاهرة بالفسق، والتبجح بإكراه مرافقيه على ارتكاب
المعصية.
ومن البدهي أن المشابهة في الهَدْيِ الظاهر
تورِث نوعَ مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة
في الظاهر [24].
وقد ورد النهي في الحديث الشريف عن التشبُّه
بالكفار، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: « من تشبّه بقوم فهو منهم » [25]،
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: « اجتنبوا أعداء الله في دينهم » [26].
ومعلوم أن الأعياد من أخص ما تتميز به
الأديان والشرائع، والموافقة فيها للكفار قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه [27].
ومن مظاهر تعاطف الشاه عباس مع النصارى،
حرصُه على زيارة الكنائس ولقاء القساوسة، والتباحث معهم في أمور دينهم، ومشاهدة مراسمهم
الدينية وسماع مواعظهم وترانيمهم، حتى أصبح على دراية بكثير من تعاليم النصرانية [28].
ولأجل ذلك يمكن القول: إن الشاه عباس ارتكب
هذه الأفعال الشنيعة نظراً للمغالاة في تعاطفه مع نصارى إيران، حتى عُدَّ عهده
عصراً ذهبياً بالنسبة إليهم، ولرغبته في إرضاء نصارى أوروبا الذين كان يلهث وراء
التقرب منهم، على أمل أن يساعدوه في حربه ضد العثمانيين السنّة.
ونتيجة لتعاطفه الشديد مع النصارى؛ طلبت منه
الكنيسة الكاثوليكية السماحَ لقساوستها بإعادة النصارى الذين اعتنقوا الإسلام إلى
النصرانية مرةً أخرى، فقبِل الشاه عباس هذا الطلب. ومثال ذلك: ما حدث مع أحد
غلمانه ويدعى (ألكسندر)؛ فقد استطاعت الجماعات التنصيرية إعادته إلى النصرانية بعد
أن كان قد أعلن إسلامه من قبل [29].
فكيف يقبل عباس هذا الطلب، ولم يطالب هو
الآخر ملكَ إسبانيا بإعادة المرتدين الثلاثة الذين كانوا ضمن بعثته الدبلوماسية
إلى أوروبا؟! ولكن ينبغي الإشارة ها هنا إلى أن تعاطف هذا السلطان الصفوي مع
النصارى إلى حد كبير هو العامل المؤثر في ردة بعض رجال بلاطه.
ولم يقف عباس عند حد التعاطف القلبي مع
النصارى والركون إليهم، بل إنه تمنى أن يرى جميع المساجد في البلاد العثمانية قد
تحولت إلى كنائس؛ في المقولة التي وجهها إلى المبعوث الإسباني (أنتوني دي جوفا)
وهو يحضه على محاربة العثمانيين: « كم أتمنى أن أرى في أقصر وقت ممكن جميع مساجد
الأتراك وقد تحولت إلى كنائس! وكل أملي أن أرى سقوط الخلافة العثمانية وخرابها! » [30].
إن أغلى أمنية لديه - كما صرح - أن يرى
الصليبيين الأوروبيين قد غزوا بلاد المسلمين واحتلوها، وانتصروا عليهم، وحوّلوا
مساجدهم إلى كنائس، مما يعني ظهور دين الصليب وأفول نجم الإسلام.
وهذا الموقف يدل دلالة واضحة على مظاهرة
الكافرين ومعاونتهم على المؤمنين، وإظهار المسرة بانخفاض دين الرسول -صلى الله
عليه وسلم-؛ وهذه من أخص صفات المنافقين والمرتدين.
ومن نافلة القول: أن الرافضة عُرفوا - على
مدار التاريخ - بالكيد للسنة وأهلها ومظاهرة الأعداء عليهم، والحزن لظهور أهل
السنة وعلوِّهم، والفرح بانهزامهم وانكسارهم. وقد كشف ابن تيمية عن موقفهم هذا
بقوله: «... فالرافضة يوالون من حارب أهل السنة والجماعة، ويوالون التتار، ويوالون
النصارى. وقد كان بالساحل بين الرافضة وبين الفرنج مهادنة، حتى صارت الرافضة تحمل
إلى قبرص خيلَ المسلمين وسلاحهم، وغلمانَ السلطان وغيرَهم من الجند والصبيان. وإذا
انتصر المسلمون على التتار أقاموا المآتم والحزن، وإذا انتصر التتار على المسلمين
أقاموا الفرح والسرور... » [31].
