"أحضروا لي يهود إثيوبيا"
"على خشبة المسرح صعدت مجموعة
من الأطفال الإثيوبيين من أصحاب البشرة السوداء مرتدين ملابس بيضاء. الأطفال، الذين
وهبهم الرب جمال فريد من نوعه، حدقوا في الجمهور بأعينهم السوداء، بنظرات تمتزج فيها
مشاعر الفضول والفخر. الملحن الشهير شلومو جرونيخ جلس بجوار البيانو. نغماته الأولى
أحدثت أصداء في جو القاعة، وأغنية نادرة الروعة تقشعر لها الأبدان سمعت على لسان جوقة
الأطفال:
"القمر يراقبنا من أعلى
أحمل على ظهري شنطة طعام فقيرة
الصحراء أسفلنا، ونهايتها ليست
على مرمى البصر
وأمي تعد أخوتي الصغار بعد قليل،
بعد قليل، ارفعوا أقدامكم،
ابذلوا آخر جهدكم، من أجل الوصول
إلى القدس".
كانت هذه أغنية حاييم إيديسيس،
"أغنية الرحلة"، والتي استقبلها الجمهور بتصفيق حار ومتواصل. ربما لم يكن
إيديسيس يقصد هذا، وربما لم يلاحظ لك أيضاً الجمهور العريض المنسجم، لكن على لسان الأطفال
جاءت الجزئية المثيرة للغاية - والفظيعة أيضاً - لهجرة يهود إثيوبيا إلى إسرائيل.
"وفي الليل هاجمنا اللصوص
بالسكين وبسيف حاد
في الصحراء سالت دماء أمي، والقمر
من فوقي
وأنا أعد أخوتي الصغار
بعد قليل، بعد قليل، سيتحقق الحلم
بعد قليل سنصل إسرائيل".
لا توجد طائفة بين طوائف شعب
"إسرائيل" عانت من مشاكل صعبة ومميتة مثل طائفة يهود إثيوبيا في طريقها "لإسرائيل".
طائفة، تعتبر أسطورة، حيث تمسكت بعقيدتها على مدار آلاف السنين، عقيدة توراتية فطرية
وقوية. طائفة عاشت فيما وراء جبال الظلام، في جبال وغابات إثيوبيا السحيقة، على أرض
بلقيس ملكة سبأ.
شيء من الغموض يكتنف تاريخ تلك
الطائفة المسالمة والخجولة وزعمائها من "رجال الدين"، وهم أشخاص مسنون من
أصحاب الوجوه البشوشة يرتدون الزي الأبيض، والذين قادوا رعيتهم ودلوهم على أحكام اليهودية
وطرائق الحياة. طائفة عاشت أحياناً في سكينة وراحة مع جيرانها، وأحياناً أخرى كانت
مضطهدة من قبل نظم استبدادية، طائفة عانت من النقص الشديد في عدد الحاخامات وفقهاء
الشريعة اليهودية على اختلافهم من العالم الخارجي، والذين قرروا أنهم ليسوا يهوداً
حقيقيين. لكنهم لم يستسلموا. لقد حلموا جيلاً بعد جيل، حلماً توارثته الأجيال من الأب
للابن والأم للابنة، حلموا بمجئ اليوم الذي سيهاجرون فيه إلى "إسرائيل".
خلال الثلاثين عاماً الأولى لإقامة
الدولة، لم يصل "لإسرائيل" سوى عدد قليل جداً من الإثيوبيين. كما أنه خلال
فترة حكم آخر أباطرة الإثيوبيين، القيصر هيلا سيلاسي، الذي كان من الأصدقاء المقربين
لإسرائيل، لم يُبذل أي جهد حقيقي لتهجير يهود إثيوبيا. في عام 1973 تغيرت الأحوال،
عندما نشر الحاخام عوفاديا يوسف فتوى شرعية قاطعة تؤكد أن اليهود الإثيوبيين، الذين
وصفوا أنفسهم بـ"بيتا يسرائيل"، هم يهود بكل ما تحمله الكلمة من معان. بعد
مرور عامين قررت حكومة إسرائيل تطبيق "قانون العودة" على يهود إثيوبيا، وعندما
تولى الحكم مناحم بيجين في العام 1977، استدعى رئيس الموساد يتسحاق (حاكا) حوفي.
وفي اللقاء قال له بيجين
"نحن نعلم أن الآلاف من الفلاشا، يهود إثيوبيا، يستصرخون للمجئ إلى "إسرائيل".
