• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
طوارق أزواد وحكومات مالي.. حربٌ طحون وسلامٌ هش

شعب يعيش في ظروف الصحراء القاسية منذ آلاف السنين يتوزعون بين مالي والنيجر وليبيا والجزائر وتشاد، لكن أكبر عدد منهم موجود في مالي، اجتمعت عليهم قساوة الصحراء وظلم السياسية، فثاروا تارة وخضعوا تارة إنهم الطوارق رجال الصحراء الملثمون.


على مر العقود الماضية، شهدت الصحراء الأفريقية العديد من الحركات المناهضة للاستعمار الغربي، والتي تم قمعها واقتلاعها بلا رحمة، ولعل حركة أزواد التي قامت بها مجتمعات الطوارق الأصلية في مالي هي أحد الأمثلة على ذلك، فبعيدًا عن طوفان الانقلابات العسكرية التي يصيب هذه المنطقة من القارة السمراء مؤخرًا، ثمة أزمة قديمة متجددة في مالي تتعلق بالسيادة على إقليم أزواد الواقع في شمال البلاد، وهي معقدة للغاية لكونها تتألف من مزيج من المظالم المستمرة والصراعات السياسية بين الأنظمة المالية الحاكمة وسكان الإقليم من الطوارق والعرب منذ استقلال البلاد عن المستعمر الفرنسي، إلى جانب تعلق الأزمة بالمصالح الحيوية للقوى العظمى العالمية، وهو ما دفع الأمور أحيانا إلى نزاعات مسلحة تسبّبت في مآسي كبيرة؛ فما خلفيات هذا النزاع، وما مستقبله، وإلى أي مدى يمكن أن تصل الأمور؟

جـذور الأزمـة

يعيش شعب الطوارق في ظروف الصحراء القاسية منذ آلاف السنين، إذ يعيش حوالي مليونين من الطوارق في مالي والنيجر وليبيا والجزائر وتشاد، لكن أكبر عدد منهم موجود في مالي، حيث يقدر عددهم بنحو 950 ألف شخص، عادةً ما يرتدي رجال الطوارق اللباس ذي اللون النيلي، مما أدى إلى ظهور التوصيف الشعبي لهم "رجال الصحراء الزرق"، لكن ليست ملابسهم الجميلة هي التي تجذب انتباه القوى العظمى، فوطن الطوارق يحتوي على أكبر احتياطيات الطاقة في أفريقيا، ولا شك أن حلم الطوارق بدولة مستقلة والانفصال عن مالي والحق في حكم أرضهم التي أطلقوا عليها اسم "أزواد"، هو أمرٌ يثير لهاث الطامعين الساعين إلى تعزيز جذورهم في الصحراء الأفريقية من أجل مصلحة حيوية تتمثل في استكمال نهب موارد القارة، خاض الطوارق سلسلة من الثورات ضد الاستعمار منذ القرن العشرين، لكن تم إخضاعهم بوحشية من قبل فرنسا الاستعمارية خلال هذه الفترة وعانوا من التمييز والاستغلال الذي لا يوصف.

 

 إقليم أزواد الواقع في المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينافاسو يحمل قيمة كبيرة سواء كأرض شاسعة صالحة للأنشطة الرعوية، أو كمنطقة غنية بالثروات الحيوانية كالمواشي، أو ما تبطنه أرضه من ثروات طبيعية كالنفط والغاز الطبيعي

