ما الذي يجعل انتخاب رئيس للبنان مسألة صعبة؟ فاثنا عشر جلسة انتخاب في خلال تسعة أشهر ولم يتمكن البرلمان اختيار رئيس؟ فهل سيتكرر هذا الجمود مرة أخرى؟ لماذا الأمر بمثل هذا التعقيد؟
مجددًا وللمرة الثانية عشرة، فشل برلمان لبنان منذ أيام في انتخاب رئيس يخلف ميشال
عون الذي انتهت ولايته منذ أكتوبر الماضي أي منذ تسعة أشهر، وهذا يعني فراغًا في
مقعد الرئيس، وبالتالي أحدث شللاً كبيرًا في ركن كبير من أركان النظام اللبناني.
فبعد جلسة ساخنة، لم يحصل سليمان فرنجية المرشح الذي تدعمه جماعة حزب الله
وحلفاؤها، ولا جهاد أزعور وزير المالية السابق والذي تدعمه الكتل المسيحية على
العدد الكافي من الأصوات للظفر بكرسي الرئاسة.
|
في عام 1916، وضعت بذرة دولة في لبنان كفكرة على مائدة وزيري خارجية كل من
فرنسا وإنجلترا، فيما عرفت بعد ذلك باتفاقية سايكس بيكو، حيث جرى تقسيم
بلاد العرب |
حيث حصل أزعور على تأييد 59 صوتًا من أصل 128 نائبًا في البرلمان في تصويت أولي، أي
أقل من الثلثين المطلوبين للفوز في الجولة الأولى. في المقابل، حصل فرنجية على 51
صوتًا في الجولة الأولى، وانتهت الجلسة عقب انسحاب نواب من حزب الله وحلفاؤه،
ليعطلوا بذلك نصاب الثلثين المطلوب لإجراء جولة ثانية من التصويت يمكن لمرشح أن
يفوز فيها بدعم 65 نائبًا.
انتهاء جلسة مجلس النواب بهذا الشكل لا يعني إلا شيئًا واحدًا، مزيدًا من انزلاق
لبنان إلى أزمة حكومية مع عدم وجود رئيس للبلاد، وفي ظل حكومة تصريف أعمال محدودة
السلطات وبرلمان منقسم بشدة، ومزيدًا من الانهيار المالي القياسي، الأمر الذي يدفع
معظم السكان إلى هوة الفقر.
وهذا يدفعنا إلى التساؤل.. ما الذي يجعل انتخاب الرئيس مسألة صعبة؟
اثنا عشر جلسة انتخاب في خلال تسعة أشهر ولا تتفق أغلبية على اختيار رئيس؟
علمًا بأن هذا الأمر قد تكرر من قبل منذ ما يقرب من سبع سنوات، فمنذ مايو 2014 وحتى
2016م، فشلت 45 جلسة لمجلس النواب اللبناني في انتخاب رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس
ميشال سليمان حينذاك بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني، نتيجة عدم توافق القوى
السياسية اللبنانية على تسمية الرئيس الجديد، فهل سيتكرر هذا الجمود مرة أخرى؟
لماذا الأمر بمثل هذا التعقيد؟
للإجابة على هذه الأسئلة، لابد من معرفة النظام السياسي اللبناني والقوى التي تتحكم
فيه سواء كانت طوائف أو قوى إقليمية ودولية.
نظام طائفي معقد
في
عام 1916، وضعت بذرة دولة في لبنان كفكرة على مائدة وزيري خارجية كل من فرنسا
وإنجلترا، فيما عرفت بعد ذلك باتفاقية سايكس بيكو، حيث جرى تقسيم بلاد العرب
بين
أكبر قوتين في ذلك التاريخ، واللذان أوشكا على تحقيق الانتصار في الحرب العالمية
الأولى.
وبعدها منذ عام 1920، بدأ الفصل الثاني في تحويل الفكرة إلى واقع، بإخراج مشهد صنع
لبنان، فجرى ترحيل مسيحيي سوريا وتهجيرهم إلى جبل لبنان من قبل فرنسا بتشجيع
أوروبي، ثم تم ضم الحواضر السنية على الساحل في طرابلس وبيروت وصيدا، لتصنيع دولة
لبنان وفصلها عن الشام، ويرأسها مسيحي ماروني له معظم الصلاحيات، بينما تم إسناد
منصب رئيس الوزراء كمنصب شكلي لترضية السنة، وآخر رئيس مجلس النواب للشيعة.
