ما هو دور مؤسسات صنع القرار السياسي الأمريكي أو الغربي في التأثير على الجامعات، وهل هي حقيقة تتمتع بحرية في مناهجها واختيار أبحاثها، أم تمارس مؤسسات مثل الكونجرس والرئاسة والحكومة ضغوطًا عليها وتخضعها لأجندتها السياسية والفكرية؟
عندما اندلعت مظاهرات واعتصامات الطلاب والأساتذة في الجامعات الأمريكية احتجاجًا
على حملة الإبادة الصهيونية في غزة، والتي امتدت لتصل إلى عشرات الجامعات في
أمريكا. كان المطلب الأساسي لتلك الفعاليات هو وقف تعاون تلك الجامعات واستثماراتها
مع الكيان الصهيوني.
وهنا يثار السؤال: ما هو حدود ونوعية الدعم الذي تقدمه الجامعات الأمريكية، بل
الجامعات في الغرب بصفة عامة إلى الكيان الصهيوني؟ وإلى أي مدى وصلت العلاقات
المتشابكة بين هذه الجامعات والكيان الصهيوني؟ علمًا أن مظاهرات الطلبة المحتجة في
بعض جامعات أوروبا على حملة الإبادة في غزة تريد نفس الشيء الذي تريده مظاهرات
جامعات أمريكا، أي وقف التعاون بين تلك الجامعات والكيان الصهيوني.
ولكي نستطيع رصد التعاون بين الجامعات الغربية والكيان الصهيوني، لابد في البداية
من معرفة تمويل تلك الجامعات وهل تأتي من أموال خاصة لأفراد أو شركات أم تأتيها من
خلال تمويل حكومي؟
الجامعات بين وظائفها ومعايير الجودة والسياسة
تمثل الجامعة مرحلة متقدمة يعدها البعض نهائية في سلم طويل من تلقي العلم درجت عليه
المجتمعات الحاضرة في نظمها التعليمية، ومع الوقت ازداد دور الجامعة من مجرد مكان
للبحث وتلقي العلم، إلى بؤرة ارتباط بقضايا المجتمع ونهوضه.
وقد حدد خبراء التعليم خمس وظائف رئيسة للجامعة وهي:
·
مستودع المعرفة البشرية، فهي بمثابة قبو للمعرفة، ذلك يعني الحفاظ على المعرفة
وتأمين وصولها للأجيال الحالية والمستقبلية.
·
توليد المعرفة الجديدة، وهي الأنشطة التي تندرج تحت ما نسميه البحوث والدراسات.
·
نقل المعرفة إلى الجيل التالي، وهي ما نسميه التعليم.
·
نقل المعرفة إلى المجتمع، أي ما نسميه النشر.
·
توليد التنمية الشاملة، وهذا يعني لعب دور أساسي في تعزيز النمو وبالتالي السعي
لتحقيق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع.
|
تُعّد قضية تمويل الجامعات ودعمها من القضايا التي بدأ الحديث عليها مؤخرًا
أمريكيًا، إما لوجود أنشطة لهذه التمويلات لا يتم الإفصاح عنها، أو لتدخل
دول مثل الصين تمول أبحاث الجامعات، وتعتبرها أمريكا منافسة لها عالميا. |
بل وضعت بعض المراكز المتخصصة معايير لترتيب الجامعات من حيث القوة العلمية وارتباط
أبحاثها بقضايا وثيقة الصلة بحياة الناس ومشكلاتهم وآمالهم، بما تقدمه لمجتمعاتها
من إمكانات وخبرات للتعليم والتدريب المستمر، وأصبحت تقاس قوة الدولة من بين عوامل
أخرى بجودة جامعاتها وارتقائها في تصنيف الجامعات العالمي.
ومن بين أشهر المعايير المعتمدة في الترتيب العالمي للجامعات، ما يُعرف بتصنيف كيو
إس العالمي للجامعات. ويعتمد ذلك التصنيف على 6 عوامل رئيسية في تقييم الجامعات،
وهي كالتالي:
·
السمعة الأكاديمية (40%)
·
السمعة في مجال توظيف الخريجين (10%)
·
نسبة الأستاذة إلى الطلاب (20%)
·
نسبة الاقتباس البحثي إلى عدد أعضاء هيئة التدريس (20%)
·
نسبة أعضاء هيئة التدريس الدوليين (5%)
·
نسبة الطلاب الدوليين بالجامعة (5%)
ووفق هذه المعايير لذلك التصنيف (كيو إس)، فقد استحوذت الجامعات الامريكية
والبريطانية على المراكز العشرة الأولى في القائمة، وفي مقدمتها جامعة هارفارد.