بعد استقلال مالي عن فرنسا في عام 1960، أثرت سلسلة من موجات الجفاف على مدن تمبكتو وكيدال وجاو الشمالية، هذه المناطق هي الأقل نموا والأكثر فقرًا في البلاد، وهي موطن الطوارق، فشلت الحكومات المالية في ضمان التنمية الشاملة في تلك المناطق، بل تم تجاهل الجزء الشمالي من البلاد بشكل مستمر وهو ما فاقم مشكلاته على مر الأعوام، ليس فقط بسبب الإهمال، بل أيضا بسبب الثقل المتزايد لتغير المناخ، كان الطوارق يعانون من تمييز شديد وكانت مناطقهم متخلفة بشكل كبير عن باقي مناطق الدولة الولية من حيث توزيع فوائد الثروات وخطط التنمية وهو ما زاد الوضع سوءًا ودفعهم إلى الانتفاض ضد الدولة، كانت هناك 4 ثورات كبرى لطوارق أزواد في مالي منذ الستينيات، وقع أول تمرد للطوارق خلال الفترة (1962-1964) وقد عُرِفَ هذا التمرد بـ "ثورة كيدال" الأزوادية، حيث طالب سكان أزواد تحت قيادة الأمير الطوارقي محمد علي الأنصاري بالانفصال التام عن مالي وتكوين دولة مستقلة للأزواديين في إقليمهم الذي يشكل نحو 66% من مساحة مالي، لكنهم تعرضوا لقمع شديد من قبل حكومة الرئيس موديبو كيتا الذي وصل إلى السلطة بعد رحيل الفرنسيين، وقد استمر الاضطهاد على يد خليفته الجنرال موسى تراوري الذي انقلب عسكريًا على كيتا في عام 1968، ثم على يد الجنرال أمادو توماني توري في عام 1991 الذي انقلب على سلفه تراوري.

في السبعينيات، حدثت حالات جفاف رهيبة في منطقة الطوارق الأصلية، مما أدى إلى تدمير مواشيهم وجعل من المستحيل الحفاظ على سبل عيشهم، فهاجر الآلاف منهم من وطنهم إلى ليبيا التي كانت تتمتع بفرص العمل في ظل وجود النفط، ومن المثير للاهتمام أن الزعيم الليبي الراحل معمّر القذافي أعلن في عام 1982 أن ليبيا هي الوطن الأم لجميع الطوارق، وتم تجنيد عدة آلاف من الطوارق في القوات الليبية المسلحة، لكن سرعان ما بدأت عودة غير منظمة لهؤلاء المقاتلين إلى مناطقهم الأصلية في أزواد خلال التسعينيات، وذلك بعد تراجع نفوذ نظام القذافي نتيجة فرض حصار دولي عليه بسبب قضية لوكربي، ومع عودة هؤلاء المقاتلين بدأ الصدام مجددًا بينهم وبين الجيش المالي، بدأ التمرد الثاني في عام 1990، وقد أدى العداء المستمر والقمع القاسي إلى إدامة حالة عدم الرضا عن سياسات الحكومة المالية، وفي التمرد الثالث لم تكن هناك انتفاضة كبيرة، ولكن تم الإبلاغ عن عمليات اختطاف وقتل روتينية لأفراد من القوات المسلحة المالية، وصولًا إلى العام 2011، وتحديدًا بعد انهيار نظام القذافي، حيث عادت مجموعات كبيرة من الطوارق الذين كانوا جزءًا من جيش القذافي إلى شمال مالي، كانوا عائدين بأسلحة متطورة ولكن في نفس الوقت كانت عودتهم بمثابة رحلة من الوفرة إلى البؤس؛ فقد رأوا ثروة ليبيا والآن فجأة عادوا إلى وطنهم حيث الفقر والجفاف والمرض، فشكّلوا  "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" المعروفة اختصارًا بـ (MNLA) كمنصة سياسية عسكرية لمواصلة كفاحهم من أجل الحكم الذاتي في أزواد.

