لمعرفة مدى صدق ما قاله ترامب، يلزمنا فهم السياسة الإيرانية الخارجية، ومعرفة قواعدها وسماتها. وهذا يقودنا إلى تتبع أصول الفكر السياسي الإيراني وتطبيقاته في الواقع الحالي منذ قيام ما يُعرف بالثورة الإيرانية حتى الآن
يوم الجمعة الماضي 3نوفمبر، وفي مؤتمر جماهيري خلال إلقائه خطابًا ضمن حملته الانتخابية بولاية تكساس الأمريكية، فجر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مفاجأة، حين تحدث عن فترة رئاسته في مطلع عام 2020، حينما ضرب الحرس الثوري الإيراني قاعدة عين الأسد الأمريكية في العراق، وذلك بعد أيام من مقتل زعيم فيلق القدس قاسم سليماني.
وأكد ترامب في حديثه لجمهوره أن الإيرانيين اتصلوا بإدارته عقب مقتل سليماني، وقالوا "ليس لدينا خيار سوى أن نضربكم لحفظ ماء الوجه".
واستطرد: "وأنا فهمت ذلك، لقد ضربناهم بمقتل سليماني عليهم أن يفعلوا شيئًا"، مؤكداً أن الإيرانيين قالوا: "سنقوم بإطلاق 18 صاروخاً على قاعدة عسكرية معينة لديكم، لكن لا تقلقوا، لن تصل الصواريخ إلى القاعدة".
ويعود ترامب ليذكِّر الجمهور أن التفاهمات مع إيران لم تبدأ فقط هذه المرة، فحسب كلامه ان القادة العسكريين الأمريكيين أخبروه أنه في عام 2003، عندما أسقطت إيران طائرة بدون طيار كان عمرها 14 عامًا ولم تعد مفيدة، لكن كان على مقربة منها طائرة كبيرة على متنها 39 مهندساً وطياراً وسألت القادة هل أسقطوا الطائرة التي خلفها؟ قالوا: لا يا سيدي.
وقال ترامب بفخر: هذه الحادثة دفعتني للتفكير، وقررنا ضرب إيران بقوة. قمنا بتعطيل راداراتهم ومرافق أخرى، وأخبرتهم أنه إذا ردوا علينا، فسنقوم بأمور لم يكونوا يتوقعونها أبدًا.
| أما إذا كانت دولة مثل إيران، طائفية التوجه تبطن غير ما تظهر، ذات نزعة إمبراطورية مثلها مثل غيرها من الإمبراطوريات القديمة والمعاصرة، ذات النزعة التوسعية التي تدوس على القيم والأخلاق في سبيل غايتها، فإن البراجماتية حينها تكون تلاعبا وخداعا واستخفافا بالشعوب |
وهنا يبقى السؤال هل هذا هو السمت الإيراني في علاقاتها مع أمريكا؟ أم أن تمثيلية إيران ورد فعلها على مقتل سليماني هي كذبة من بين أكاذيب ترامب؟ خاصة أن مسؤولا عسكريًا إيرانيًا مجهولا وصفته وكالات الأنباء بأنه مطلع، نفى تصريحات دونالد ترامب حول التنسيق بين المسؤولين الإيرانيين والأمريكيين خلال الهجوم الصاروخي الإيراني على قاعدة عين الأسد في العراق، وهاجم هذا المصدر الإيراني ترامب واصفا إياه بأنه "شخص سمعته قائمة على الكذب والفبركات للحصول على الشهرة والمكانة وكسب الأصوات في الانتخابات الأمريكية المقبلة، وليس من المستغرب أن يسرح بمخيلته بعيدا الى هذا الحدّ."
ولذلك لمعرفة مدى صدق ما قاله ترامب، يلزمنا فهم السياسة الإيرانية الخارجية، ومعرفة قواعدها وسماتها. وهذا يقودنا إلى تتبع أصول الفكر السياسي الإيراني وتطبيقاته في الواقع الحالي منذ قيام ما يُعرف بالثورة الإيرانية حتى الآن.
الفكر السياسي الإيراني
الذي يتتبع السلوك السياسي الإيراني منذ قيام الخميني بثورته عام 1979، وحتى الآن يلاحظ أن البراجماتية كانت من أبرز سمات تلك السياسات.
