صدرت السيرة الذاتية للشيخ سليمان الراجحي في كتاب يضم (450) صفحة، بطباعة فاخرة على ورق شامواء، ونشرت طبعته الأولى دار الزازان عام 1434، وريعه لصالح مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية، وهو كتاب سردي جميل.
ولم تُذكر أسماء الهيئة المشرفة، والخط الأسود العريض المستخدم في المقدمة والخلاصة والهوامش متعب للقارئ، ويوجد أخطاء طباعية بعضها محرج! كما يوجد ملحوظات نحوية وترقيمية يسيرة. وبما أن الكتاب قد طبع بعد وفاة بعض الشخصيات العامة المذكورة فيه فلو أشير لذلك لكان حسنا، ويتميز غلاف الكتاب بصورة حديثة جداً للشيخ سليمان.
ولد الشيخ عام 1348 في البكيرية التي يحبها كثيرا، وبعد انتقاله للرياض وتملصه من الدراسة مارس غير ما مهنة؛ حيث عمل حمالاً ورماداً وطباخاً وقهوجياً وصبياً وصرافاً وجرب أنواع التجارة بنفسه، ولازال يحتفظ بعدة بيع الكاز. ولا تعجبن من هذه المهن وذاك الجلد؛ بل العجب من رجل لايعرفه جل القراء إلا ثرياً سرياً ثم هو يقول لهم بفخر لقد كنت حمالاً وطباخاً!
وفي طفولته بالرياض كان شاهداً على حركة احتساب مباركة، وبدايات موفقة لتعليم القرآن الكريم، ولا يزال يذكر حادثة أسراب الجراد ودرسها البليغ؛ حيث قضت على جل المزارع وأنجى الله مزارع المشهورين بالصدقة والعطاء، وكأنه درس يلقى في روع الصبي الذي سيكون يوماً ما من أئمة الواقفين والمنفقين.
وفي الكتاب أدب جم، وخفض جناح للوالدين وآلهما ومن ارتبط بهما، وحب كبير للأشقاء والإخوان، وخاصة لأخيه الأكبر ومعلمه الشيخ صالح الذي غادر دنيا الناس قبل سنوات. كما يلحظ القارئ اعتزاز الشيخ بأصدقائه وذكرهم والثناء على جميلهم، وقد خص آل السبيعي الكرام بمزيد تبجيل وإطراء لكرمهم وطيبتهم واستضافتهم إياه في منزلهم مع أنه ينافسهم في تجارتهم! فما أجمل أخلاق أولئك الذين سموا عن الدنيا وعرفوا قدر الأخوة وحقوق الصداقة.
وقد سافر الشيخ كثيراً، وطرق بيروت ودمشق وعمان ولندن مئات المرات، وكانت سفراته جادة محددة الهدف، ولم يلهو بحرام مع أن الفحشاء جاءت إليه تسعى على هيئة نادلة أو شريكة في غرفة! لكن الله عصمه ووقاه، ولذا فليس للراجحي ريال واحد في نشر المجون كما يفعل المفسدون من الأثرياء الذين غرقوا بالآثام ممارسة ونشرا.
وفي أعماله ومعاملاته كان عظيم الثقة بربه، صادق التوكل عليه مع فعل الأسباب الحلال، ولذا فجلُّ أعماله بلا تأمين، ويرسل أكياس المال والذهب دون أن يعرف اسم حاملها، ويثني على الله أنه لم يخسر من أثر هذه الطريقة الجريئة.
ومن خبره في عمله أنه يكون أول الواصلين وآخر المنصرفين، ويقف على العمل بنفسه، ويتعلم من أي أحد، وينغمس في الموضوع الذي يشغل باله حتى يبدو خبيراً فيه، ويكسر عادة التأجيل، ويتخلص من مضيعات الوقت، ولا يعرف شيئاً اسمه ضغط العمل.