دولة أزواد المستقلة

بعد عام واحد فقط من تشكيل الحركة الوطنية لتحرير أزواد، أطاح الطوارق بالقوات الحكومية المالية في مارس 2012 وأعلنوا دولة أزواد المستقلة في شمال مالي في 6 أبريل 2012، حينها صرح المتحدث باسم الحركة، موسى أغ الطاهر، قائلاً: "مالي دولة فوضوية، ولذلك أسسنا حركة تحرر وطني لنشكل جيشا قادرًا على تأمين أرضنا، ومكتبا تنفيذيا قادرًا على تشكيل المؤسسات الديمقراطية لدولتنا الجديدة"، رأى البعض أن إعلان الاستقلال كان سابقًا لأوانه، إذ فشلت الحركة الوطنية لتحرير أزواد في لمّ شمل الفصائل المختلفة التي كانت لديها أجندات متنافسة، وسرعان ما سيطرت حركات أخرى على المنطقة مثيرة مخاوف الدول المجاورة والغرب خاصة فرنسا، وفي ظل هذا الوضع الأمني المتردي أجاز مجلس الأمن الدولي بالإجماع يوم 20 ديسمبر 2012 التدخل في مالي بقراره رقم 2085، ووافق على السماح للاتحاد الأوروبي وأعضاء آخرين في الأمم المتحدة بالمساعدة في إعداد قوات الأمن في مالي للحرب، كما وافقت الأمم المتحدة على القيام بعملية عسكرية تقودها دول أفريقيا لاستعادة شمال مالي، كما اتخذت فرنسا قرارها بالتدخل العسكري في مالي يوم 11 يناير 2013 وأطلقت على عمليتها العسكرية اسم "سيرفال" أي القط البري، مؤكدة أنها تأتي في نطاق الشرعية الدولية وأنها اتخذت بالاتفاق مع الرئيس المالي ديونكوندا تراوري.

سرعان ما تعالت الأصوات المطالبة بالسلام ووضع السلاح جانبًا من أجل إعطاء فرصة للحل الدبلوماسي، وفي عام 2015 وقّعت حكومة مالي والحركات السياسية والعسكرية الأزوادية اتفاق سلام بوساطة جزائرية، والذي بموجبه سيحترم طوارق أزواد وحدة مالي وسلامة أراضيها، مقابل منحهم حكمًا ذاتيًا موسع الصلاحيات، ودمج بعض مقاتليهم في الجيش المالي وتنظيم مؤتمر عام للمصالحة خلال سنتين من توقيع الاتفاق، كما نصَّ الاتفاق أيضًا على زيادة تمثيل مناطق أزواد في مؤسسات الدولة وزيادة الاستثمار الاقتصادي في الإقليم، ومع ذلك فإن كل الوعود التي قُدِّمَت لطوارق أزواد للحصول على قدر أكبر من الحكم الذاتي لإقليمهم لم تتحقق قط، وقد فشلت حكومة مالي حتى الآن في إعادة الثقة بينها وبين الطوارق، فيما لا يزال الإقليم يواجه تحديات هائلة وهو ما أدى إلى ظهور جماعات مسلحة جديدة لديها أجندات مختلفة تماما، إلى جانب دخول بعض التنظيمات على خط المواجهات مثل تنظيم داعش وتنظيم القاعدة، ناهيك عن التنظيمات الإرهابية الأخرى وجماعات الاتجار غير الشرعية لتهريب السلاح والبشر والوقود والمخدرات بين بلدان المنطقة، خاصةً في ظل غياب السيطرة الأمنية المُحكمة على الحدود وطولها الشاسع.

 

لقد أسفرت الشراكة بين القوات المالية ومجموعة فاغنر عن أعمال عنف وحشية في مالي، مثل الاستهداف المتكرر للمدنيين في عمليات قتل خارج نطاق القضاء، حتى الآن لم تنشر روسيا أي عمليات عسكرية واسعة النطاق في مالي

مطـامـع ومصالـح

إقليم أزواد الواقع في المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينافاسو يحمل قيمة كبيرة سواء كأرض شاسعة صالحة للأنشطة الرعوية، أو كمنطقة غنية بالثروات الحيوانية كالمواشي، أو ما تبطنه أرضه من ثروات طبيعية كالنفط والغاز الطبيعي، وهو ما جعله محل أطماع سواء من القبائل المجاورة، أو من التنظيمات الإرهابية في المنطقة، أو من القوى الخارجية،