إنهم يعانون من المجاعة، والسلطات تضطهدهم، وجيرانهم ينكلون بهم، وإنني أطالبك بتسخير
الموساد لإيجاد السبل لتهجير هؤلاء اليهود الأعزاء إلى "إسرائيل". أحضروا
لي يهود إثيوبيا!".
بدت تعليمات بيجين غريبة في حينه:
هل إحضار مهاجرين "لإسرائيل" من اختصاصات وكالة مخابرات؟. غير أن هذا كان
فعلاً اختصاصها. في مطلع الخمسينيات ألقى راؤوفين شيلواح، أول رئيس للموساد، محاضرة
أمام صغار ضباط الموساد، وعدد أمامهم مهام المنظمة. وبعدما تحدث بالتفصيل عن المهام
الكلاسيكية لكل أجهزة المخابرات في العالم، أكد شيلواح أن للموساد الإسرائيلي مهمة
أخرى، والتي لا تخطر حتى على بال أي جهاز مخابرات آخر في العالم، ألا وهي حماية الطوائف
اليهودية في أنحاء العالم وتهجيرهم للبلاد. لهذا السبب أقيمت في الموساد أطر للدفاع
عن النفس في العراق، ومصر، وأمريكا الجنوبية وشمال أفريقيا، ولهذا السبب أيضاً خاطر
عملاء الموساد بحياتهم من أجل تهجير الفتيات السوريات من دمشق (راجع الفصل الثاني عشر)
في أوائل السبعينيات. وفي وقت لاحق، بعد ثورة الخميني في إيران، أنقذ الموساد الآلاف
من يهود إيران وإخراجهم من إيران عن طريق مسارات سرية.
فور التعليمات التي أعطاها بيجين
لرئيس الموساد (حاكا)، هبط في أديس أبابا دافيد قمحي، نائب رئيس الموساد في حينه ورئيس
شعبة "تيفل" للعلاقات الدولية. وصل قمحي لمقابلة حاكم إثيوبيا، مانجستو هيلامريام.
في تلك الفترة كانت أبواب إثيوبيا مغلقة أمام هجرة اليهود. اشتعلت نيران حرب أهلية
طاحنة في إثيوبيا، وطلب مانجستو على أثرها المساعدة ضد المتمردين. لم يوافق قمحي على
العمل ضد المتمردين إلى جانب مانجستو، لكنه وعد بتزويده بالسلاح بشرط واحد - أن يأذن
مانجستو بهجرة اليهود. وقال قمحي"نطالب بعودة كل طائرة تهبط بعتاد عسكري وهي محملة
بمهاجرين يهود". وافق مانجستو، وبدأت عملية خروج اليهود من إثيوبيا.
استمرت التسوية لمدة ستة أشهر
حتى انقطعت في فبراير 1978، بسبب "زلة لسان" لموشيه ديان، وزير الخارجية
في حينه. قال ديان في مقابلة مع صحيفة سويسرية إن إسرائيل تزود نظام مانجستو بالسلاح.
ويزعم البعض أن هذا التصريح كان مقصوداً، لأن ديان لم يكن يشعر بالرضاء عن تزويد نظام
الجنرال مانجستو الماركسي الموالي للسوفييت بالسلاح.
استشاط مانجستو غضباً. لم يكن
بمقدوره تحمل افتضاح مسألة علاقاته مع إسرائيل، الأمر الذي دفعه لقطع العلاقات تماماً.
وهكذا، أغلق الطريق المباشر لهجرة اليهود، لكن تعليمات بيجين ظلت قائمة.
أغلقت أبواب إثيوبيا. لكن خطاباً
وصل لمقر الموساد من العاصمة السودانية المجاورة، قدم بشكل مفاجئ طريق هرب آخر ليهود
إثيوبيا.
الخطاب كان موقعاً عليه من قبل
بردا الكلوم، يهودي إثيوبي يعمل في بلاده كمدرس ونجح في الهرب إلى السودان. كانت السودان،
بالنسبة "لإسرائيل"، دولة معادية، وضربتها في حينه مجاعة شديدة، وحروب قبلية
ودينية تسببت في تمزق البلاد. وقد تجمع آلاف اللاجئين من مناطق مختلفة - بما في ذلك
من دولة إثيوبيا المجاورة - في مخيمات بائسة. أرسل الكلوم عدة خطابات لإسرائيل ولمنظمات
إغاثة في العالم، في استغاثة يائسة لاستنفار مساعدات عاجلة من أجل تهجير يهود إثيوبيا.