وبالرغم من أن هناك عدة تصنيفات للجامعات غير كيو إس، حيث لكل تصنيف طريقته
والعوامل التي يستخدمها لترتيب الجامعات، إلا أن الجامعات الأمريكية تحتل أغلب
المراكز الأولى في تلك التصنيفات كلها.
ويأتي على رأس هذه الجامعات ما اصطلح على تسميته رابطة اللبلاب، وهي تجمع أشهر 8
جامعات أمريكية في شمال الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، وتتشارك في
كونها ذات مستوى أكاديمي عالٍ، إذ توجد جميعها ضمن أفضل 20 جامعة أمريكية في عام
2023.وتضم الرابطة جامعة براون وكولومبيا وكورنيل وكلية دارتموث وجامعة هارفارد
وبرينستون وبنسلفانيا وجامعة ييل.
ولكن بالنسبة للدور السياسي للجامعة فإنه توجد وجهتي نظر مختلفة بشأن طبيعة هذا
الدور:
فهناك من يرى أن للجامعة وظيفة نقدية ضرورية لاكتشاف عيوب المجتمع وتوجيهه، وهي
مسؤولية الجامعة باعتبارها تمثل الشباب الذي سيقود البلاد مستقبليا، وخاصة في الأمة
التي تطمح أن تكون لها مكانة بين الأمم.
بينما يدعو آخرون لانعزالية الجامعة وحيادها، حيث يرى أن ارتباط الجامعة بالسياسة
سوف يؤثر على باقي وظائفها الأخرى، وخوفا من الإضرار بحرية الجامعة واستقلاليتها،
ومن هنا كان رفض دخول الجامعة المعترك السياسي.
الجامعات الأمريكية وقضية التمويل
تُعّد قضية تمويل الجامعات ودعمها من القضايا التي بدأ الحديث عليها مؤخرًا
أمريكيًا، إما لوجود أنشطة لهذه التمويلات لا يتم الإفصاح عنها، أو لتدخل دول مثل
الصين تمول أبحاث الجامعات، وتعتبرها أمريكا منافسة لها عالميا.
ومن المسلم به أن تمويل الجامعات الأمريكية وأشهر المؤسسات التعليمية في الغرب
عمومًا يعتمد على هبات يهبها متبرعون أغنياء، فجامعة هارفارد مثلا تمتلك وديعة تبلغ
50 مليار دولار بحسب إحصائيات 2023، بينما حصة جامعة كولومبيا من التبرعات بلغت في
نفس العام 17 مليار دولار، أي ميزانيات دول.
بينما تشير بعض التقارير أن تمويل الجامعات الأمريكية مجتمعة قد تعدى رقم الألف
مليار دولار سنويًا.
ومن ثم يتم تجميع أموال الهبات لتكون وديعة في البنوك أو تتحول إلى شركات
استثمارية، ومن عوائد تلك الاستثمارات يتم تمويل الأنشطة التعليمية وكل ما يتعلق
بها، سواء كان ما يرتبط بما يعرف بالمصاريف الثابتة، كالمباني الجامعية والمعامل،
أو بالمصاريف المتغيرة كرواتب وأجور العاملين من أساتذة وباحثين وإداريين وموظفي
أمن وخلافه.
ومن أوجه الصرف أيضًا تقديم المنح الدراسية والمساعدات المالية للطلاب ولتمويل
البحوث وغيرها من المبادرات، أما علاقة الجامعات الأمريكية بالحكومة، فإن النظرة
الحكومية لها على أساس أنها منظمات غير ربحية، ويترتب على تلك النظرة أنه يتم إعفاء
تلك الجامعات من الضرائب.
ولكن تكمن المشكلة والتي تحتج عليها المظاهرات الدائرة الآن، في كيفية إدارة تلك
الأموال واستثمارها، فإدارة تلك الجامعات نظرًا لقلة خبراتها، فإنها تعهد إلى شركات
متخصصة في الاستثمار لإدارة أموالها وتلك الهبات، واستثمار تلك الأموال في مشروعات
تزيد من دخل تلك الجامعات.
|
مارس
رجال الأعمال الأمريكان الموالين للصهيونية ضغوطهم على الجامعات في مسارين:
التهديد بسحب تمويلهم للجامعات والتي تشهد حراكًا طلابيًا معاديًا للكيان
الصهيوني، والمسار الثاني يهدد الطلبة المشاركين في الفعاليات بعدم تشغيلهم
وحرمانهم من الوظائف |
الجامعات الأمريكية ودعم الكيان الصهيوني
يقول الطلاب والأساتذة الثائرون والمطالبين بوقف الدعم الجامعي لدولة الاحتلال بأن
هذا الدعم يأتي على أربعة صور:
تقديم أبحاث لشركات تزود الكيان بالسلاح والتكنولوجيا العسكرية، أو تقوم الشركات
التي تدير الهبات المالية للجامعات بالاستثمار في دولة الكيان، أو تتلقى بعض
الجامعات أموالا مباشرة من الجيش الصهيوني للقيام بأبحاث عسكرية، وأخيرا هناك
تمويلات صهيونية لا يتم الإفصاح عنها.