1ـ بالنسبة لفرنسا:

لقد أدت التدخلات العسكرية الفرنسية في مستعمراتها السابقة على مدى العقود الماضية إلى تأليب شعوب تلك الدول ضدها، نشرت باريس قواتها بناءً على طلب السلطات المؤقتة غير المنتخبة في مالي للرد على حالة معقدة من النزاع السياسي والعسكري في أزواد، كان الفرنسيون يأملون في استقرار الأوضاع حفاظًا على مصالحهم ونفوذهم، فأي انتفاضة في مالي تهدد المصالح الاقتصادية الفرنسية في الدول المجاورة مثل النيجر والسنغال وبوركينا فاسو وساحل العاج، فأهمية مالي الحيوية بالنسبة لفرنسا تتجلى عندما نأخذ في الاعتبار وجود مناجم اليورانيوم في النيجر التي تزود محطات الطاقة النووية الفرنسية بالمواد الخام اللازمة وهي مناجم تقع على طول الحدود بين مالي والنيجر، خلال عامي 2019 و2020 وفي ظل ارتفاع وتيرة العنف ضد المدنيين بشكل حاد كانت فرنسا تضاعف من تدخلها العسكري في مالي، وأصر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على استكمال الاستراتيجية العسكرية، مستهزئًا بالدعم الشعبي الذي كان يتزايد في مالي للحوار مع الأزواديين، لكن سرعان وضعت الأحداث باريس وباماكو على مسار تصادمي أدى إلى توتر سريع في العلاقات في 2021، وفي النهاية طُرِدَت القوات الفرنسية وتم استبدالها بمرتزقة فاغنر.

2ـ بالنسبة للولايات المتحدة:

توفر القوات الأمريكية تدريبًا عسكريًا رفيع المستوى للجيش المالي منذ سنوات، وفي عام 2005 أطلقت واشنطن ما أسمته "شراكة مكافحة الإرهاب عبر الصحراء" التي تضم 11 دولة أفريقية شريكة، لكن من المؤسف العمليات العسكرية التي تفتقر إلى أهداف سياسية في المناطق المتنازع عليها، شجعت على تفشي الجماعات المسلحة ومضاعفة قوتها، وبالتالي تزايد حجم الأضرار التي لحقت بالمنطقة، لطالما تم تسليط الضوء على الكيفية التي تعمل بها القوات الأمريكية في مناطق مختلفة من العالم ضمن ما تصفه بـ "مكافحة الإرهاب"، إذ عادةً ما ينتهي بانتشار القتال بين الطوائف العرقية وداخلها وازدياد العنف العسكري بدلاً من نزع فتيله، لا شك أن واشنطن تريد من وراء تدخلها في تلك البقعة القاحلة أن تأخذ نصيبها من خيراتها المدفونة في أعماق الأرض، لا سيما في ظل وصول لاعبين سياسيين واقتصاديين جدد مثل الصين والهند وتركيا وروسيا، لكن الوجود الأمريكي ـ وكعادته ـ ومعه الوجود الفرنسي سرعان ما حوّلا مالي من دولة كانت على وشك أن تصبح ديمقراطية إلى دولة بمثابة أفغانستان جديدة في منطقة الساحل والصحراء.