وأما تجارياً فيستثمر-بإبداع وريادة- الفتات والنشارة وأوراق الشجر وروث الحيوانات، ويخيل للقارئ أن أي شيء في ممتلكات الراجحي عرضة للاستثمار ولو كان ذرة رمل أو نسمة هواء! ويحث رجال الأعمال على اكتشاف المهمل؛ وكم ترك الأول للآخر. وإذا احتاج لخبراء فإنه يبحث عن خبرات محلية ثم إسلامية ثم دولية؛ فهو ليس مفتوناً بزرق العيون، ويحب أن يكون خيره للأقربين،
ولإحساسه الديني والوطني فقد ضرب بسهم وافر في مشاريع الزراعة والصناعة وتربية الحيوانات، وتحظى المنتجات الزراعية والحيوانية في مشاريعه بعناية تامة حتى أن تيساً في البسيطاء ينال من الرعاية والحقوق أكثر من بعض الناس! ومشاريعه تستوعب المواطنين توظيفاً وتدريباً وتأهيلا، وأظن أن الذي يعمل في مشاريع الراجحي ويطيل المكث فيها لا يكون إلا جاداً مقبلاً على العمل غير مدبر أو متحيز لراحة.
وأسهب الراجحي في الحديث عن أولاده وبناته، وعن زوجاته وإدارته للتعدد وحسن تدبيرهن للمنزل، وقال كلاماً جميلاً عن تجربته في التعدد يصعب عليَّ نقله! ومن خبره مع أولاده أن مصروفهم المدرسي في المراحل الدراسية الثلاثة متواضع جدا، ولا يمتلك الابن سيارة إلا بعد انتهائه من الثانوية العامة، بينما لا تنافس كريماته في سوق الوظائف، وفلسفته في ذلك أن الله قد أغناهن فليتركن الفرصة لغيرهن!
ولم تمنعه أشغاله وسفراته من حسن تربية أبنائه وتهيئتهم للحياة إن في التعليم أو التجارة، أو في البيوت والحياة الزوجية، حتى تحصل أولاده على تأهيل علمي متنوع وعال، وشارك كبارهم معه في بدايات أعماله، وكان يحرص على أن تكون حياتهم معتدلة بلا بذخ ولا تقتير.
وبتحرج وخوف يحسبان له، وصف الشيخ سليمان الراجحي أعماله الخيرية، التي توجها بمؤسسة رائدة تحمل اسمه، وتنتشر فروعها في مناطق المملكة، ويصل خيرها للقاصي والداني، ثم أتمها بوقف محكم يضمن استمرار عمله الصالح، ومنها جوامعه الضخمة التي لايكاد أحد يجهل خبرها، فقد كفى الناس هم تجهيز موتاهم وفق السنة الشريفة، وإنه لإمام يقتدى به في الخير، وإنه لأمة في هذا الباب، وعسى أن يجعله الله للأثرياء إماماً يستفيدون من تجربته وله أجر الدلالة والابتداء.
ويبدو أن الرجل أدمن البذل، حتى صار صرف مليون ريال في عمل خيري أيسر عليه من دفع هللة فيما لا طائل منه البتة! ومن تجربته الخيرية يوصي الأثرياء باختيار الثقات المؤهلين لإدارة عملهم الخيري ليأمن المنفق ويتفرغ لشأنه. وقد أثنى على أسرته في دعمها له باتجاه الخير والوقف، وكم من زوج أو ولد كان سبب فتنة وصد عن سبيل الإنفاق، لكن الراجحي محفوف بتوفيق الله له حتى في أسرته.
ولا يخلو الكتاب من قصص طريفة، منها استدلاله بضخامة بطن رجل على رخص أسعار مطعم، ومشروع زواج بكابل لم يتم، وطائرة إيران التي أخافت ركابها، وسائق الأجرة في بيروت الذي كاد أن يسرقه، وقبول دعوة أكاديمي في لندن بشروط إسلامية ملخصها منع الاختلاط وخلو الطعام من المحرمات، وقصص هروبه بقطعة لحم أو برأس خروف؛ ويجري خلفه في طلبه أكابر أثرياء البلد حاليا!
ويؤكد الشيخ أنه هو هو لم يغيره الغنى، وأن ذكريات حياته السالفة لم تغب عن ذهنه أبدا، وينصح بالمشي الذي يمارسه فيفيد بدنه ويعطيه طاقة فكرية خلاقة. وقد أشار من باب التحديث بنعمة الله أنه قد مل من الأمنيات؛ فكل أمانيه السابقة تحققت بفضل الله بعد أن جهد وسعى في بلوغها، وكأنه يشير إلى أن أمنيته الباقية رضا الرب، ودخول الجنان، فاللهم أطل عمر عبدك على طاعتك، ووفقه للخير والمعروف، وأصلح له عقبه وآله، ثم اختم له بإحسان منك ورضا وجنان عالية.