ووصلت إحدى خطابات الكلوم إلى مقر الموساد، وسطر واحد في الرسالة لفت انتباه قيادات
المنظمة. "أنا موجود في السودان"، كتب الكلوم، "أرسلوا لي تذكرة طيران".
وبدلاً من إرسال تذكرة طيران، أرسل الموساد إلى السودان أحد رجاله، داني ليمور، لمقابلة
بردا هناك.
وخلال اللقاء اتفق الاثنان على
أن يحدد بردا أماكن اليهود في مخيمات اللاجئين ويبلغ داني بالتفاصيل. وخلال بضعة أشهر
نجح في رصد ثلاثة يهود، وتم تهجيرهم "لإسرائيل" بمساعدة الموساد. بعد شهر
من ذلك تم ضمه للموساد كمسئول البحث عن اليهود في الخرطوم. لم يجد الرجل يهود في العاصمة
السودانية، لذا قرر مبعوث الموساد العودة إلى "إسرائيل". وقبل سفره أمر الكلوم
بالسفر إلى البلاد. الكلوم أراد البحث عن يهود في أماكن أخرى بالسودان، لكن ليمور حظر
عليه القيام بذلك. وقال له داني "يتعين عليك مغادرة السودان والعودة إلى "إسرائيل"
خلال أسبوع".
إلا أن الكلوم خرق التعليمات
وبدأ التجول بين مدن السودان ومخيمات اللاجئين بحثاً عن يهود. صحيح أنه لم ينجح في
العثور على يهود، لكنه علم جيداً أنه إذا عاد الآن إلى البلاد، سيسدل الستار على إمكانية
تهجير يهود إثيوبيا عبر السودان. وبناء عليه، كتب تقرير مزيف أشار فيه إلى أسماء الكثير
من اليهود زاعماً أنه وجدهم في السودان، وأرسل هذا الخطاب عبر الفاكس إلى الموساد،
وأبلغ قادته أنه سيبقى في السودان "للاعتناء بهم".
صحيح أن اليهود الذين أرسل الكلوم
أسمائهم كانوا موجودين بالفعل، لكنهم لم يكونوا بالسودان أساساً، وإنما في قراهم بإثيوبيا.
الآن، بدأ الكلوم العمل داخل إثيوبيا كذئب شارد، حيث شرع في زيارة القرى وإقناع يهودها
بالهجرة إلى "إسرائيل". انتشرت الشائعة بأن هناك مساراً للهروب إلى "إسرائيل".
أعداد قليلة، أصبحت فيما بعد أسر كاملة، ثم قرى كاملة، جمعت أغراضها ومضت في طريقها.
الآلاف، بما فيهم الشيوخ والنساء والأطفال، خرجوا من إثيوبيا سراً، وتزودوا بالطعام
والماء، وتسللوا عبر الحدود وخرجوا لرحلة شاقة في الصحراء. كانت رحلتهم في الصحراء
شاقة وخطيرة. ساروا تحت جناح الليل وفي النهار وكانوا يختبئون في الكهوف والمغارات.
كثيرون منهم سقطوا في دائرة المرض أثناء تلك الرحلة ووافتهم المنية. الأطفال الرضع
ماتوا من الجفاف على أيدي أمهاتهم. رب أسرة فقد أربعة من أبنائه أثناء تلك الرحلة الرهيبة.
بعضهم لدغته الثعابين والعقارب، وآخرين سقطوا نتيجة الإصابة بأمراض معدية. الماء والغذاء
الذي أخذوه معهم لم يكن كافياً. بعض الجماعات تعرضت لاعتداءات من قبل قطاع طرق، والذين
أخذوا منهم كل ممتلكاتهم، وكثيراً ما تركوا أكوام من الجثث ورائهم. في وقت لاحق حكت
الممثلة مهارتا باروخ التي شاركت في تلك الرحلة، أنه في كل صباح كان المسافرين في الصحراء
يعدون جثث أصدقائهم، وأحياناً كانت هناك عشرات الجثث ملقاة على الأرض، وأحيانا أخرى
ما بين خمس وعشر جثث. وأكدت الممثلة أنه لم تكن هناك أسرة إلا وفقدت واحداً من أبنائها
على الأقل.