ولكن على الرغم من سقطاته وزلاته الكبيرة
وأخطائه الفادحة؛ فإن الإيرانيين حتى اليوم يعتبرون الشاه عباس الأول بطلاً قومياً
استطاع أن يرفع من شأن وطنه ويجسد آمال الإيرانيين ويحقق أهدافهم، وبخاصة الانتصار
على أعدى أعدائهم؛ العثمانيين السنة.
أليس من الإنصاف إذاً الإطلاق على
الإيرانيين المعاصرين أنهم الصفويون الجدد؟ ذلك أن الأفكار والمواقف التي كانت
تهيمن على السابقين؛ هي نفسها التي توجه الحاضرين!
فالتشيع ليس إلا واجهة لتحقيق أهدافهم
القومية المرتكزة على العنصر الفارسي؛ وإلا فكيف نفسر حرمان الشيعة الأذريين في
إيران من حقوقهم الثقافية والسياسية ودعم النظام الإيراني للأرمن النصارى المحتلين
لـ 20 % من أراضي جمهورية أذربيجان؟! هذا الاحتلال الذي شرّد ما يقرب من مليون
مسلم أذري لا ينتظرون الدعم من إيران، وإنما يدعونها باسم الإسلام للكف عن مؤازرة
المحتلين الأرمن لأراضيهم. وكذلك كيف نفسر تآمر الجمهورية الإسلامية في إيران على
طالبان وتواطؤها مع الأمريكان لإسقاط حكومتهم في كابل، بينما تقدِّم الدعم للفرس
في أفغانستان وهم سنّة دون غيرهم من المسلمين! وهو موقف لا يمكن تفسيره إلا بأمر
واحد، وهو: أن المهم بالنسبة إلى نظام الآيات أو الملالي في إيران هو العنصر الفارسي
وليس الدين أو المذهب كما يدّعي، مما يكشف زيف شعاراته وادعاءاته.
وفي الختام، إن الحكومة العراقية الحالية
المتحالفة مع الأمريكان المحتلين، بسبب ما ترتكبه من جرائم بحق أهل السنة في
العراق من خلال أجهزتها الأمنية والميليشيات الرافضية المتعاونة معها، التي تكونت
منها الحكومة العراقية مثل:
فيلق بدر، و حزب الدعوة، وجُلّ جيش المهدي؛
تذكرنا بالدولة الصفوية التي اقترن قيامها بالقضاء على مذهب السنة في إيران، بعد
أن كان معظم أهل هذا البلد من السنة.
وعرف عنها في التاريخ - كما مرّ بنا سابقاً
- ارتكاب الصفويين مذابح يندى لها الجيش بحق أهل السنة في عهد إسماعيل الأول،
ومعاملتهم إبّان حكم سلاطين هذه الدولة المتعصبة معاملةً سيئة وهم المسلمون، بينما
حظي النصارى وهم الكفار بالاحترام والتقدير والتبجيل، وراح الشاهات يغدقون
إنعاماتهم بسخاء على التجار النصارى! وأمّنوا لهم ممارسة شعائرهم الدينية بِحُرية،
وعمدوا إلى التحالف مع المماليك الأوروبية ضد السلطنة العثمانية السنية؛ أملاً في
إسقاطها، وإعاقة الفتوحات الإسلامية في أوروبا!
والآن يعيد التاريخ نفسه؛ إذ نرى أن الحكومة
الرافضية في العراق قد رهنت بلادها لإيران التي أحيا حكامُها بعد الثورة على الشاه
كلَّ ما فعله الصفويون، ووضعت يدها في أيدي المحافظين أو الصليبيين الجدد، وتمارس
ما مارسه أسلافها الصفويون بالأمس الدابر من خيانة وعمالة وظلم، وسفك دماء
الأبرياء بغير حق، وتهجير العائلات والعشائر السنية من مناطقها.
إن حكام العراق الجدد بعد الغزو الأمريكي
لهذا البلد المسلم؛ قد سيطروا على مفاصل الدولة العراقية بحماية القوات الأمريكية،
ويستهدفون بمشروعهم القومي الصفوي الفارسي المستتر بالدين والمذهب؛ عقيدةَ أهل
السنة في العراق ووجودهم ومقدساتهم وثرواتهم.