وتمثل علم الدولة الأول في دمج علمي فرنسا ولبنان معاً، ووصفت الدولة الجديدة باسم
لبنان الكبير، حيث ضمَّت إلى جبل لبنان ولاية بيروت مع أقضيتها وتوابعها (صيدا وصور
ومرجعيون وطرابلس وعكار) والبقاع مع أقضيته الأربعة (بعلبك والبقاع وراشيا
وحاصبيا)، فاتسعت مساحته من 3500 كلم مربع إلى 10452 كلم مربع أي ثلاث مرات.
وتمت كتابة الدستور اللبناني بعد ذلك، ورغـم أن هذا الدستور ينص على أن لبنان بلد
جمهوري ديمقراطي برلماني، ولكن البنية الطائفية للنظام السياسي في لبنان جعلت من
شبه المستحيل اتخاذ أي قرارات كبرى، دون توافق جميع الأطراف السياسية الموزعة على
أساس طائفي.
|
والحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها أن ديمقراطية الطائفيين ليست إلا نظاماً
يكرس تجزيء الأوطان وليس نظاماً يوحد المفترقين ويبحث عن المشترك فيدعمه
ويحشد جميع الناس خلف فكرة مشتركة. |
ورغم أن الدستور اللبناني لا يتحدث عن التوزيع الطائفي للسلطات، إنما يتحدث فقط في
آخر تعديل له بعد اتفاق الطائف عن مناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلس النواب.
وكذلك جرى الاتفاق غير المكتوب كما أسلفنا، على أن رئيس الجمهورية يجب أن يكون
مارونياً مسيحياً ورئيس الوزراء مسلماً سنيّاً ورئيس مجلس النواب شيعياً ويمتد
التوزيع الطائفي للمناصب الإدارية في الوزارات وهيئات الحكومة المختلفة، فأصبح قائد
الجيش مارونيا، أما وزير الداخلية فهو سني، ومدير المخابرات العسكرية شيعي.
لقد مثلت لبنان نموذجاً فريداً عرف بالديمقراطية الطائفية أو بمعنى أدق ديمقراطية
الطائفيين؛ فهناك مجموعة من السياسيين تعيش سياسياً على ادعاء تمثيل طائفتها، ولكن
في النهاية أصبح نظاماً لطائِفيين من كل طائفة وليس نظاماً لطوائف.
وبالرغم من أن ديمقراطية الطوائف في الحالة اللبنانية قد انتهت بالحرب الأهلية التي
شهدتها هذه الدولة في عام 1975، وامتدت زهاء خمسة عشر عاماً إلا أنه تمت إعادة
الكرَّة مرة أخرى في اتفاقية الطائف عام 1989.
والحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها أن ديمقراطية الطائفيين ليست إلا نظاماً يكرس تجزيء
الأوطان وليس نظاماً يوحد المفترقين ويبحث عن المشترك فيدعمه ويحشد جميع الناس خلف
فكرة مشتركة.
وفي النهاية أسفرت الدولة الطائفية تلك، إلى أربعة مثالب لازالت تنهش في تلك الدولة
وتنذر بسقوطها:
1.
هناك هيمنة خارجية على القرار السياسي للدولة.
2.
طبقة سياسية محدودة تدور بينها المناصب والمسؤوليات.
3.
فساد مستشرٍ في مؤسسات الدولة.
4.
فقر وظلم يعاني منه جميع الناس بصرف النظر عن انتماءاتهم الطائفية.
الدور الإقليمي والدولي في الجمود السياسي اللبناني
منذ تكوين الكيان السياسي الذي يُطلق عليه لبنان، فإن الطوائف المكونة للبنية
السياسية اللبنانية تعتمد كل منها في دعمها على طرف خارجي.