أما الذين صمدوا منهم وجدوا صعوبة
في الاتصال برجال الموساد الذين تسللوا إلى السودان، كما لم يشعر بالراحة أولئك الذين
وصلوا إلى مخيمات اللاجئين في الخرطوم. فقد كانوا في حاجة لإخفاء يهوديتهم، وامتنعوا
عن تناول الأطعمة التي كانت وكالات الإغاثة توزعها على اللاجئين. وفي عدة حالات تعرضت
النساء للاغتصاب واختطفت الفتيات من قبل أصحاب السطوة الذين سيطروا على المخيمات دون
رادع. وبحسب إحدى الشهادات، اختطفت مجموعة تتكون من حوالي مائة فتاة واختفت آثارها.
وقد سمع ذويهم الذين بحثوا عنهم أنهن تم بيعهن لدولة خليجية كعبيد، حيث تحتجز هناك
نحو 120 ألف امرأة في ظروف عبودية. كما تم ضبط عدة يهود منهم، وحبسهم وتعذيبهم بمعرفة
الشرطة السودانية. انتظر الكثيرون في مخيمات اللاجئين لشهور وسنوات حتى نجحوا في السفر
إلى "إسرائيل". الخروج عبر السودان حصد حياة الكثير من الضحايا بين المهاجرين
الإثيوبيين. ويقول البعض إن المئات قتلوا في الطريق، فيما زعم البعض أيضاً أن الرقم
يصل إلى أربعة آلاف قتيل وهو ثمن الدماء الذي دفعه اليهود الإثيوبيين لتحقيق حلمهم
بالهجرة إلى القدس. هنري جولد، يهودي كندي تطوع لمساعدة اللاجئين بالمخيمات في السودان
وإثيوبيا، شعر بالاستياء من وضع اليهود الذين وجدهم هناك، ووجه نقداً لاذعاً للتعامل
الفاشل معهم.
في صيف 1981 خرج مرة أخرى مندوبوا
وحدة "بيتسور" التابعة للموساد إلى السودان، في محاولة لتهجير اليهود من
مخيمات اللاجئين. وقد وصفوهم بالموساد بأسم "Haka’s
Force in Sudan".
ترأس هذا الوفد "دورون"، صاحب جدائل الشعر الشقراء والقلنصوة الصغيرة على
رأسه، والذي اعتاد اقتباس مقولة الحاخام جورن "حصلت على تصريح من الحاخام بأكل
الفريسة والسفر إلى السودان في السبت لأن الحديث يدور حول إنقاذ أرواح".
جرت عملية الخروج من السودان
في البداية عبر الجو، على متن رحلات تجارية عادية من مطار الخرطوم، بجوازات سفر مزيفة.
وفي مرحلة لاحقة قرر الموساد نقل المهاجرين عبر البحر.
وكقصة تغطية أقام الموساد في
أوروبا شركة سياحية. استأجرت الشركة منتجع بالقرب من بورتسودان، والذي يسمي منتجع أروس،
ووقعت على عقد مع حكومة السودان لتنمية وتطوير قطاع الرياضة البحرية في البحر الأحمر.
تم تكليف يهودا جيل بالإنتهاء من كافة الإجراءات الإدارية، وكان جيل في حينه أحد خيرة
ضباط جمع المعلومات بالموساد. جاء جيل إلى الخرطوم، وأوضح وأقنع وقدم رشاوى، وبحرفية
شديدة حصل على كافة الموافقات من أجل افتتاح المنتجع. كما أرسل الموساد من "إسرائيل"
عملائه بقصص تغطية مختلفة، والتحقوا للعمل في المنتجع. في مستودع المنتجع كانت هناك
معدات غطس، وبزات غطس، وزعانف سباحة، وكل متطلبات نادي الغطس. في نفس المستودع كان
يوجد جهاز اتصال مموه، والذي عن طريقه تم الحفاظ على الاتصال مع قيادة الموساد في تل
أبيب. ولقد توافد العديد من السياح على المنتجع، حيث كان منتجع أروس قصة نجاح كبيرة
على الأقل فيما يتعلق بالسياحة في السودان.
