تعد مشكلة التنمر من أكثر المشكلات التي يعاني منها الأطفال خاصة في السن الصغير، وهي تحتاج إلى ثقافة تربوية من الوالدين والمربين للتعرف الطريقة التربوية المثلى للتعامل مع الأطفال الذين يسقطون فريسة لمثل هكذا سلوكيات.
التنمر من أبشع السلوكيات التي يمكن أن تنتشر بين الأطفال، وهو مشكلة كبيرة تعاني
منها كثير من المجتمعات حول العالم، ويعاني منها الأطفال في مختلف مراحل أعمارهم،
ولعل أقساها ما يمارس في مرحلة مبكرة من حياة الطفل، وذلك بسبب ما يتركه من رواسب
وآثار نفسية بالغة السوء على الطفل وتفاعله مع الآخرين.
والتنمر شكل من أشكال الإيذاء والعدوان المتعمد الموجّه للطفل والمراهق، وقد يكون
هذا الإيذاء لفظيًا أو بدنيًا أو نفسيًا، بالسخرية من جسده أو صفة من صفاته، أو
ضربه أو إهانته وشتمه أو تهديده، ما يعد انتهاكًا كبيرًا لحقوق الطفل.
وفقًا لمنظمة اليونيسيف فإن نصف الأطفال حول العالم (50%) يتعرضون للتنمر في
المدارس، وثلثهم (حوالي 33%) يتعرضون له "يوميًا"، وهذه نسبة كبيرة، وقد تزيد في
بعض الدول حسب الوضع الاجتماعي والمعيشي والتربوي.
وللتدليل على مدى خطورة هذا السلوك الشائن وشناعته وأثره المدمر على نفسية الطفل،
فقد وقعت حادثة بشعة في الكويت في عام 2021؛ حيث انتحرت طفلة كويتية عمرها 14
عاماً، بسبب تعرضها للتنمر من قبل زملائها، وذلك لكونها ذات ملامح آسيوية إلى حد
ما، حيث ألقت بنفسها من الدور الرابع عشر بعد إصابتها بحالة نفسية سيئة. فلنا أن
نتخيل الأزمة والضغط النفسي اللذين مرت بهما هذه الطفلة -رحمها الله- والحالة
السيئة التي وصلت إليها حتى دفعتها للانتحار.
وحالات الانتحار المشابهة لهذه الحالة كثيرة في الدول الغربية وأكثر من أن تحصى
بسبب التفسخ الاجتماعي والأخلاقي الذي أنتجته المادية الغربية، إلا أن وصول هذا
السلوك المجرم إلى مجتمعنا العربي والإسلامي بهذه الحدة فهذه صيحة نذير تستحق
التوقف واتخاذ التدابير اللازمة لمواجهتها.
آثار نفسية واجتماعية خطيرة:
التنمر شأنه شأن أي انتهاك نفسي واجتماعي آخر، تتولد عنه عدة آثار مدمرة على عدة
أصعدة؛ منها:
أولاً: إصابة الطفل بالاكتئاب، وهذه هي أبشع وأكبر الآثار المترتبة على التنمر، فهي
تقتل الطفولة المبهجة المنطلقة وتحولها إلى كابوس بشع بسبب هذه التصرفات البغيضة
والألفاظ التي يسمعها من زملائه في المدرسة، والتي تسخر من شكله أو وزنه أو طريقة
كلامه. وهذا قد يؤدي به إلى إيذاء نفسه، وقد يصل به الحال إلى الانتحار حينما يصدّق
كلام المتنمرين عن نفسه بسبب تكراره وقوته وعدم قدرة الطفل على مقاومته أو دفعه.
|
بث
الثقة في نفس الطفل في قوته وقدرته على مواجهة المعتدين، فكثير من ضحايا
التنمر لا تنقصهم القوة الجسمية، لكن فقط تنقصهم الشجاعة والثقة |
ثانيًا: العزلة عن المحيطين به، لأن ضحية التنمر يشعر بأنه منبوذ ومكروه وغير مرغوب
في وجوده أو التعامل معه، وهذا يجعله ينسحب من الحياة الاجتماعية ويكف عن الاختلاط
بالأصدقاء والرفاق، أو حتى بالأسرة أحيانًا. وهذا يفاقم حالة الاكتئاب التي يمر بها
بسبب التنمر.