والعقلانية في السياسة قد تكون مقبولة إذا كانت تعني منهاج دقيق يفرق بين تداخل المصالح والمفاسد وتعارضها، ومعرفة عميقة بين أكثرها فسادا وأقلها، مع الاحتفاظ بالبوصلة الأخلاقية، ووجود ركائز إيمانية تضيء الوجهة النهائية ولا تبتعد عن المصالح الكلية، وهذا بالطبع إذا كانت الدولة ذات توجه عقيدي إسلامي.
أما إذا كانت دولة مثل إيران، طائفية التوجه تبطن غير ما تظهر، ذات نزعة إمبراطورية مثلها مثل غيرها من الإمبراطوريات القديمة والمعاصرة، ذات النزعة التوسعية التي تدوس على القيم والأخلاق في سبيل غايتها، فإن البراجماتية حينها تكون تلاعبا وخداعا واستخفافا بالشعوب والجماهير للوصول إلى الغايات ومن ثمّ التجبر والطغيان.
ويعد الموقف الإيراني من صراع الأمة الإسلامية مع الكيان الصهيوني والعلاقات مع الولايات المتحدة، نموذجين صارخين للبراجماتية الإيرانية.
فعندما جاءت الثورة الإيرانية عام 1979، رفعت شعار الموت لإسرائيل، وتبارى المتظاهرون في إيران في حرق الأعلام الصهيونية، ورفع النظام الإيراني شعار تحرير القدس، حتى أنه أنشأ فيلقًا مسلحًا من فيالق الحرس الثوري الايراني أطلق عليه فيلق القدس، وجعله الفيلق الأقوى تسليحًا ونفوذًا.
| وفق معهد جافي للدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب، بلغت مبيعات الأسلحة الإسرائيلية لإيران ما يقدر بنحو 500 مليون دولار منذ عام 1981 وحتى عام 1983. دُفع معظمها عن طريق النفط الإيراني الذي نُقل إلى دولة الكيان. |
كما قام النظام الثوري، كما كان يعُرف حينها، بإغلاق السفارة الصهيونية في طهران وسُلّمت إلى منظمة التحرير الفلسطينية وجرى قطع العلاقات الرسمية سواء الديبلوماسية وغيرها، أو كما بدا في الظاهر.
ولكن في السر كانت العلاقات تجري بشكل مختلف.
فقد باعت دولة الكيان الصهيوني إيران أسلحةً بقيمة 75 مليون دولار أمريكي من مخزونات الصناعات العسكرية الصهيونية، وصناعات الطائرات لدى الصهاينة، ومخزونات جيش الدفاع الإسرائيلي، في عملية صدف البحر في عام 1981، وتضمنت تلك الأسلحة 150 مدفعًا مضادًا للدبابات من طراز إم 40 مع 24,000 قذيفة لكل منها، وقطع غيار لمحركات الدبابات والطائرات، وقذائف عيار 106 مم، و130 مم، و203 مم، و175 مم، وصواريخ تاو. ونُقلت هذه الأسلحة أولًا عن طريق شركة خطوط النقل الجوية الأرجنتينية ثم عن طريق السفن بعد ذلك.
وفي ذات العام، قدم الصهاينة دعمًا عسكريًا فعالًا ضد العراق من خلال تدمير مفاعل أوزيراك النووي بالقرب من بغداد، الذي استهدفه الإيرانيون أنفسهم سابقًا.
وتوالت مبيعات الأسلحة بعد ذلك، ووفق معهد جافي للدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب، بلغت مبيعات الأسلحة الإسرائيلية لإيران ما يقدر بنحو 500 مليون دولار منذ عام 1981 وحتى عام 1983. دُفع معظمها عن طريق النفط الإيراني الذي نُقل إلى دولة الكيان.
وصرح حينها أحمد حيدري، وهو تاجر أسلحة إيراني يعمل لدى حكومة الخميني، إن 80% تقريبًا من الأسلحة التي اشترتها طهران فور نشوب الحرب صُنعت في الكيان الصهيوني.