عندما كان عملاء الموساد يخرجون
في كل ليلة من المنتجع لإنقاذ يهود من مخيمات اللاجئين، كانوا يحتاجون في كل مرة لقصة
تغطية مختلفة. فقد حكوا للعاملين المحليين في المنتجع أنهم سيقضون الليل مع المتطوعات
السويديات من مستشفى الصليب الأحمر في المدينة المجاورة كسلا. أثارت خروجات المتعة
التي يقوم بها أصحاب المنتجع الشكوك في نفوس العاملين المحليين بالمنتجع، والذين اشتبهوا
في أن الحديث يجري حول أنشطة غير مشروعة، لكنهم فضلوا الصمت وغض الطرف طالما يتقاضون
رواتب كبيرة.
على متن أربع شاحنات قديمة أنقذ
عملاء الموساد اليهود من المخيمات، وخلال ثماني وأربعين ساعة نقلوهم "لإسرائيل".
كما عملت داخل المخيمات "اللجنة"، وهي منظمة سرية من اليهود، معظمهم من الشباب
عملت على جمع اليهود وإرشادهم. وأثناء رصد أماكن اليهود، اتضح أن الكثيرين منهم خشوا
من الكشف عن هويتهم خوفاً من بطش الشرطة السودانية. اليهود في هذه القرى لم يروا قط
إنساناً أبيض، ورفضوا تصديق أن دورون يهودي جاء لإنقاذهم، حيث أنهم لم يعرفوا أن هناك
يهوداً من أصحاب البشرة البيضاء. "لم يصدقوا أنني يهودي إلا بعد أن انضممت لصلاتهم،
صحيح أنني يهودي غريب، لكنني يهودي".
بسبب الخوف من الوشاية لم يعط
رجال الموساد اليهود هناك إنذارات مسبقة. رجال "اللجنة"، أمروهم بالاستعداد
في أي وقت، وعندما تعطى الإشارة يتعين عليهم مغادرة خيامهم في سرية، وأن يأخذوا معهم
القليل من الأغراض وترك النار مشتعلة للتمويه. وهكذا، الأسرة تلو الأخرى، هرب اليهود
سراً من المخيمات ومشوا ليلاً حتى نقطة الالتقاء المتفق عليها في وادي صغير بالمنطقة،
حيث كان عملاء الموساد في انتظارهم هناك.
عن طريق قافلة تتكون من أربع
شاحنات قديمة، تحت قيادة قائد العملية دورون، نقل اللاجئين اليهود مئات الكيلومترات
حتى شاطئ البحر الأحمر. وفي الطريق اضطروا لاجتياز حواجز الجيش والشرطة. اعتاد دورون
على تقديم الرشاوى لحراس الحواجز والتي جاءت على هيئة سجائر ومال. والخبز الفرنسي الذي
اعتبر آكلة شهية في السودان. الشاحنات واصلت طريقها، وعند شاطئ البحر انتظرهم جنود
الكوماندوز البحري، في قوارب مطاطية نقلتهم إلى سفينة سلاح البحرية الإسرائيلية
"بات جاليم" التي كانت تنتظرهم في عرض البحر.
في أحد الأيام وصل إلى المنتجع
هنري جولد، المتطوع اليهودي الكندي. ذهب جولد إلى هناك بحسن نية، بعد أن أقنعه بعض
أصدقائه بالخروج في رحلة غطس لعدة أيام. وبحسبه، اكتنفه على الفور شعور غريب، وتكونت
لديه قناعة بأنه محاط بعملاء للموساد. "الناس هناك كانوا يبدون غرباء. العاملون
هناك لديهم لكنة غريبة. واحدة منهم قدمت نفسها كسويسرية لكن لكنتها لم تكن سويسرية،
والإيراني لم تكن لكنته إيرانية. وخلال وجبة العشاء وضعت على الطاولة سلطة مقطعة شرائح
صغيرة. لقد زرت أماكن عديدة في مختلف أنحاء العالم، لكنني لم أجد هذه السلطة إلا في
إسرائيل". في اليوم التالي، لم يتردد جولد عن مخاطبة أحد معلمي الغطس بالعبرية:
"قل لي، ماذا تفعلون هنا؟"، ومن شدة المفاجئة أحمر وجه الرجل وانهار على
كرسي قريب. وفي النهاية سأل جولد بالعبرية أيضاً: "من تكون؟"، وفي نفس اليوم
وصل أيضاً مسئول كبير في الموساد، وألقى جولد أمامه شكواه بخصوص ما يجري في مخيمات
اللاجئين.
