"المُستنفرون" من هم وكيف ظهروا؟ وما هي قضيتهم وأهدافهم؟ وما علاقاتهم بقوات الدفاع الشعبي والتي تأسست في التسعينات لتساعد الجيش؟ وهل يمكن اعتبارهم أداة استراتيجية، وورقة مساومة في يد طرف من أطراف الصراع في السودان؟
في خضم الحرب المستعرة الدائرة الآن في السودان في العديد من ولاياتها، ظهر مصطلح
جديد أصبح يُطلق على قوات شعبية سودانية وهم (المُستنفرون).
ويدخل المستنفرون هؤلاء، كطرف جديد في معادلة الصراع السوداني والذي لا يبدو له أفق
أو نهاية قريبة، والذي يحوي جماعات وتنظيمات مسلحة وسياسية داخلية، غير القوى
والدول والمنظمات الإقليمية والدولية.
ولا شك أنه طالما أن هذه القوات تنتمي إلى أحد طرفي الصراع، فإن داعمي الفريق الآخر
سيكيلون لها الاتهامات، بينما ينبري الفريق المقابل في الدفاع عنها.
ولكي تجلو الحقيقة لابد من استعراض وجهة نظر الفريقين في ادعاءاته، لكي نستطيع
تقويم تلك القوات وتأثيرها على الحرب الجارية في السودان.
ولكن قبل ذلك يجب معرفة نشأة المستنفرين.
النشأة والتعريف
المستنفرون هم المدنيون الذين أعلنوا الانضمام لصفوف الجيش لمقاتلة الدعم السريع في
مدن السودان المختلفة، وأولئك الأشخاص كما يقولون فقد قاموا بتلبية نداء الجيش
بالنفير وللقتال.
ولكن عندما نتحدث عن أصول كتائب المستنفرين لابد لنا من نعرف من أين أتوا؟ وكيف
تكونوا؟
بحسب دراسة للمعهد العالي للدراسات الدولية في جنيف، فإن أصول هذه المجموعات ترجع
أصلا إلى ما يعرف بقوات الدفاع الشعبي، والتي تم تشكيلها باعتبارها كيانًا قانونيًا
في نوفمبر عام 1989، وضمت في صفوفها عددًا من المجموعات الإسلامية المسلحة كما بلغ
عددها نحو 100 ألف مقاتل، قبل أن تُحل من قبل وزارة الدفاع بعد الإطاحة بعمر
البشير، ويتم تحويلها إلى قوات احتياط تابعة للوزارة في السابع من يناير 2020.
|
ترى المعارضة السودانية اليسارية والقومية في المستنفرين خطورة على
مستقبلها ودورها في السودان، خاصة أنها تتمتع بجماهيرية واسعة بين كثير من
فئات الشعب، بينما تلك المعارضة تعاني من كونها معارضة نخبوية |
بينما تذكر مصادر صحفية أخرى، أن قوام هذه القوة عناصر من حزب المؤتمر الوطني الذي
حكم السودان ما بين عام 1989 و2019، ويتكونون من عدة كتائب أشهرها كتيبة البراء بن
مالك التي ظهرت في مقاطع فيديو عديدة بدت فيها تشارك في المعارك الجارية وقائدها
شاب اسمه المصباح أبو زيد طلحة.
ويظهر فيديو نُشر على صفحة (إدارة الاحتياط - القوات الخاصة السودانية) شعار كتيبة
البراء بن مالك يشبه بشكل واضح شعار قوات الاحتياط، ويظهر الفيديو أيضًا عناصر
تابعة للكتيبة يعبّرون عن سعادتهم باستلام التسليح لمواجهة قوات الدعم السريع.
وهناك تحقيق نشرته صحيفة العربي الجديد، يتتبع الفيديوهات التي تم نشرها لكتيبة
البراء بن مالك، وتظهر هذه الفيديوهات احتشاد قواتها وقوات كتائب شعبية أخرى في
معسكر نسور الاحتياطي المركزي لدعم
الجيش السوداني، كما ظهر في العديد من الفيديوهات التعزيات والنعي لأفرادها الذين
قتلوا جراء قتالهم ضد الدعم السريع، أي أن هذه القوات تتبع رسمياً قوات الاحتياط
التابعة لوزارة الدفاع السودانية.
وكدليل على عمق العلاقة بين قيادة الجيش السوداني والمستنفرين، وما تأمله منها
تحقيقه، قام قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان بزيارة لقائد كتيبة البراء بن
مالك المصباح ابو زيد طلحة، عندما أُصيب خلال اشتباكات بين الجيش والدعم السريع
بالخرطوم منذ عدة أشهر، حيث كان يرقد بمستشفى عسكري بعطبرة.
وفي سبتمبر الماضي كتب المصباح أبو زيد في صفحته على الفيسبوك، أن قواته قد وصل
تعدادها إلى21 ألف خلال فترة الحرب، ومن أجل ذلك فقد قررت قيادة كتيبة براء بن مالك
تغيير اسمها إلى لواء.