على أن حملات الإبادة لأهل السنة في كثير من
مدن العراق وقراه وبواديه؛ ترمي إلى تصفية الوجود السني في بلاد الرافدين. وهذا
يتطابق مع ممارسات أسلافهم الصفويين الذين تعصبوا للعنصر الفارسي، وسعوا لفرض
هويتهم القومية الفارسية في إيران على حساب أهل السنة الذين كانوا يشكلون قبلَ
قيام هذه الدولة معظمَ سكان إيران.
:: البيان تنشر - مـلـف
خـاص- (الـخـطـر الإيـرانـي يـتـمـدد)
(1) عبد الله الغريب: وجاء دور المجوس، ص 80،
(بتصرف).
(2) أحمد
الخولي: الدولة الصفوية، ص 51.
(3) فوزي توكر:
الصفويون، شبكة المعلومات الدولية، موقع قوقل (Google).
(4) بديع محمد
جمعة: الشاه عباس الكبير، ص 101، (بتصرف).
(5) القرنان 16
- 17م (تاريخ الحضارات العام) بإشراف موريس كروزيه، ج 4، ص574.
(6) بديع محمد
جمعة: الشاه عباس الكبير، ص 102.
(7) رولان
موسينيه: القرنان: 16 - 17م (تاريخ الحضارات العام) ج 4، ص 574.
(8) محمد أمين
زكي: تاريخ الكرد وكردستان، ص 102.
(9) محمد بديع
جمعة: الشاه عباس الكبير، ص 103، سَمَلَ العين: فقأها.
(10) المصدر
السابق، ص102 (نقلاً عن تاريخ عباسي، ص 37 وما بعدها).
(11) المصدر
السابق، ص 104 (نقلاً عن تاريخ عباسي، ص 37 وما بعدها).
(12) المصدر
السابق، ص 104 (نقلاً عن تاريخ عباسي، ص 37 وما بعدها).
(13) زكريا
بيومي سليمان: قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين، ص63.
(14) شاهين
مكاريوس: تاريخ إيران، ص 154 - 156.
(15) المرجع
السابق، ص 154.
(16) محمد بديع
جمعة: الشاه عباس الكبير، ص 216.
(17) عباس
إقبال: تاريخ إيران قبل الإسلام، ص 671، ومحمد بديع جمعة: شاه عباس الكبير، ص 250،
(مصدره: رضا بازوكي: تاريخ إيران إزمغول تا أفشاريه، ص 320، طهران، 1334هـ).
(18) شاهين
مكاريوس، تاريخ إيران، ص 154 - 156.
(19) المرجع
السابق، ص 158.
(20) محمد بديع
جمعة: الشاه عباس الكبير، ص 271 - 272، (مصدره: أحمد تاج بخش: إيران درزمان صفويه،
ص 220 - 241، تبريز، 1340هـ).
(21) المرجع
السابق، ص107، (مصدره: أحمد تاج بخش: إيران درزمان صفويه، ص 254 - 255).
(22) المرجع
السابق، ص 276 - 277.
(23) المرجع السابق،
ص 294 (مصدره: نصر الله فلسفي: زندكاني شاه عباس، ج 2، ص 264).
(24) شاهين
مكاريوس، تاريخ إيران، ص 154 - 156.
(25) أخرجه أبو
داود في السنن، ج 4، ص 314، رقم 4031، وقال الألباني في صحيح الجامع الصغير: صحيح؛
ج 2، ص 1059، رقم 6149.
(26) ابن
تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم، ج 1، ص 513.
(27) المصدر
السابق، ج 1، ص 528.
(28) محمد بديع
جمعة: شاه عباس الكبير، ص 107، (مصدره: نصر الله فلسفي: زندكاني شاه عباس أول، ج
3، ص 72).
(29) المرجع
السابق، ص 294، (مصدره نصر الله فلسفي: زندكاني شاه عباس أول، ج 3، ص 81 - 84).
(30) المرجع
السابق، ص 295، (مصدره: نصر الله فلسفي: زندكاني شاه عباس أول، ج 4، ص 15).
(31) ابن
تيمية: مجموع الفتاوى: ج 28، ص 336 - 337.