ثالثًا: ضعف ثقة الطفل بنفسه وشعوره الدائم بالذنب، لأنه يأتي عليه وقت يصدّق ما
يقال له من أنه بغيض أو سيئ الشكل أو ضعيف أو ثقيل الظل، فتضعف ثقته بنفسه، ويتعاظم
شعوره بالذنب والدونية.
رابعًا: تراجع التحصيل الدراسي وفقدان التركيز: وذلك بسبب الحالة النفسية السيئة
التي يصاب بها الطفل، والتي تستولي على عقله وتفكيره، فيصبح ذهنه مشتتًا ذاهلاً
وتصعب عليه الدراسة بكافة صورها.
خامسًا: الإصابة بالرهاب الاجتماعي، وهذا ناتج عن ضعف ثقة الطفل بنفسه، فيصاب
بالتأتأة واللجلجة في الكلام، ويتنامى لديه الشعور بالخجل الـمَرَضي غير المبرر
والخوف من الظهور في التجمعات العائلية وما شابهها.
التدابير الواجبة على أهل الضحية:
بصفتك والدًا يتعرض ابنه لهذا الإيذاء، كيف يمكنك توجيهه لمواجهة هؤلاء المتنمرين؟!
إن مواجهة المؤذين والمتنمرين تحتاج إلى تدريب، فالأمر ليس سهلاً، وكثيرًا ما يكون
المتنمرون أكبر من الطفل في السن والحجم، وربما تكون شخصيتهم أقوى من شخصية الطفل
أيضًا، فهم يتلمسون نقاط ضعفه لينفذوا إليه من خلالها، ويبحثون غالبًا عن الطفل
الضعيف ليظهروا قوتهم عليه ويؤذوه، وهذا يجعله يخشى مواجهتهم حتى لا يتمادوا في
إيذائه. لذا فمواجهة المتنمرين لها اتجاهان:
1- اتجاه قبلي (قبل وقوع التنمر).
2- اتجاه بعدي (بعد وقوعه).
فأولاً الإجراءات القبلية:
هناك بعض التدابير الوقائية التي يجب على المربي أن يوجه الطفل إليها قبل حدوث
التنمر أصلاً، ليقيه التعرض لمثل هذا الانتهاك، مثل:
- بناء علاقة قوية وإيجابية مع الطفل مبنية على الثقة، بحيث إذا تعرض الطفل لهذه
الجريمة يحكي لمربيه أو معلمه عنها ليتخذ الإجراء المناسب. وعليه أن يذهب للمعلم أو
الاختصاصي الاجتماعي بالمدرسة في الحال ليشتكي إليه، وعلى المعلم أو المختص أن
يستجيب له ويحقق في الأمر ويتخذ إجراءً حاسمًا عند ثبوت الواقعة منعًا لتكرارها.
وهذا كله لن يحدث إلا بعد بناء جسر قوي من الثقة مع الوالدين أو المعلمين، فغالبية
الأطفال الذين يتعرضون للإيذاء يمتنعون عن الإفصاح عما وقع لهم بسبب خوفهم من
التوبيخ أو حدوث مزيد من الإيذاء.
- أيضاً تثقيف الطفل عن قضية التنمر، وعن الأذى المحتمل التي قد يتعرض له ممن حوله
وأن هذا أمر طبيعي يمكن التعامل معه، لكن دون تخويف حتى لا يكره المدرسة ويصاب
بصدمة تحجبه عن ممارسة أنشطته الاجتماعية. بالإضافة لتوعيته بما يمكن أن يفعل إذا
تعرض لذلك.
- بالنسبة للأطفال الذين يعانون من مشكلة خَلْقية معينة هي مثار سخرية الآخرين،
كالتأتأة أو كبر حجم الأنف أو الأذنين أو قبح الملامح أو قِصَر القامة أو ما شابه
ذلك؛ فهؤلاء على وجه الخصوص ينبغي على الأسر استشارة مرشد نفسي لمعرفة كيفية
التعامل معهم ووضع خطة لزرع قناعات عقلية لديهم لتقبل عاهاتهم أو المشكلة التي
يعانون منها فلا تسبب لهم مشكلة نفسية.