3ـ بالنسبة لروسيا:

بعد الانقلاب المالي في مايو 2021، اختارت السلطات المالية روسيا شريكًا عسكريًا رئيسيًا لها، وأدارت ظهرها لفرنسا، لقد تسبب الانسحاب القسري للقوات الفرنسية في ترك المجال أمام جهات فاعلة أخرى ترغب في ملء فراغ السلطة والنفوذ، ظاهريًا يأمل قادة مالي الجدد في أن تعمل استراتيجية تحالفهم مع الروس في منح بلادهم آفاقاً أكثر إشراقًا، لكن في الواقع فإن الشراكة مع موسكو تمنحهم وصولاً أسهل إلى المعدات العسكرية وترسيخ سيطرتهم على مقاليد الحكم في البلاد، وبينما تدعي روسيا أن نواياها هي أن تكون شريكًا في مرحلة ما بعد الاستعمار لدول أفريقية مثل مالي، فإن وصول مرتزقة فاغنر يبشر بجولة جديدة من الصدمات والخسائر، لقد أسفرت الشراكة بين القوات المالية ومجموعة فاغنر عن أعمال عنف وحشية في مالي، مثل الاستهداف المتكرر للمدنيين في عمليات قتل خارج نطاق القضاء، حتى الآن لم تنشر روسيا أي عمليات عسكرية واسعة النطاق في مالي، كما أنها لا تمتلك بنية تحتية وحضورًا يضاهي ذاك الذي أسسه الفرنسيون، لكن روسيا تراهن على المستقبل، وتكمن قوتها هنا في قدرتها على استغلال وسائل النفوذ والقتال غير المباشرة التي تخلت عنها القوى الغربية تدريجيًا، وخاصة فرنسا، ستملأ روسيا الفراغ الفرنسي بهدوء وثبات.

عــودة الحــرب

قبل أيام قليلة، تجدد القتال بين الجيش المالي وطوارق أزواد، وذلك بعدما سيطر الطوارق على قاعدتين للجيش في بلدة ليري بوسط البلاد، كان القتال قد اندلع جزئيا منذ أغسطس بعد رحيل بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والتي ساعدت لسنوات في الحفاظ على هدوء هش، هذا الوضع في المنطقة ليس جديدًا، فقد استمر لسنوات عديدة، لكن التتابع السريع للانقلابات في الآونة الأخيرة يثير تساؤلات حول هشاشة النظام الحاكم في مالي رغم قدرة نخبه العسكرية على الاستيلاء على السلطة مع الاعتماد عسكريًا الآن على الروس، وسياسيًا على الشعبية الواسعة لرفض الوجود الفرنسي، فيما يزداد الوضع الأمني تعقيدًا في البلاد التي أصبحت ساحة مفتوحة لمواجهات متعددة المحاور تحاول أطرافها رسم خرائط جديدة للنفوذ والسيطرة، وبينما يختلف الخبراء حول مستقبل الأوضاع، فإنهم يتفقون على أن الصراع العسكري في الشمال المالي مرشح بقوة لأن يكون طويلًا ومعقدًا، دون وجود فرص للحل السياسي في الأفق القريب.

يمكن قراءة الوضع الراهن على الأرض في ضوء النقاط التالي:

* جدوى التحالف مع الروس:

في أوائل الستينيات، خلال الحرب الباردة، اتخذ الرئيس كيتا، أول رئيس لمالي، قرارًا جريئًا بضم البلاد إلى الكتلة الشرقية، ولكن على الرغم من الكراهية الشعبية الواسعة للمستعمر السابق، فقد حافظت حكومة كيتا على حوار مع فرنسا وسعت دائما إلى إيجاد التوازن بين حلفائها الشرقيين وشركائها الغربيين، صحيح أن هذا التوازن لم يأت بأي نفع ملموس على الماليين، إلا أنه على الأقل أبعد مالي جزئيًا عن صراع القوى الكبرى، اليوم تجد مالي نفسها عالقة في قلب التوترات الدولية، بالرغم من ذلك اختار القادة الحاليون تغيير تحالفاتهم الاستراتيجية واللجوء كليًا إلى الروس على الرغم من العواقب غير المؤكدة لهذا التحالف.