وفي مقابلة مع جريدة ( الهيرلد تريديون) الأمريكية في عام 1981، اعترف الرئيس الإيراني الأسبق أبو الحسن بني صدر أنه أحيط علماً بوجود هذه العلاقة بين إيران ودولة الكيان، وأنه لم يكن يستطيع أن يواجه التيار الديني هناك والذي كان متورطاً في التنسيق والتعاون الإيراني الصهيوني.
وبلغ الكذب الإيراني أو البراجماتية الإيرانية!! إلى حد أن دأب المسؤولون الإيرانيون أثناء وبعد الحرب على نفي حصولهم على مساعدات من دولة الكيان الصهيوني التي كانوا يدينونها باعتبارها "دولة غير شرعية". حتى أن الخميني نفسه أنكر غاضبًا في خطبة له آنذاك أن الصهاينة قد أرسلوا أسلحة إلى إيران.
وفي خريف عام 1982، عندما غزت القوات الصهيونية لبنان لإخراج القوات الفلسطينية، والتي كانت تتمركز في الجنوب اللبناني وتتخذه منطلقًا لعملياتها ضد الكيان، نشرت الصحف العالمية حينها صورا لشيعة قرى جنوب لبنان وهم يلقون بالورود والتحية على دبابات الجيش الصهيوني، التي أتت لتخلصهم من الاحتلال الفلسطيني كما كانوا يرونه.
ولذلك لا نتعجب في أن الكيان الصهيوني لم يسحب جيشه من لبنان، إلا بعد أن اطمأن إلى أن حزب الله الذراع الإيراني في المنطقة سيأخذ زمام الأمن في الجنوب ولا يسمح بمهاجمة دولة الكيان.
أما التفاهمات الإيرانية الأمريكية فحدث عنها ولا حرج، ويكفي ما ذكره أستاذ الجيوبولتيك في جامعة السوربون المسيحي اللبناني الدكتور نبيل خليفة في كتابه "استهداف أهل السنة" بقوله: إن المخطط الموضوع للشرق الأوسط منذ الربع الأخير من القرن العشرين ويشارك فيه الغرب وإسرائيل وإيران له أهداف أساسية: أهمها إزاحة النفوذ العربي السني عن دول شرقي المتوسط واستبداله بالنفوذ الإيراني الشيعي.
ولكن السؤال الأخطر هل كل ما نراه من تجاذبات إيرانية صهيونية أمريكية هي مجرد تمثيلية مثل تمثيلية ترامب وإيران؟
لا شك أن الأمر ليس بهذه البساطة، فالعلاقات بين الدول لا تسير بوتيرة واحدة، ويبدو أن دولة الكيان الصهيوني بصفة أساسية، والولايات المتحدة بدرجة أقل، قد استشعرتا بخطورة تمدد المشروع الإيراني وتحوله إلى مشروع إمبراطوري ينافس ويزاحم المشروع الصهيوني والذي يطمح بقيادة المنطقة.
خاصة أن النفوذ الإيراني يستغل حالة الفراغ التي تمر بها المنطقة العربية حتى أنه أنشأ أذرعًا له في المنطقة، تمكن بها من السيطرة على القرار السياسي في عواصم عربية لها ثقل جيوسياسي خطير، كبغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
ومن هنا جاء النزاع بين المحور الصهيوني الأمريكي، والمحور الإيراني.
ولكن بمجرد أن يكشر المحور الصهيوني عن أنيابه ويوجه للمشروع الإيراني أو أدواته عدة لكمات، ما يلبث أن يعود للجادة ويعلن حياده في أي صراع كان يُشتبه بتورطه فيه.
وهذا ما حدث بالضبط في القتال الحالي بين فصائل المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، فقد كتبت صحيفة كيهان الإيرانية التابعة للمرشد خامنئي مباشرة تقول: إن الثورة الإيرانية هي ثورة لتوعية وحث الشعوب على التحرر، ومساعدة المظلومين للمطالبة بحقوقهم، ومساندة حركات المقاومة في كفاحهم، ولكنها لن تقاتل عن هؤلاء، في إعلان صريح بالتنصل عن دعم المقاومة الفلسطينية في مواجهتها المصيرية الحالية مع الكيان الصهيوني، ولعل في ذلك الخير كله للمقاومة لانكشاف العدو من الصديق.