يرى رئيس مركز أورسام للدراسات في أنقرة البروفيسور أحمد أويصال أن أنقرة بشكل عام تعتبر القضية الفلسطينية أكبر من تركيا وحتى بعض الدول الفاعلة، وأن أي حل لها سيكون "حلًا مشتركًا"
إن المتأمل في موقف الدولة التركية من الأحداث الأخيرة التي اشتعلت على الأراضي
الفلسطينية خاصة بعد إطلاق حركة حماس لعملية "طوفان الأقصى" في يوم السابع من
أكتوبر، ربما يتحير بعض الشيء فيسأل نفسه، هل تمارس تركيا الدبلوماسية لتحقيق مكاسب
سياسية على حساب القضية الفلسطينية أم أن موقفها صادق وهذه هي إمكانياتها التي
تستطيعها حقًا في الوقت الراهن؟!
ولعل الجواب على هذا السؤال يتضح بشكل جليّ خلال السطور القادمة، حيث نتجول معًا في
تطوافة متأنية بعض الشيء ومتسارعة الخطى في ذات الوقت؛ للوصول إلى قناعة واضحة
وإجابة صريحة للسؤال الذي بدأنا به حديثنا وحيّر الكثيرين في الآونة الأخيرة بعد
تصاعد وتيرة الأحداث في فلسطين الحبيبة.
حراك دبلوماسي نشط
منذ أن شن الاحتلال الإسرائيلي الحرب على غزة، ندد الرئيس أردوغان بالمجازر العديدة
وما رافقها من ردود فعل غربية باهتة، وعلى الفور بدأ وزير الخارجية التركي "هاكان
فيدان" حراكًا دبلوماسيًا نشطًا لاحتواء التصعيد العسكري الإسرائيلي والحد من حجم
الخسائر في قطاع غزة التي شهد أعنف حرب عليه في الأيام الماضية.
|
ردًا على رفض إسرائيل وقف إطلاق النار ووقف الإبادة الجماعية التي ترتكبها
بحق الفلسطينيين، قطع الرئيس أردوغان كل الاتصالات مع رئيس الوزراء
الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعدما وصفه بـ "المجرم القاتل" |
وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده الشهر الماضي في بيروت قال فيدان: "إن القوى المهيمنة
بقوة إعلامها أنست العالم منذ فترة طويلة طبيعة المشكلة بين إسرائيل وفلسطين، "وحان
وقت وضع حد لذلك"، وأضاف قائلًا: "حان الوقت للمجتمع الدولي أن يتخذ خطوات جادة نحو
حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس"، وأشار فيدان
إلى أن "جهود تركيا ستستمر دون انقطاع لإنهاء المأساة الإنسانية المستمرة في غزة".
وهو الأمر الذي عاد فيدان وأكده خلال لقائه بنظيره الأمريكي أنتوني بلينكن في
العاصمة أنقرة، عندما جاء الأخير إلى تركيا لبحث مسألة الحرب الإسرائيلية المتواصلة
على قطاع غزة.
تصريحات حادة وقطع للعلاقات
وردًا على رفض إسرائيل وقف إطلاق النار ووقف الإبادة الجماعية التي ترتكبها بحق
الفلسطينيين، قطع الرئيس أردوغان كل الاتصالات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين
نتنياهو بعدما وصفه بـ "المجرم القاتل"
واستدعى سفير أنقرة لدى إسرائيل احتجاجًا على ما يحدث في غزة.
وبالإضافة إلى التفاعل الإقليمي، لعبت تركيا دورًا فعالًا على المستوى الدولي لجذب
الدعم العالمي لوقف الحرب في غزة، وقد استخدم الرئيس أردوغان منصات متعددة مخاطبًا
المجتمع الدولي لجذب انتباهه إلى العواقب الإنسانية للصراع القائم.