* استحالة الحسم العسكري لأي طرف:

منذ بدء المعارك يعلن كل طرف عن سيطرته على مواقع الطرف الآخر، فمنذ انتهاء اتفاقية السلام التي وقعت بين الطرفين في الجزائر عام 2015 وهناك حديث متكرر عن قتلى وسيطرة على مواقع عسكرية وآليات وإسقاط مروحيات، فالأوضاع في مالي لم تبتعد عن الاستقرار فحسب، بل أصبحت خطيرة للغاية، وباتت النزاعات العسكرية معقدة وهجينة، وهو ما يجعل مسألة الحسم لصالح الحكومة أو طوارق أزواد مهمة شبه مستحيلة، لا سيما في ظل عدم فاعلية تحالف الجيش مع فاغنر، وفي نفس الوقت عدم توحد طوارق أزواد أو حصولهم على الدعم العسكري الكافي لتحقيق النصر.

* استغلال الظروف وتوسع الإرهاب:

في جبهة ثالثة، ضاعف متطرفو تنظيم داعش من سيطرتهم على مساحات واسعة من الأراضي في شمال مالي بحسب تقرير للأمم المتحدة صدر الشهر الماضي، في حين أن تنظيم القاعدة يستغل سخط الأزواديين من الحكومة المالية ويعمل على تجنيدهم في صفوفه وهو ما يخلق حاضنة شعبية للتنظيم آخذة في الاتساع، ناهيك عن أن طوارق أزواد ينسقون بالفعل مع الجماعات المتطرفة لتسديد ضربات موجعة للجيش المالي، لا سيما بعد أن أعلنوا الحرب عليه وانهارت اتفاقية السلام، ومن المرجح ألا يكون أداء روسيا مع الجيش المالي أفضل من أداء فرنسا معه في مواجهة الأزمة التي يتطلب حلها أكثر من مجرد الرد العسكري.

* وضع إنساني صعب:

تسبب القتال العنيف المستمر منذ أكثر من عقد، إلى أنّ وجود نحو 8.8 مليون شخص في البلاد في حاجة إلى المساعدة الإنسانية وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، ومما يزيد الوضع تعقيدًا آفة الفساد المنتشرة على نطاق واسع والتي تشكل عائقًا أمام النمو الاجتماعي والاقتصادي للبلاد، وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن الاتجار الدولي غير المشروع بالمخدرات في مالي، والذي يدر عدة مليارات من الدولارات سنويًا، يؤدي إلى مزيد من الفساد والعنف واليأس وإدمان المخدرات.

ختامًا؛ فإن النظرة المتشائمة حيال الصراع الدائر الآن في مالي تتشابه إلى حدٍ ما مع النظرة التي كانت موجودة حيال الصراعات التي شهدتها أفغانستان، فقد تتحول الأمور إلى صراع مكلف ومفتوح النهاية يفشل في نهاية المطاف في إصلاح حال الدولة الإفريقية الفقيرة، المثير في الأمر هو أن مساحة شمال مالي تعادل مساحة أفغانستان تقريبا، وهي صحراء شاسعة هائلة يعرفها الطوارق جيدا ولا يعرفها الغرباء، وأي محاولة أجنبية لمساعدة الجيش المالي ـ سواء فرنسية أو أمريكية أو روسية ـ تحشد الناس للتعاطف أكثر مع قضية الطوارق، كما حدث في أفغانستان في الثمانينيات، وبالرغم من أن فرنسا كانت تتمتع بخبرة عميقة في منطقة غرب ووسط أفريقيا، وقامت بتدخلات عسكرية أحادية هناك من قبل، إلا أنها فشلت في نهاية المطاف في مالي وخرجت منها قسريًا، فهل سينتهي الحال بالروس في مالي مثلما انتهى بالفرنسيين؟، هل تنتهي الحرب الطحون بنشأة الدولة الأزوادية في شمال مالي، أم أن ثمة فرصة للسلام الهش أن يعود، مؤجلًا الحسم حتى حين؟

 

أعلى