والملاحظ أن صفحة الفيس يوك الخاصة بالكتيبة قد تم إنشاؤها، في نوفمبر عام 2021، أي
بعد شهر من إنهاء الفترة الانتقالية من قِبَل تحالف الجيش والدعم السريع في ذلك
الوقت أي ما أطلقت عليه المعارضة انقلابا، وتذكر مواقع على الانترنت أنه ارتفع
نشاط الكتيبة بعد ذلك التاريخ، ونجحوا في ربط عدد كبير من عناصرها عن طريق الزيارات
الاجتماعية، فأعادوا تقسيم العضوية إلى ثلاثة قطاعات في ولاية الخرطوم (بحري وأم
درمان والخرطوم) .
ولكن تلك الكتيبة والتي يمكن اعتبارها نواة المستنفرين، كان لها مواقف مستقلة عن
توجهات الجيش ومجلس السيادة، ففي مواجهة التطبيع مع الكيان الصهيوني والذي سار فيها
النظام السوداني بزعامة البرهان خطوات، تجمع عدد من أنصار كتيبة البراء بن مالك في
شارع النيل الأبيض وهم باللثام الفلسطيني رافعين سلاح ولافتة تحمل اسم الكتيبة،
منددين بالتطبيع
والتعاون مع الكيان الصهيوني.
ولا يبدو مشهد المستنفرين مقتصرًا على كتيبة البراء بن مالك، فبعد القتال الذي
اندلع في منتصف أبريل الماضي بين الجيش وميليشيا الدعم السريع، ظهرت كتائب أخرى.
ففي الثلاثين من أكتوبر الماضي، بثت وكالات الأنباء ما
أعلنته الهيئة الشعبية لنصرة القوات المسلحة السودانية (وهو الاسم الرسمي
للمستنفرين)، عن تخريج عدد (415) ألف مستنفر من ولايات السودان المختلفة. تم
تدريبهم تدريبا عالي المستوى على كافة أنواع القتال.
ووفق ما جاء في البيان، أعلن المستنفرون جاهزيتهم وحماسهم واستعدادهم للدخول في أرض
المعارك حال تم استدعاؤهم من رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الفريق
الركن عبد الفتاح البرهان.
وأكد المهندس أنور الصديق عبد رب النبي؛ المشرف العام للهيئة الشعبية لنصرة القوات
المسلحة بالسودان أن الجيش لن يهزم وخلفه مستنفرين الهيئة الشعبية لنصرة القوات
المسلحة السودانية.
وقال إن الذين تم تخريجهم وجاهزون الآن بلغ عددهم (415) ألف مستنفر، بالإضافة فإن
هنالك عدد مائة ألف الآن في معسكرات التدريب بولايات السودان المختلفة.
وقال عبد رب النبي مؤمنًا على الروح المعنوية العالية للمقاتلين والمقاتلات في كافة
الولايات، إنهم تحت تصرف ورهن إشارة القوات المسلحة الباسلة، وزاد إن التجهيز لهذه
الجيوش بالمعسكرات هو من قوت المواطن الذي يضحي بنفسه من أجل الوطن، وبعض رجال
الأعمال والتجار والشركات والمزارعين الحادبين على مصلحة الوطن إيمانًا منهم بالدور
المتعاظم للقوات المسلحة بحماية العقيدة والوطن والمواطن.
|
لقد
وجد الجيش نفسه متراجعا في مواجهة الدعم السريع، فبالرغم من عناصر التفوق
الجيش السوداني، سواء كان جويا أو على مستوى التسليح، إلا أن الأداء
العسكري له كان مخيبا للآمال |
وقال: كل الشعب السوداني ساهم في إعداد هذه المعسكرات، تحقيقًا لشعار الشعب
السوداني (جيش واحد شعب واحد).
ويلاحظ من تتبع أخبار المستنفرين، أنه بعد احتلال ميليشيا الدعم السريع لولاية
الجزيرة، تسارعت حملات التجنيد من قبل الجيش لأهالي كل ولاية، فتم تشكيل كتيبة في
كل ولاية، ليتم تدريبها وتسليحها لمواجهة أي اختراق جديد لميليشيا الدعم السريع.
نظرة المعارضة للمستنفرين
ترى المعارضة السودانية اليسارية والقومية في المستنفرين خطورة على مستقبلها ودورها
في السودان، خاصة أنها تتمتع بجماهيرية واسعة بين كثير من فئات الشعب، بينما تلك
المعارضة تعاني من كونها معارضة نخبوية،
يرى فيها كثير من السودانيين، أن لها أجندة خارجية ترتبط بدول إقليمية ودولية،
تحارب هوية السودان وثقافته الإسلامية.
وتتولى بعض المصادر السودانية القريبة من المعارضة السودانية وجهة نظر والتي تزعم
أن هناك أشخاص ذوي سمعة سيئة وسلوكيات مخزية، قد انضموا الى المستنفرين ليتمكنوا من
الحصول على السلاح والتجول بحرية وسط الأحياء السكنية بالخرطوم والمواطنين دون رقيب
أو حسيب، ليقوموا بجرائم السلب والنهب.