وقد انتقد الرئيس أردوغان ازدواجية المعايير الغربية فقال بكل صراحة ووضوح في وجه
قادة الغرب الصامتين تجاه المجازر التي تتكرر كل يوم في قطاع غزة: "من كانوا يذرفون
دموع التماسيح على المدنيين الذين يُقتلون في الحرب بين أوكرانيا وروسيا، يشهدون
اليوم بصمت على مقتل آلاف الأطفال الأبرياء".
كما أوفد الرئيس أردوغان وزير خارجية بلاده، هاكان فيدان، على الفور إلى القاهرة
وبيروت وعواصم عربية وإقليمية أخرى من أجل العمل على خفض التصعيد تمهيدًا لوقف
إطلاق النار.
وقد أجرى الرئيس أردوغان عدة اتصالات بزعماء دول مختلفة وخاصة قادة أوروبا لإقناعهم
بضرورة التصويت في مجلس الأمن لصالح وقف إطلاق النار في غزة؛ من أجل وقف نزيف الدم
الفلسطيني والذي اتضح أن أكثر من نصف ضحاياه من النساء والأطفال حسب التقارير
الميدانية الرسمية.
وخلال كلمته في قمة منظمة الدول التركية العاشرة التي عُقدت مؤخرًا بالعاصمة
الكازاخستانية، أوضح أردوغان أنه لا يوجد أي شيء يبرر هذه الوحشية في غزة، وأضاف
قائلًا: "التحرك الموحد للعالم التركي سيسهل الطريق لوقف إطلاق النار أولًا في غزة،
وتحقيق السلام الدائم لاحقًا في الشرق الأوسط"، ولفت أردوغان إلى أن جهود تركيا
متواصلة لتمهيد الطريق من أجل عقد مؤتمر سلام دولي في هذا الإطار.
قضية "أكبر من تركيا"
ويرى مؤيدو الحكومة التركية أن إدانتها الصريحة لإسرائيل ومجازرها في غزة ودعوتها
إلى وضع حد لذلك بالتوازي مع حراك دبلوماسي مكثف تعدان شاهدًا على موقفها الثابت
بشأن دعم وتبني القضية الفلسطينية رغم أنها مقيدة بـ"حسابات وتوازنات سياسية".
ويرى رئيس مركز أورسام للدراسات في أنقرة البروفيسور أحمد أويصال أن أنقرة بشكل عام
تعتبر القضية الفلسطينية أكبر من تركيا وحتى بعض الدول الفاعلة، وأن أي حل لها
سيكون "حلًا مشتركًا"،
وذكر أويصال أن تركيا تتواصل مع الشرق والغرب لتحقيق هذا الهدف، وتوصلت إلى رؤية
وموقف موحد مع كل من مصر والسعودية، بالإضافة إلى باكستان وماليزيا ودول أخرى،
لافتًا إلى أن هذا يمكن أن يشكل "كتلة قوية تضغط على إسرائيل وداعميها".
وبحسب الأكاديمي التركي أويصال، فإن تركيا تحاول أن تقنع "الأطراف الداعمة" بسحب
الدعم من إسرائيل أو الضغط عليها للتراجع عن أفعالها، مقرًا بأن تفاقم الأمور يصعب
المهمة رغم وجود فرصة للضغط الدبلوماسي وأيضًا من خلال التحرك الجماهيري.
حسابات سياسية
ومن جهته، يرى الكاتب والباحث المقرب من الحكومة التركية "يوسف كاتب أوغلو" أن
الدبلوماسية التركية كانت منذ اللحظة الأولى سباقة إلى إدانة التصعيد الإسرائيلي
والسعي لنزع شرارة الحرب، لكنها لا تريد لهذه الحرب أن تتسع إقليميًا وتقول بوجوب
إيقافها بشتى الوسائل السياسية والدبلوماسية، بالإضافة إلى تفعيل دور المنظمات
الإنسانية لإدخال المساعدات إلى القطاع المحاصر، وتطبيق القوانين الدولية، والتوصل
إلى الحل السياسي الدولي.