وحين ننظر إلى ما تعلنه وزارة التعليم الأمريكية عن تقديراتها لمقدار المنح الذي
يقدمها الكيان الصهيوني للجامعات الأمريكية، فنجد أنها تبلغ ما قيمته 375 مليون
دولار على مدى عشرين عاما، وهذا المبلغ يعتبر ضئيلا جدا مقارنة بالأصول المالية
للجامعات والذي ذكرناه سابقا والذي يبلغ 1000 مليار دولار.
أي أن الجامعات الأمريكية يمكنها الاستغناء عنه، فلماذا تتمسك به إدارة الجامعات
الأمريكية وتعادي من أجله طلابها؟ بل تستدعي الشرطة للبطش بهؤلاء الطلاب؟
الإجابة على هذا السؤال يكمن في اللوبي الصهيوني المسيطر على مفاصل الدولة
الأمريكية المالية والتشريعية.
بالنسبة للكونجرس، فبالرغم من أن معظم الجامعات الأمريكية هي جامعات خاصة ولا تتلقى
أموالا فيدرالية من الحكومة الأمريكية، إلا أنه وفق الدستور الأمريكي والقانون، فإن
إدارات تلك الجامعات خاضعة للمساءلة والمحاسبة.
وقام أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الموالين للصهاينة بالتحرك في اتجاهين:
الاتجاه الأول: حملة تهديد ضد رؤساء الجامعات والتي تشتد فيها الاحتجاجات الطلابية.
وقد تعرض ثلاثة رؤساء جامعات أمريكية، خلال الشهور الماضية، إلى مطالبات بالمثول
أمام لجنة في مجلس النواب، بعد تلقيهم انتقادات مُكثفة من قبل بعض أعضاء المجلس
واتهامهم بسوء التعامل مع الاحتجاجات واليت يصفونها بأنها معادية للسامية التي
انطلقت بين حدود حرمهم الجامعي.
واستجابت النساء الثلاث وهن رئيسة جامعة هارفارد، ورئيسة جامعة بنسلفانيا، ورئيسة
معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إلى الاستدعاء من رئيس اللجنة الجمهورية في الكونجرس
الأمريكي، بهدف الإدلاء بشهادتهن فيما يخص مسألة الاحتجاجات المعادية للسامية.
ونتيجة للتوبيخ والتهديد، اضطرت رئيس جامعة بنسلفانيا للاستقالة، وبعدها رئيسة
جامعة هارفارد والتي قالت: إن واجبها كان احترام حرية التعبير داخل الجامعات، وهو
حق أساسي في الولايات المتحدة، حتى وإن كانت ترفض هذه الآراء.
وفي الاتجاه الثاني، تقدم عدد من النواب الأمريكيين من الحزبين الديمقراطي
والجمهوري، بمشروع قانون معاداة السامية، والذي يلزم وزارة التعليم في الولايات
المتحدة باستخدام التعريف العملي لمعاداة السامية الذي وضعه التحالف الدولي لإحياء
ذكرى المحرقة، وقد تم إقرار القانون بأغلبية 320 صوتًا مقابل معارضة 91.
أما على صعيد اللوبي المالي في الولايات المتحدة، فقد
مارس رجال الأعمال الأمريكان الموالين للصهيونية ضغوطهم على الجامعات في مسارين:
التهديد بسحب تمويلهم للجامعات والتي تشهد حراكًا طلابيًا معاديًا للكيان الصهيوني،
والمسار الثاني يهدد الطلبة المشاركين في الفعاليات بعدم تشغيلهم وحرمانهم من
الوظائف
في سوق العمل الأمريكي.
هذه الضغوطات التي يمارسها النظام السياسي الأمريكي ضد الحراك الطلابي الأمريكي،
يدفع الأمور إلى الاشتعال أكثر، وفي النهاية يضع أول مسمار في نعش هذا النظام
العنصري الموالي للصهاينة.