وأعربت بعض قيادات المعارضة عن خشيتها، من تحول المستنفرين إلى مهدد أمني جديد لن
تستطيع السلطات الرسمية السيطرة عليه حتى بعد وقف إطلاق النار واسكات صوت البنادق
بين الطرفين المتحاربين، خاصة أن تجربة البشير من استخدام الدعم السريع لازالت حية
أمامهم كما يزعمون.
ويقول الطرف المنتقد لظاهرة المستنفرين، أنه منذ بدء الصراع في أبريل، تم استخدام
المستنفرين كدروع بشرية في الصفوف الأمامية في الحرب، أو ككواشف ألغام، مثلما كان
يحدث في حرب الجنوب مع جارانج، لزيادة عدد القتلى فيؤدي ذلك إلى ارتفاع حالة الحنق
الشعبي ضد قوات الدعم السريع. هذه الاستراتيجية تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية ترمي
إلى البقاء في السلطة والتشبث بها كما يزعم هؤلاء.
فالمستنفرون في نظر هذا الطرف العلماني، ما هم إلا شباب صغار جاهل بالحرب وغير مجهز
للقتال، سُلحوا بالسلاح الخفيف مثل كلاشينكوف ومؤن غذائية عبارة عن تمر وبصل!، وما
لبثوا أن وجدوا أنفسهم في مواجهة شرسة مع قوات خبيرة بمثل هذا النوع من المعارك،
على حد تعبير أحد الأبواق الاعلامية للمعارضة.
مستقبل المستنفرين
يتضح مما سبق أن الجيش السوداني هو الذي لجأ الى تلك الاستراتيجية، أي تجنيد
المدنيين في الحرب ضد ميليشيا الدعم السريع، ولكن لماذا لجأت قيادة الجيش إلى مثل
تلك الاستراتيجية؟
لقد وجد الجيش نفسه متراجعا في مواجهة الدعم السريع، فبالرغم من عناصر التفوق الجيش
السوداني، سواء كان جويا أو على مستوى التسليح، إلا أن الأداء العسكري له كان مخيبا
للآمال،
وبدت استراتيجية الدعم السريع هي الأنجع، خاصة أنها تستخدم أسلوب حرب العصابات، أي
(الكر والفر) الهجوم السريع ثم الفرار متخذة من منازل المدنيين حصنًا لها، ومخبأ من
ضربات الجيش الموجعة وخاصة الجوية.
ونتيجة لذلك ظل الجيش
يخسر الموقع تلو الموقع أمام قوات الدعم السريع، وتساقطت العديد من المدن، هنا لجأ
الجيش إلى استراتيجيته القديمة والتي نفذها أمام تمرد جارانج في التسعينات، وهي
العودة إلى إحياء قوات الدفاع الشعبي، وتجنيد الشباب والمدنيين وتدريبهم وتسليحهم.
ولكن هذه الاستراتيجية أي استنفار المدنيين، لم تفلح في مواجهة ميليشيات الدعم
السريع في ود مدني، فقد سقطت المدينة في أيدي تلك الميليشيات بالرغم من وجود
المستنفرين، بل قبل نحو أسبوع من اجتياح الدعم السريع لود مدني، وقف عبد الفتاح
البرهان قائد عام الجيش، ورئيس مجلس السيادة خطيبا أمام جند المدينة، مبشرا
المواطنين بأن القيادة العسكرية في المدينة قامت بتجهيز 40 ألف متطوع، ليحاربوا
جنبًا إلى جنب مع القوات المسلحة لسحق تمرد الدعم السريع، وبالرغم من ذلك سقطت
المدينة.
والأعجب هو تبرير قائد كتيبة البراء بن مالك المصباح أبو زيد، والذي فاجأ الناس
بتسجيل صوتي له، قال فيه إن الجيش عجز عن تسليح آلاف المستنفرين، وإنه كان داخل مقر
القوات المسلحة في ود مدني مسلحًا ببندقية فيها طلقة واحدة فقط، عندما انتبه هو ومن
معه إلى فرار بعض الجند، فما كان منه إلا أن تسلل خارج المقر، وسار في شوارع
المدينة لساعات طويلة دون أن ينكشف أمره، حتى وصل إلى بلدة في أطراف المدينة،
واستقل منها سيارة وابتعد عن المنطقة الساخنة.
وبذلك أثبت سقوط ود مدني، أن الموضوع ليس نقص عدد في المقاتلين ليتم استكمالهم من
المستنفرين، بل هو استراتيجية قتال عقيمة يخوض الجيش بها القتال، والذي يعجز عن
توفير حتى طلقات الرصاص لأسلحة المستنفرين، فضلاً عن خطة واضحة يتحركون بها.
ونأمل أن يتجاوز الجيش السوداني تلك السلبيات والأخطاء، لكي يستطيع الإبقاء على
السودان ليس فقط موحدًا، ولكن محافظًا على هويته وثقافته ليحبط مؤامرات أعداء
السودان والمتربصين به.