جدل الدور الإيراني في العراق منذ الاحتلال الأمريكي
في شهر تشرين الثاني / نوفمبر من العام
الماضي 2007م؛ وقّع 300 ألف من أهالي المحافظات الجنوبية الشيعية، من بينهم 14
عالم دين و600 شيخ عشيرة و1250 حقوقياً ومحامياً و2200 بين طبيب ومهندس و25 امرأة؛
وقعوا بياناً يدين ما وُصِفت بأنها « جرائم ارتكبها النظام الإيراني في العراق
خلال السنوات الأربع الأخيرة » مضيفاً: « إن أكثر الطعنات إيلاماً وأكثر الخناجر
تسميماً التي غرزها النظام الإيراني في خاصرتنا نحن الشيعة في العراق؛ هو استغلال
المذهب بشكل مخجل لتحقيق نيّاته الشريرة وأغراضه المشبوهة ».
يشار هنا إلى أن البيان الساخن وغير المسبوق
قد جاء إثر شهور من الصدامات بين التيارات الشيعية المتنافسة على النفط والمواقع
والنفوذ و (عوائد المراقد)؛ وعلى رأسها: التيار الصدري، و حزب الفضيلة، و المجلس
الأعلى الذي يسيطر على الكثير من تلك المواقع، والذي يتهم بأنه اليد الضاربة
لإيران في مدن الجنوب في الوقت الذي يُتَّهم فيه كذلك بتهيئة الأجواء على مختلف
المستويات من أجل فصل الجنوب والوسط عن بقية العراق تحت لافتة الفيدرالية المزعومة.
بدأنا بالحديث عن البيان المشار إليه، والذي
يمكن القول إنه فاجأ الكثيرين ممن ينظرون إلى الساحة العراقية بمنظار طائفي محض
متجاهلين ما تبقى من التعقيدات الأخرى التي تزدحم بها على مختلف الأصعدة، وقد
فعلنا ذلك لكونه فاتحة للدخول إلى جملة من الأسئلة المتعلقة بالدور الإيراني في
العراق منذ مجيء الاحتلال الأمريكي ربيع العام 2003م، وهو دور كان - وما يزال -
موضع جدل في الأوساط العراقية من جهة، وفي الدوائر العربية والإقليمية والدولية من
جهة أخرى.
والحال أن الأحلام الإيرانية في العراق قد
تصاعدت منذ انتصار (الثورة الإسلامية) نهاية السبعينيات، على حين استيقظ الحس
الطائفي الشيعي العراقي على وقع الانتصار الذي تحقق، ولا سيما أن حِراكاً سياسياً
ودعوياً كان قد بدأ بالظهور قبل ذلك، ربما مع النشاط الأولي لحزب الدعوة بقيادة
المفكر الشهير محمد باقر الصدر الذي أعدمه صدام حسين.
على أن التصاعد الأكثر حدة للحس الطائفي في
أوساط الشيعة قد بدأ عملياً بعد الحرب التي دارت بين العراق و إيران عشية الثورة،
والتي رأى فيها الشيعة العراقيون محاولة لإجهاض الحُلُم الشيعي، كما استيقظت لديهم
مشاعر التمييز الطائفي، وهو الأمر الذي دفع نظام صدام - الذي لم يكن طائفياً في
واقع الحال بقدر ما كان يعتمد الولاء معياراً للحكم على الناس - وأدّى به إلى
التحول نحو سياسات تحابي الأطراف الأقرب إليه والأبعد عن إيران، أعني (العرب
السنة).
هكذا اشتعلت المشاعر الطائفية وأخذ الفرز
يزداد تجذُّراً بمرور الوقت، وبدأت قوى المعارضة الشيعية تُصعِّد من تعاونها مع
الأمريكان من أجل إسقاط النظام الذي أخذ يتصدر قائمة أعداء الولايات المتحدة
لأسباب عدة:
أولاً: بسبب القدرات العسكرية التي خرج بها
من حرب الخليج الأولى.