- كذلك تدريب الطفل بدنيًا على مواجهة من يعتدي عليه بالضرب، فيتعلم كيف يدافع عن
نفسه ولا يكون فريسة سهلة للمؤذين. وأعتقد أن هذا صار من الأمور اللازمة للطفل في
هذا العصر، لاسيما في ظل ارتفاع نسبة العنف والاعتداءات على مستوى العالم، أو على
الأقل تعلم بعض المهارات الدفاعية البسيطة. ويمكن للوالد تدريبه في المنزل بخلق
موقف تدريبي مشابه لما يتعرض له من تنمر في المدرسة، وتكرار الحيلة الدفاعية على
الوالد حتى يتقنها الطفل تمامًا.
- تعليم الطفل أنه إذا شعر بالخطر ألا يسير وحده، وألا يدخل الصف أو المرحاض وحده،
بل يتحرك وسط زملائه وأصدقائه، أو يلجأ لغرفة المعلم أو المدير، أو أي أحد من
الكبار ليحتمي فيهم.
-
بث الثقة في نفس الطفل في قوته وقدرته على مواجهة المعتدين، فكثير من ضحايا التنمر
لا تنقصهم القوة الجسمية، لكن فقط تنقصهم الشجاعة والثقة،
وأكبر الأضرار التي يسببها التنمر هو زعزعة الثقة في القوة الذاتية للطفل بسبب
الاستفزاز والتوتر الناجم عنه، لذا فأهم ما يمكن للوالدين مساعدة الطفل به هو إعادة
هذه الثقة إليه مرة أخرى.
ثانيًا: الإجراءات البعدية (بعد حدوث التنمر):
- حينما يأتي الطفل شاكيًا، فعلى الأبوين أن يحتفظا بهدوئهما جيدًا ولا يصرخا فيه،
فهذا سيزيد شعوره بالعجز وستسوء حالته النفسية أكثر، لكن نستمع بهدوء ليشعر بالدعم
النفسي أولاً، ولنعرف أبعاد الموضوع بالتحديد ونستطيع التدخل بحكمة. ولكي نشجعه على
إخبارنا مرة أخرى إذا تكرر الأمر معه لنبحث الأمر معًا لنستكشف الحلول لهذه الأزمة.
- الدعم النفسي للطفل من أهم الأمور في هذه المرحلة، فمشاعره في هذا الوقت تكون
مضطربة للغاية، ويسيطر على حالته النفسية التوتر والقلق والخوف وربما الاكتئاب،
فتطمينه وتهدئته ودعمه من أهم ما يمكن أن يقدَّم له في هذا التوقيت.
- التدخل الشخصي لدى المدرسة لاتخاذ الإجراء المناسب تجاه الطفل المعتدي، وهذا
الإجراء له بعدان: البعد الأول هدفه زجر المعتدي وكفه عن التمادي في الإيذاء،
والبعد الثاني وربما الأهم هو الدعم النفسي الكبير للطفل وإشعاره بأن هناك من يحميه
ويعضده ويقف بجانبه ضد أي اعتداء يقع عليه.
- ضرورة تدخل الكبار لحل هذه الأزمة، سواء أكانوا المعلمين أم الاختصاصيين
الاجتماعيين أم المشرفين التربويين أم الآباء أم غيرهم، فحسب الإحصائيات فإن 57% من
حالات التنمر توقفت عند تدخل الآخرين لوقفها. وهذه نسبة جيدة يمكن استغلالها
لمحاربة هذا المرض.
طفلي متنمر.. كيف أتعامل معه؟!
علاج المتنمرين من أهم الأمور المتعلقة بموضوع التنمر، وبكل أسف لا يتعرض له كثير
من الاستشاريين أو المرشدين التربويين أو الباحثين، فغالبية المهتمين بالموضوع
يتحدثون فقط عن الطفل الضحية وكيف نعالجه ونحميه من المتنمرين، ونادرًا ما تجد من
يهتم بالمتنمر وعلاجه وتقويم سلوكه.