فالمسيحيون في لبنان يعتمدون على الغرب وبالذات فرنسا، أما أهل السنة فيعتمدون على
محيطهم العربي في دعمهم إزاء التدخلات الغربية في لبنان.
ولكن في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، بدأ الشيعة يمايزون أنفسهم عن أهل السنة،
فأنشأوا كيانات عسكرية خاصة بهم لقت دعمًا في البداية من النظام النصيري في سوريا،
والذي كان يطمح رئيسه حافظ الأسد في السيطرة على لبنان.
استطاع الأسد أن يمد أذرعه الاستخبارية والعسكرية لدى جميع طوائف لبنان، وفي داخل
مناطقهم الجغرافية، ومن كان يتمرد على هذه الهيمنة، كان مصيره الاغتيال والتصفية،
وكان أشهرهم كمال جنبلاط زعيم الدروز ووالد زعيمهم الحالي وليد جنبلاط، فعند اندلاع
الحرب الأهلية اللبنانية تم اختيار جنبلاط زعيمًا للقوى الإسلامية والفلسطينية،
وباتت هذه القوات على وشك الانتصار على العصابات المسلحة المسيحية حتى حاصروا إحدى
مناطق المسيحيين، فأمره حافظ الأسد بالتوقف، لأن الغرب حينها اتفق مع الأسد على منع
انتصار المسلمين، والأسد كان يكن عداء شخصيًا مع الفلسطينيين، وقد استجاب جنبلاط في
الظاهر لنصائح الأسد ولكنه في السر أوعز لقوات المسلمين بالاستيلاء على معقل
المسيحيين، وبعدها بأيام تم اغتيال الزعيم جنبلاط.
وتمدد الأسد في مناطق لبنان كلها، بمساعدة من الأحزاب الطائفية الشيعية والدرزية
والتنظيمات الفلسطينية المناوئة لعرفات، وبقيت بيروت الشرقية ذات الغالبية المسيحية
مستعصية عليه بسبب الدعم الفرنسي للمارونيين، فصبر الأسد حتى جاء موعد الهجوم
الأمريكي على العراق بعد احتلال صدام للكويت، فكان ثمن تعاون الأسد مع الأمريكان أن
يتركوا له لبنان، وقد كان فاجتاحت قواته بيروت الشرقية آخر معاقل المسيحيين.
وعندما ظهرت بوادر استقلالية لرئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، ورغبته في إنهاء
الوجود السوري في لبنان، تم اغتياله في بيروت، ليزداد الضغط الدولي على بشار الأسد
فسحب قواته من لبنان.
وورثت إيران بالتدريج الدور السوري فيه، عن طريق ذراعها حزب الله، ليتحول لبنان كله
رهينة في يديه، ويرهن بالتالي قراره السياسي لصالح المحور الشيعي في المنطقة
العربية، لينضم لبنان إلى سوريا والعراق واليمن في وقوعهم تحت النفوذ الإيراني.
وفي نفس الوقت كان النفوذ العربي يحاول إبقاء لبنان بعيدًا عن المحور الإيراني، عن
طريق الورقة الاقتصادية والمساعدات التي تضخ في الاقتصاد اللبناني الشحيح الموارد.
ولبنان لا يخضع فقط لتجاذبات الصراع بين محوري إيران والعرب، ولكن مع وصول إيران
إلى وضع الهيمنة الإقليمية واقترابها من امتلاك أسلحة نووية، حدثت خشية صهيونية
أمريكية من هذا الدور المتنامي، فعمدا إلى تقليصه ومحاصرة نفوذه في المنطقة، فكان
الضغط عليه في خاصرته الأضعف وهي لبنان، واتخاذه ورقة في المفاوضات الجارية الآن
بين أمريكا وإيران على تقليص برنامجها النووي.
فالتوافق في لبنان يعتمد على عاملين: توافق إقليمي بين العرب وإيران، وفي نفس الوقت
ضوء أخضر أمريكي بعد أن يكون هناك اتفاق أمريكي إيراني وهو جاري الآن.
وعندما يتم الاتفاق بين العرب وإيران، وبين أمريكا وإيران، عندها فقط سنتحدث عن
نجاح اللبنانيين في انتخاب رئيس.