|
دحض المركز الادعاءات الإسرائيلية بشأن قطع المقاومة الفلسطينية رؤوس 40
طفلًا إسرائيليًا، كما دحض الرواية الإسرائيلية بشأن قصف المستشفى
المعمداني، وأثبت أن طائرات الجيش الإسرائيلي هي المسؤولة عن القصف |
وأشار كاتب أوغلو إلى أن أردوغان - الذي أجرى قرابة 20 اتصالًا مع معظم زعماء الدول
الفاعلة في المشهد - لم يلبِ توقعات الشارع العربي والإسلامي الذي يرى أنه رمز
إسلامي شعبي، لكن "الحسابات والتوازنات السياسية في الواقع هي التي تتحكم بالمشهد
السياسي في العلاقات الدولية".
لم يقتصر الحراك الدبلوماسي على الرئيس التركي وأفراد حكومته، بل امتد إلى اجتماع
"قلب واحد من أجل فلسطين" الذي استضافته زوجته السيدة أمينة أردوغان في إسطنبول،
والذي كان له دور فعال في رفع صوت دولي جديد ضد المذابح المستمرة في غزة.
وفي الاجتماع الذي عُقد في إسطنبول، لفتت زوجات رؤساء الدول والحكومات من عدة دول
إلى ضرورة وأهمية الانتباه إلى انتهاكات القانون الدولي في غزة، ودعوا المجتمع
الدولي إلى إحلال السلام، وشددوا على ضرورة التوصل إلى حل دائم.
دور إعلامي غير مسبوق
من جهته، أكد رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية، فخر الدين ألطون، على أن لقاء
"قلب واحد من أجل فلسطين" ساهم في رفع الأصوات على المستوى الدولي، وقال إن
الاجتماع الذي استضافته عقيلة الرئيس السيدة أمينة أردوغان ساعد في إضافة أصوات
جديدة دوليًا ضد المذابح المتواصلة في غزة، وقال: "هذا الصوت هو صوت الضمير المشترك
للإنسانية".
وعلى جانب آخر يُذكر أن مركز مكافحة التضليل التابع لدائرة الاتصال بالرئاسة
التركية، يلعب دورًا كبيرًا في تفنيد الأكاذيب الإسرائيلية منذ بدء العدوان
الإسرائيلي على غزة حتى الآن، وعلى سبيل المثال،
دحض المركز الادعاءات الإسرائيلية بشأن قطع المقاومة الفلسطينية رؤوس 40 طفلًا
إسرائيليًا، كما دحض الرواية الإسرائيلية بشأن قصف المستشفى المعمداني، وأثبت أن
طائرات الجيش الإسرائيلي هي المسؤولة عن القصف،
عبر نشر الأدلة القطعية والدامغة على ذلك، وهو الموقف الذي أزعج إسرائيل وجعلها
تصرح علانية بذلك متهمة تركيا بمساندة حركة حماس في حربها الإعلامية عليها.
وقد هاجمت صحيفة "ذا تايمز أوف إسرائيل" رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر
الدين ألطون، متهمة إياه بإدارة جيش من الإعلاميين للهجوم على "إسرائيل"، ووصفت
الصحيفة "ألطون" بأنه ظل الرئيس التركي أردوغان، وأنه يدير فريقًا كبيرًا يعملون من
أجل الدعاية ضد إسرائيل ولصالح حركة حماس.
ويأتي تصريح الصحيفة بعد عدة تحقيقات قامت بها دائرة الاتصال في الرئاسة التركية
لمكافحة التضليل والبروباغندا الإسرائيلية عبر المراكز التابعة للمؤسسة مثل مركز
مكافحة المعلومات المضللة، والذي أثبت كذب الرواية الإسرائيلية حول عدة وقائع
إجرامية دموية ادعت إسرائيل قيام حركات المقاومة الفلسطينية بارتكابها، وتجسد الدور
الإعلامي لتركيا أيضًا بشكل واضح للغاية عبر القنوات ووكالات الإعلام التركية
الرسمية التي تنقل جرائم الاحتلال الإسرائيلي على مدار الساعة وتنشر ما يقوم به من
جرائم وانتهاكات صارخة بمختلف اللغات للعالم أجمع.