الطفل المتنمر يشكل خطورة على جميع من حوله، على أصدقائه وزملائه، وحتى على أفراد
أسرته جميعًا، فإخوته الصغار ووالداه كذلك معرضان -حالاً أو مآلاً- لينالهم نصيبهم
من أذاه، لاسيما أن مقدار هذا الأذى يكبر ويتعاظم بِكِبَر سن الطفل ونمو جسده إذا
لم يُردع ويعالَج ويقوَّم؛ فإنه إذا كان يمارس هذا الأذى في صغره على إخوته وزملائه
وأقرانه في السن فيما يكف أذاه عن والديه وعن الكبار؛ إلا أنه لا محالة سيمتد أذاه
لهما بعدما يشتد عوده ويقوى على مواجهتهم وأذاهم. المسألة فقط مسألة وقت.
لذا فأول ما ينبغي فعله أن نعلم الخلفية النفسية التي جعلت هذا الطفل يؤذي من حوله؛
فكثير من المتنمرين والمؤذين لديهم عقدة أو نقص عاطفي أو اضطراب نفسي ما يحاولون
تعويضه بهذا السلوك، فمثلاً الأسرة غير المستقرة التي يتشاحن فيها الوالدان هي أحد
الأسباب، والعنف الأسري وضرب الطفل ضربًا مبرحًا هو أيضًا أحد الأسباب. والضعف
الدراسي كذلك، فهو يحاول تعويضه باضطهاد المتفوقين الذين أصبح يكرههم لتفوقهم.
أيضاً تعرض الطفل سابقًا للتنمر يجعله أحيانًا يصبح متنمرًا جديدًا لينتقم مما حدث
له. مشاهدة الأفلام والمسلسلات العنيفة أيضًا أحد الأسباب التي تجعل الطفل عنيفًا
ويمارس العنف على الآخرين. وهنا ربما يحتاج الأمر لتدخل من أحد المختصين لوضع خطة
علاجية مناسبة إذا كانت الحالة تستدعي. فهذا أولاً، يجب فهم الأسباب التي أدت
بالمتنمر إلى ذلك السلوك لعلاجها.
ثانيًا: إذا تأكدت أن طفلك متنمر فتعامل مع الأمر بحكمة وهدوء، لفهم الموقف وأبعاده
بالتحديد. وتجنب أيضًا الصراخ والتهديد، وتجنب اتخاذ أي قرار في وقت غضبك حتى لا
تتفاقم المشكلة.
ثالثًا: عليك أن تقتنع أولاً بداخلك أن طفلك مخطئ، لأن كثيرًا من الآباء يعتقدون أن
الطفل المؤذي شجاع وقوي يستطيع أخذ حقه بذراعه كما يقولون، إلا أن هذا خطأ، وهذا
الطفل ما لم يقوَّم سلوكه فهو مشروع مجرم صغير قد يتطور به الوضع إلى ما هو أكبر
كارثيةً من ذلك. وكثير من المجرمين والقتلة المتسلسلين والسفاحين كانت لديهم عقد من
الطفولة من هذه النوعية.
رابعًا: بعد وقوفنا على الخلفية النفسية والسبب الذي دفع الطفل لهذا السلوك كما
ذكرنا في النقطة الأولى، علينا وضع خطة مناسبة لعلاج السبب، فإن كانت مشاهدة أفلام
العنف أوقفناها، وإن كان العنف الأسري عالجناه، وإن كان الضعف الدراسي والغيرة من
المتفوقين ساعدناه في عملية التحصيل الدراسي... وهكذا.
خامسًا: تغيير قناعات الطفل عن مدى فداحة هذا الأمر ومقدار الأذى الذي يسببه
للآخرين عندما يقوم بهذا السلوك، وأنه لا يعوض ما يشعر به من نقص بل يفاقمه، وهذا
ما نسميه (العلاج المعرفي السلوكي) الذي يتضمن تغيير أفكار المريض السلبية عن نفسه
وعن سلوكه في محاولة لتغييرها نحو السلوك السوي الطبيعي.
سادسًا وأخيرًا: وضع الطفل في بيئة اجتماعية سوية، وإبعاده عن المؤذين من الأقران
والأصدقاء، فإنهم يعين بعضهم بعضًا على إيذاء الآخرين. وتعليمه تقدير مشاعر
الآخرين، وأن يعاملهم كما يحب أن يعاملوه.