ثانياً: بسبب خطئه القاتل في غزو الكويت.
وثالثاً بسبب إرادة الصهاينة جعله محطةً
لإعادة تشكيل المنطقة لحساب أجندتهم بعد فشل (مشروع أوسلو) في منحهم بطاقة الهيمنة
على المنطقة.
طوال الثمانينيات والتسعينيات من القرن
الماضي كانت إيران هي محضن المعارضة الشيعية للنظام العراقي، بل إن أحد أبرز
فصائلها (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية) بزعامة محمد باقر الحكيم، والذي اغتيل
في صراع طائفي؛ كان صنيعة إيرانية من الألف إلى الياء؛ إذ اعتمد على الأسرى الشيعة
لدى الجيش الإيراني، إلى جانب الفارين من الخدمة العسكرية ومن بطش النظام.
لا يتوقف الأمر عند المجلس الأعلى؛ فقد قدمت
إيران الدعم لجميع المعارضين للنظام العراقي من الشيعة وأحياناً من الأكراد، ولو
توفر لها أحد من السنة لما بخلت عليه. واستمر هذا الحال إلى أن حانت الفرصة بتصاعد
العداء للنظام العراقي وصولاً إلى إسقاطه.
نفتح جملة معترضة هنا لنقول: إن سياسة
الإيرانيين في التعاطي مع الفصائل والقوى التي يستقطبونها أو يدعمونها؛ هي عدم
التركيز فقط على العلاقة مع قيادة تلك القوى، بل تجاوزها عبر فتح علاقات مع
العناصر التالية والوسيطة في سلم القيادة. مع العلم أن ملف الفصائل المذكورة عادةً
ما يوضع بيد جهاز ( إطلاعات)، وهو جهاز المخابرات الإيرانية. وهدف السياسة
المذكورة هي عدم الارتهان فقط للقيادة، وإنما إيجاد بدائل لها في كل الأوقات أو
إقناعها بضرورة الانصياع لمقتضيات السياسة الإيرانية في كل الأحوال. وحدَه حزب
الله الذي شذ عن هذه القاعدة بحجب بعض المعلومات؛ إذ مُنِح قائده (حسن نصر الله)
ميزة مختلفة من قِبَل مرشد الثورة، بحيث يتحكم هو بالوضع الداخلي دون تدخل مباشر
من الأجهزة الإيرانية.
من هنا يمكن القول: إنه ما إن دخل الأمريكان
بغداد و البريطانيون الجنوب حتى تدفّق الإيرانيون العاملون في الأجهزة المختلفة
وعلى رأسها المخابرات، بصِيَغ مختلفة إلى داخل العراق، بينما كان رجالهم من القوى
العراقية كالمجلس الأعلى للثورة جاهزين للفعل المباشر.
هكذا كان الإيرانيون: من أوائل من بسطوا
سيطرتهم على مدن الجنوب، ثم مدوا نفوذهم نحو بغداد ومناطق أخرى، وكان أن تواطؤوا مع حملة
تصفيات شرسة نالت نخبة المجتمع العربي السني، وتمت من خلال الجناح العسكري للمجلس
الأعلى (قوات بدر) و حزب الدعوة، وتالياً بعض عناصر جيش المهدي التابع للتيار
الصدري، وكل ذلك بهدف بث الرعب في أوساط العرب السنَّة والسيطرة على مقاليد
الأمور، وبالطبع من خلال سياسة التعاون مع الأمريكان الذين وجدوا في القوى الشيعية
حليفاً مخلصاً، فكان أن منحوها الغالبية في مجلس الحكم منذ البداية، مروراً
بالحكومة الانتقالية، وبالتأكيد في الجيش والأجهزة الأمنية؛ في وقت كان العرب
السنة قد رفضوا الانخراط في المؤسسة العسكرية بعد حل الجيش.
