فالولايات المتحدة تريد هندسة الإقليم بجعل إسرائيل على رأس القيادة العسكرية في المنطقة، للتفرغ للخصم الأخطر وهو الصين، وعلى ذلك تم الإعلان عن الشق الاقتصادي في استراتيجيتها تجاه الشرق الأوسط وهو الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا
إسرائيل ما هي إلا ولاية أمريكية صغيرة لها دور وظيفي في المنطقة، لذلك فقرارات الحرب والسلام بالنسبة لإسرائيل كلها تصنع في أروقة المؤسسات الأمريكية السيادية المخابرات والجيش ووزارة الخارجية ومؤسسة الرئاسة خاصة مستشار الأمن القومي.
بنت الولايات المتحدة استراتيجيتها الجديدة في منطقتنا على أساس تهدئة التوتر تمهيدًا لتفعيل اتفاقات أبراهام، لجمع الشركاء في صيغة مشتركة في الشرق الأوسط حددتها هي. وقد خطت الاستراتيجية الأمريكية خطوات واسعة في ذلك فأدخلت عددًا من الدول العربية (الإمارات والبحرين والسودان والمغرب) في بوتقة التطبيع.
نعود إلى قصة إيكوم، في كل الدول يتم تقسيم هيكل القوات العسكرية بحسب المناطق داخل حدودها، فتجد قيادة المنطقة الشمالية مثلا أو الشرقية وهو تعني تلك المناطق داخل حدود الدولة نفسها، لكن في الولايات المتحدة الأمر يختلف، فخريطتها هي العالم كله. فهناك القيادة العسكرية الأوروبية ويقع مقرها في مدينة شتوتغارت بألمانيا وتعرف اختصارا بـ"ايكوم" وكانت إسرائيل منذ نشأتها تابعة لتلك القيادة، وهناك القيادة العسكرية للمنطقة الجنوبية وتشمل دول قارة أمريكيا الجنوبية ومقرها في بنما، بالإضافة إلى القيادة العسكرية في أفريقيا وتعرف بـ"أفريكوم"، وقيادة الأطلنطي، وقيادة الباسيفيك ..إلخ، أما المنطقة الأهم والتي أطلقت عليها الولايات المتحدة قيادة عمليات المنطقة المركزية، فهي منطقة الشرق الأوسط "سنتكوم"، وتم نقل "إسرائيل" لتكون تابعة لتلك القيادة، حيث سيكون عليها الانصهار والتعاون مع بقية الدول الحليفة والتابعة لتلك القيادة في المنقطة.
من هذا المنطلق أعلنت القيادة المركزية الأمريكية" أن هناك فوائد عديدة من اصطفاف إسرائيل ضمن سنتكوم، حيث سيساعد ذلك على عقد اجتماعات مع الشركاء المعنيين، وتعزيز الأطر الأمنية الإقليمية، وإجراء تدريبات مشتركة تشمل "جيش الدفاع الإسرائيلي"، وسيمنح ذلك إسرائيل منتدى للتواصل مع الدول التي لم توقّع بعد على اتفاقيات سلام. وقد تؤدي إعادة الاصطفاف أيضاً إلى نقل بعض العبء من الولايات المتحدة إلى الكاهل الإقليمي.[1]
فإسرائيل إيكوم غير إسرائيل سنتكوم، فالأخيرة سيكون لها دور إقليمي أكبر خاصة في الجوانب العسكرية، فالولايات المتحدة تريد هندسة الإقليم بجعل إسرائيل على رأس القيادة العسكرية في المنطقة، للتفرغ للخصم الأخطر وهو الصين، وعلى ذلك تم الإعلان عن الشق الاقتصادي في استراتيجيتها تجاه الشرق الأوسط وهو الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، والذي هو بالطبع بديلا عن المشروع الصيني "الحزام والطريق" والذي تعمل عليه الصين منذ سنوات.
قبل عملية طوفان الأقصى كانت الأمور تسير على نحو مثالي بالنسبة لإعادة هندسة المنطقة والتي عملت عليها العديد من مراكز الأبحاث الأمريكية لسنوات وخرجت للنور وبدأت بوادر ثمراتها بالفعل في دخول العديد من الدول العربية في اتفاقات التطبيع.