في إحدى العمليات، في مارس
1982، انطلقت مرة أخرى القافلة نحو البحر، إلا أنه بسبب مشاكل في الاتصال لم يصل إلى
نقطة الالتقاء سوى شخص واحد. خيبة الأمل بين رجال الموساد كانت كبيرة، لكن دورون قرر
إكمال العملية. هنا، وقع حادث كان من شأنه أن يكلف الموساد حياة عدد من الإسرائيليين،
بعدما حملوا اليهود الإثيوبيين على متن زوارق مطاطية وشقوا طريقهم نحو سفينة
"بت جاليم"، تعثر أحد القوارب وعلى متنه أربعة من رجال الموساد، حيث اصطدم
بالصخور بالقرب من الشاطئ. وفجأة، انقض جنود سودانيين مدججين ببنادق الكلاشينكوف المعمرة
وهددوا بإطلاق النار على الإسرائيليين الأربعة.
دورون، القائد، أفاق من الصدمة
وبدأ في الصياح بالإنجليزية موجهاً كلامه للقائد السوداني، "هل أنت مجنون؟. ماذا
تفعل؟. هل ستطلق النار على فوج سياحي؟. ألا ترى أننا ننظم رحلات غطس هنا؟. نحن من العاملين
بوزارة السياحة. نحن نجلب أفواج سياحية من شتى أنحاء العالم ليروا جمال السودان، وأنت
مثل الغبي تريد إطلاق النار عليهم؟. هل سقطت على رأسك؟. من الغبي الذي أعطاك رتبة ضابط؟".
الضابط، الذي كان يعرف الإنجليزية، كان حزيناً، واعتذر، وأوضح أنه ظن أنهم مجموعة مهربين
ولم يعرف أنهم سياح.
بسبب هذا الحادث توصل المسؤلون
في الموساد إلى نتيجة مفادها أن عملية الإنقاذ البحري قد استنفدت نفسها، وأنه يجب البحث
عن طريقة جديدة لتقليل المخاطر. في صباح أحد الأيام استيقظ السياح في المنتجع ليجدوا
أن كل أفراد الطاقم قد اختفوا من القرية، وتركوا للنزلاء خطابات اعتذار كتبوا فيها
أن القرية أغلقت بسبب مشاكل مالية. ووعدوا السياح بإعادة أموالهم، وهذا ما حدث بالفعل.
في أعقاب عدة مشاورات تقرر إجراء
عمليات الإنقاذ القادمة بواسطة طائرات هيركوليس تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي. كما قررت
قيادة الموساد المخاطرة بتنفيذ عملية اختراق للمجال الجوي السوداني وإنزال قوات على
أرض دولة معادية.
في مايو 1982 عاد رجال الموساد
إلى السودان، وكانت أول مهمة لهم هي تحديد أماكن هبوط محتملة جنوبي بورتسودان. وفي
النهاية عثروا على مطار بريطاني مهجور كان جاهزاً لهبوط الطائرات. اجتمع اليهود في
نقطة الالتقاء وتم أخذهم إلى المطار، الذي أضيء بكشافات خاصة لرسم المسار. وعندما هبطت
طائرات الهيركوليس التابعة لسلاح الجو انتابت اليهود الإثيوبيين حالة من الهلع والرعب.
الجسم المعدني العملاق الذي رأوه للمرة الأولى في حياتهم، هبط بأزيز شديد لصوت المحركات،
مع نشر سحب من الغبار، ثم استدار وبدى وكأنه يسير بسرعة شديدة نحوهم. كثير منهم هربوا
من المكان ولم يعودوا إلا بعد جهود إقناع جبارة. وآخرون خافوا من صعود هذا المسخ الفولازي.
بعد تأخير ساعة كاملة أقلعت الطائرة متجهة إلى "إسرائيل". وأرسلت قيادة الموساد
برقية تهنئة لمنفذي العملية، "لقد سطرتم تاريخاً، قمتم بتهجير 213 يهودياً للبلاد
بطريقة استئنائية، كل التقدير".
إلا أن الشغب في المطار علَّم
رجال الموساد درساً هاماً. في المرة القادمة ستنتظر الشاحنات حتى تهبط الهيركوليس وتنشر
الغبار، عندئذ يقومون بإنزال الإثيوبيين بجوار ذيل الطائرة ونقلهم مباشرة إلى داخل
البوابة المفتوحة.