بعد عامين على الاحتلال تنبّه الأمريكان إلى
أن الإيرانيين قد أصبحوا القوة الأكثر أهمية في الساحة العراقية برمتها، وهي
معادلة بالغة السوء بالنسبة لهم، وبالطبع لأن الهدف التالي بالنسبة لـ (جورج بوش)
المحكوم بالهواجس الصهيونية؛ هو تدمير القدرات النووية الإيرانية.
قبل الحديث عن محاولة الأمريكان الانقلاب
على النفوذ الإيراني؛ لا بد من الإشارة إلى أن النفوذ المذكور قد أخذ يصيغ عملياً
البرنامج السياسي للعرب السنة أو يؤثر فيه بشكل كبير في أقل تقدير، ليس فقط ما
يتعلق بالمنخرطين في العملية السياسية الذين برروا ارتماءهم في الحضن الأمريكي
بأولوية مواجهة النفوذ الإيراني، بل أيضاً قوى المقاومة ومعها (هيئة علماء
المسلمين)، وجميعها بالغت في توصيف الدور الإيراني في العدوان على العرب السنة من
دون أن يعني ذلك براءة الإيرانيين من الدماء التي سالت، لكن المؤكد هو أن البعد
الثأري بسبب عمليات القاعدة كان حاضراً أيضاً، إضافة إلى أبعاد تتعلق بالخطف
والقتل والاغتيال لأغراض مالية.
في الانتخابات التي أجريت نهاية عام 2005م،
حاول الأمريكان الانقلاب على النفوذ الإيراني من خلال الحد من حجم الائتلاف
الشيعي، عبر إقناع العرب السنة بالمشاركة في الانتخابات، وعبر دعم إياد علاوي
(الشيعي الليبرالي) الذي يمكن الوثوق به، لكن الدور الإيراني والأموال التي تدفقت
بقوة، ومن ثَم إقناع التيار الصدري بالمشاركة ضمن لائحة الائتلاف، وقبل ذلك تحكّم
الشيعة بصياغة قانون الانتخاب الذي ظلم المحافظات العربية السنية؛ كل ذلك ساهم في
فوز الائتلاف الشيعي من جديد بالغالبية، وصولاً إلى تنصيب إبراهيم الجعفري رئيساً
للوزراء، الذي خلفه فيما بعد نوري المالكي، وما يزال.
من العبث القول: إن الإيرانيين يتحالفون مع
الأمريكان في العراق كما يردد بعض رموز العرب السنَّة؛ فما من شيء أحب إلى قلب
جورج بوش الابن و المحافظين الجدد من مطاردة هذا النفوذ. لكن التمني شيء والواقع
شيء آخر؛ فمنذ الشهور الأولى للاحتلال، ومع اندلاع المقاومة في مناطق العرب السنة؛
برزت معادلة لم تتغير إلا نسبياً خلال الشهور الأخيرة؛ وتتمثل في وقوع المحتلين بين
مطرقة المقاومة وسندان القوى الشيعية المتحالفة أو القريبة من إيران، مما فرض
عليهم الدفع للقوى المذكورة من أجل مواجهة المقاومة. أما التغير الذي برز مؤخراً
فيتمثل في ظهور ميليشيات الصحوات السنية التي قاتلت تنظيم القاعدة، وقبل ذلك تحالف
القوى السياسية العربية السنية أو أكثرها مع الأمريكان لمحاصرة النفوذ الإيراني.
الآن يمكن القول: إن إيران لم تعد بالقوة
ذاتها التي كانت عليها خلال الأعوام السابقة؛ فالبيان الذي أشرنا إليه في المقدمة
يشير إلى ملامح الضجر من تدخلاتها السافرة في مدن الجنوب، وما يترتب عليه من صراع
بين قوى أقرب إليها وأخرى ترفض العمل لحسابها، لكن ذلك لا يغير من حقيقة أنها ما
تزال اللاعب السياسي الذي قد يتفوق على الأمريكان في بعض الأحيان، وإن بدا أنهم
(أي الأمريكان) ما يزالون الأكثر تأثيراً في الواقع العراقي بسبب مخاوف الشيعة
العراقيين من انقلاب السياسة الأمريكية بالكامل نحو العرب السنة، عطفاً على
تحالفها الثابت مع الأكراد السنة أيضاً وفق التصنيف الطائفي.