جهود إغاثية متواصلة
وإلى جانب الجهود الدبلوماسية والإعلامية، باشرت تركيا بوتيرة متسارعة أنشطتها
الإغاثية تجاه غزة، حيث دشنت وزارة الدفاع التركية جسرًا جويًا لنقل المساعدات
الإنسانية إلى مصر من أجل إيصالها إلى سكان قطاع غزة الفلسطيني المحاصر، كما أرسلت
تركيا سفينة كبيرة تحمل 50 حاوية مملوءة بمستشفيات ميدانية وإمدادات طبية ومساعدات
أخرى إلى مصر استعدادًا لنقلها إلى غزة.
وفي المؤتمر الذي عقده مع نظيره البوسني بالعاصمة أنقرة، أشار وزير الخارجية التركي
هاكان فيدان إلى استمرار بلاده بإرسال مساعدات إنسانية بوتيرة عالية إلى قطاع غزة
الذي يتعرض لحرب إسرائيلية مدمرة منذ أكثر من 40 يومًا.
وشدد فيدان على استمرار بذل المساعي لنقل كل المرضى من مستشفيات غزة، وعلى رأسها
مستشفى الصداقة "التركية – الفلسطينية"، ولفت إلى نقل 27 مريضًا من غزة مع 13
مرافقًا لهم إلى العاصمة أنقرة، مضيفًا أن بلاده تواصل مساعيها من أجل إنشاء مستشفى
ميداني في غزة.
وقد زار وزير الصحة التركي فخر الدين قوجة المصابين الفلسطينيين ممن عبروا الحدود
إلى مصر، خلال جولة تفقدية قام بها في المستشفيات المصرية، كما حرص قوجة على
استقبال مصابي مرضى السرطان بنفسه، ممن تكفلت الدولة التركية بعلاجهم في
مستشفياتها، وقد تم نقلهم عبر طائرتين إحداهما رئاسية والأخرى تابعة للجيش التركي.
وفي تصريحات للصحفيين في العاصمة أنقرة عقب وصول الطائرتين اللتين كانتا تقلان
عددًا من مرضى السرطان ومرافقيهم بعد إخراجهم من غزة إلى مصر، أعلن الوزير قوجة عن
نقل 61 مريضًا فلسطينيًا و49 مرافقًا لهم من قطاع غزة إلى أنقرة، وأكد أن بلاده
عازمة على مواصلة جهودها من أجل نقل دفعات أخرى من المرضى من قطاع غزة إلى أراضيها
لاستكمال العلاج حتى الشفاء.
كلمة أخيرة
منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، استنفرت تركيا جميع إمكانياتها
وبدأت حراكاً دبلوماسياً نشطاً على الصعيدين الإقليمي والدولي من أجل وقف الحرب
وفتح ممرات آمنة لحماية المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية العاجلة
منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، استنفرت تركيا جميع إمكانياتها
وبدأت حراكًا دبلوماسيًا نشطًا على الصعيدين الإقليمي والدولي من أجل وقف الحرب
وفتح ممرات آمنة لحماية المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية العاجلة،
واتخذت كل الخطوات الممكنة حسب قدرتها الحالية لردع الاحتلال الإسرائيلي وصد وحشيته
المتعجرفة، وهذا كله يؤكد أن تركيا كانت ولازالت تدعم القضية الفلسطينية بما تملكه
من إمكانات وإن كان المنتظر منها مؤخرًا أكثر من ذلك، لكن لعل الحسابات السياسية
والظروف الإقليمية كان لها تواجد وحضور تم ترجمته في الصورة الإجمالية للمشهد.