مثلت عملية طوفان الأقصى حجر عثرة كبير، وضربة لم تكن متوقعة. أدت إلى ارتباك في الحسابات لدى مصممي تلك الاستراتيجية.
لكن الذي بات يقلق الولايات المتحدة أكثر هو إجراءات وتصرفات زعامات تلك الدولة الوظيفية، فنتنياهو يسعى لتوسيع دائرة الحرب وليس إلى إنهائها، فبدأ بالتحرش بالسلطة الفلسطينية، وإطلاق التصريحات أنها تريد تدمير إسرائيل، ورفضه أي دور لها في المستقبل، وأنه لا يريد أن يكرر اتفاقية أوسلو، وكلها تصريحات تمهد إلى إشعال الحرائق هنا وهناك واصطناع معارك جديدة تحرق الأرض وتودي بعملية التهيئة التي سعت إليها الولايات المتحدة بدعم الاستقرار والتهدئة في المنطقة، وهذا ما ينسف جهود الولايات المتحدة لسنوات.
لا غرو إذا أن تحذر الولايات المتحدة ربيبتها من الاستمرار في الحرب وهي الخبيرة بفيزياء النصر والهزيمة. في قوانين الفيزياء الطبيعية ما يعرف بمعامل المرونة، وهو يختلف بحسب طبيعة الأجسام وقدرتها على الصمود تحت ضغط معين قبل أن تنكسر، فقوة الضغط التي تكسر لوحًا من الزجاج، تختلف عن قوة الضغط التي تكسر لوحًا من الحديد، وهو ما اتفق العلماء على تسميته معامل المرونة. وفي السياسة الصلبة وهي الحرب فإن أمريكا لديها قدرة فائقة على تقدير معامل المرونة لقوتها الواقعة تحت الضغط لتسحبها قبل أن تنكسر، تعرف الولايات المتحدة هذا الأمر جيدا.
والذي تابع كيف انسحبت أمريكا من أفغانستان بعد ما يقارب العشرين عاما من الحرب، يعرف أنها رضخت لكافة مطالب حركة طالبان بما فيها شرطها أن الإفراج عن أسماء بعينها ليقودوا هم وفد طالبان في المفاوضات مع الوفد الأمريكي، من السجن إلى قاعة المفاوضات مباشرة، وقبلت الولايات المتحدة ذلك لأنها تدرك أن معامل بقاء قواتها أوشك على الانكسار أو بدت شروخه على الأقل.
لذا فإن الولايات المتحدة تدرك أن جيش إسرائيل على حافة الانهيار، وأن أرجله تغوص أكثر كلما امتدت فترة الحرب لذلك جاءت التحذيرات بداية على لسان وزير الدفاع الأمريكي أن الهزيمة ورادة، ثم خرجت تحذيرات بايدن العلنية لرئيس الوزراء الإسرائيلي أن توقف حتى لا تخسر كل شيء. وأن عليه تغيير الحكومة الحالية.
لكن هذا ما لا تطيقه حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل وما لا يستطيعه نتناياهو، وهو يعلم أن أي توقف عن القتال يعني أن ساعة محاسبته قد دقت، وأن جدران السجن تنتظره لا عن فشله في الحرب وفقط، بل على قضايا فساد ينافح منذ سنين للإفلات منها. أمريكا تملك من أوراق الضغط على حلفائها أكثر مما تملك على خصومها، لكنها في النهاية لا تريد أن تحطم أذرعها. لا تبدو سيناريوهات مفضلة للويلات المتحدة أو إسرائيل، كلاهما في ورطة كبيرة. ولا ندري هل تنقل إسرائيل إثر تلك الهزائم إلى قيادة أخرى. لقد نقلت الولايات المتحدة صنيعتها إسرائيل من قيادتها العسكرية "إيكوم" إلى قيادتها المركزية "سنتكوم"، لكن يبدو أن للمقاومة الفلسطينية رأي آخر ربما تنقلها أو نقلتها بالفعل إلى قيادة "نصف كوم".
[1] معهد واشنطن
https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/nql-asrayyl-aly-ntaq-ml-alqyadt-almrkzyt-alamrykyt-khtwt-akhry-nhw-alnwr