والحال أن الأمريكان لا يبنون سياساتهم على
إيقاع إنساني يحابي المظلوم وينتصر من الظالم، بقدر ما يبنونها على إيقاع مصالحهم
التي اكتشفوا أنها لن تتحقق إلا في ظل سياسة (فرّقْ تسُدْ) بين العراقيين؛ ليس بين
طوائفهم فحسب، بل داخل كل طائفة أيضاً. ولذلك يمكن القول: إن التشتت الذي تعيشه
الساحة العربية السنية؛ قد انسحب - وإن كان أقل حدة - على القوى الشيعية، بل
أحياناً داخل كل فصيل، كما هو حال التيار الصدري الذي استُهدِف بالعبث أكثر من
سواه، فكان أن خرجت من رحمه عناصر وقوى عديدة.
الآن يمكن القول: إن المطاردة الأمريكية
لنفوذ إيران لم تتوقف، ولا سيما أن خيار توجيه الضربة العسكرية لإيران ما يزال
قائماً على الرغم من تقرير الاستخبارات الذي قيّد بوش على نحوٍ ما، بل سيبقى كذلك
حتى لو جاء الديمقراطيون إلى الرئاسة. والخوف الأمريكي الأساسي يتمثل في تحول
العراق إلى ساحة لتصفية الحساب الإيراني معهم عبر استهداف قواتهم هناك، وذلك ما
يفسر استهداف الصدريين الذين كان يُعتَقد أنهم سيكونون ذراع إيران الضاربة في
العراق.
كل ذلك لا يغير في الحقيقة أن إيران ستبقى
لاعباً قوياً في الساحة العراقية، ومن العبث الاعتقاد أن ترتيب أوراق العراق يمكن
أن يكون بمعزل عنها (قد تتغير المعادلة نسبياً إذا ما وجّه إليها الأمريكان ضربة
عسكرية، حتى لو كان ردهم عليها قوياً كذلك). وإذا كان خيارها هو استمرار النزيف
الأمريكي هناك بصرف النظر عن نتائج ذلك على الشعب العراقي، وبالطبع كي لا تتجرأ
واشنطن عليها؛ فإن وقف النزيف وإجراء مصالحة داخلية لن يكون بمعزل عنها أيضاً، إلا
إذا تمت المصالحة على عين الاحتلال، وفي سياق تثبيت نفوذه.
من هنا لا مناص من حوار عربي - إيراني جاد
حول الملف العراقي؛ ذلك أن حكومة طائفية شيعية في العراق لن تكون مقبولة من العرب
السنة ومن المحيط العربي برمته حتى لو استمرت الحرب الأهلية ألف عام. كما أن
استبعاد الشيعة على نحوِ ما كان في السابق سينطوي على نتيجة مشابهة. والخلاصة: أن
التفاهم بين الطرفين هو الحل الأمثل، وهو الأمر الذي يبدو مستبعَداً في القريب
العاجل، ليس فقط بسبب عجز العرب عن التمرد على الإملاءات الأمريكية، وإنما بسبب
مشاعر القوة المسيطرة على الإيرانيين وصعوبة اعترافهم بعراق عربي إسلامي منسجم مع
محيطه؛ فهم الذين ما زالوا يحلمون بعراق تابع لهم، ليس سياسياً فحسب، بل اقتصادياً
وثقافياً أيضاً، كما سمعت ذلك شخصياً ذات مرة من عطاء الله مهاجراني، نائب الرئيس
الإيراني السابق (خاتمي).
:: البيان تنشر - مـلـف
خـاص- (الـخـطـر الإيـرانـي يـتـمـدد)