لم يستمر الحفل طويلاً. السلطات
السودانية اكتشفت العملية والمطار على إثر وشاية، واضطر رجال الموساد للبحث عن مكان
آخر. ووجدوا بالفعل مهبطاً آخر، على بعد 46 كيلو متراً من بورتسودان. هذه المرة تقرر
تنظيم عملية إنقاذ جوية تشمل سبع طلعات جوية لطائرات هيركلويس، بحيث تحمل كل رحلة نحو
مائتي يهودي.
"عملية الإخوة"، جرت
تحت قيادة رئيس الموساد يتسحاق (حاكا) حوفي وكبير ضباط سلاح المظلات العميد عاموس يارون.
خلال العملية التي جرت على مراحل منذ منتصف 1982 حتى منتصف 1984، نقل جواً "لإسرائيل"
1500 يهودي إثيوبي.
كشف أمر هذه العملية في أعقاب
اعتقال قوات الأمن السودانية رجل الاتصال في مخيمات اللاجئين، أديس سلومون، بسبب وشاية،
حيث عذبوه على مدى اثنين وأربعين يوماً للكشف عن مشغله ونقطة الالتقاء التي حددها الموساد،
لكنه لم ينهار.
في نهاية العام 1984، ضربت المجاعة
مخيمات اللاجئن بالسودان، وكذلك الأمراض المعدية، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع نسبة وفيات
بين اليهود الذين كانوا ينتظرون الهجرة "لإسرائيل". وفي السودان نفسها دارت
رحى حرب أهلية طاحنة تسببت في إفراغ خزانة الدولة، وهزت مكانة الحاكم جعفر النميري،
الذي كان نظامه مرهوناً في حينه بالمساعدت الإنسانية وشحنات الغذاء من الولايات المتحدة.
استغلت "إسرائيل" هذا
الوضع وطلبت من واشنطن الاستجابة للطلب السوداني شريطة أن تتيح السودان استمرار تشغيل
الجسر الجوي "لإسرائيل". وبدورها، استجابت الإدارة الأمريكية للطلب "الإسرائيلي"،
وأمرت رجال السفارة في الخرطوم بإدارة مفاوضات، والتي أدت إلى اتفاق بموجبه لا ينقل
اليهود "لإسرائيل" مباشرة، وإنما عن طريق دولة أوروبية، إلى جانب عدم مشاركة
الإسرائيليين بشكل فعال في العملية، في المقابل تحصل السودان على مساعدات غذائية ووقود.
جفري ويفر، رجل السفارة الأمريكية
بالسودان، أرسل برقية جاء فيه أنه يمكن إخراج كل اللاجئين اليهود في غضون خمسة - ستة
أسابيع.
- هكذا خرجت إلى النور
"عملية موشيه".
كان رئيس الموساد في حينه ناحوم
أدموني، والذي عمل أيضاً في السنوات الأخيرة على قدم وساق لتنظيم هجرة اليهود الإثيوبيين
إلى جانب حوفي. أعطى أدموني لرجاله الضوء الأخضر لتهجير اليهود عبر بلجيكا، وهناك حددوا
شركة طيران صغيرة مملوكة لأحد اليهود المحليين. صاحب الشركة وافق على وضع طائراته البوينج
رهن تصرف منفذي العملية.
18 نوفمير 1984، في تمام الساعة
20: 1 بعد منتصف الليل، هبطت الطائرة البلجيكية الأولى في السودان. صعد الطائرة
250 لاجئاً جائعاً منهكاً ومذعوراً. قائد الطائرة رفض الإقلاع لأن الطائرة بها 230
قناع أكسجين فقط بينما المفروض أن يكون بها 250 قناعاً كعدد الركاب. اقترب منه رجل
الموساد وقال له بصوت هادئ لكنه حازم: "من فضلك، اختار من يعيش ومن يموت"،
ثم تابع ولكن بلهجة لا يمكن وصفها بالهدوء: "إذا لم تدخل كابينة الطيار وتشغل
المحرك الآن، سوف ألقيك خارج الطائرة وأحضر طياراً غيرك".
كانت هذه حجة مقنعة للغاية، وعلى
أثرها سرعان ما وافق الطيار، وفي الساعة 40: 2 أقلعت الرحلة الأولى لعملية "موشيه"
متجهة إلى "إسرائيل"، مع وقوف ترانزيت في بروكسل. تم تنفيذ 36 رحلة جوية
سرية على مدار سبعة وأربعين يوماً حيث تم تهجير نحو 7800 يهودي إثيوبي.
في ذلك الوقت بذلت الرقابة العسكرية
جهود مضنية للحيلولة دون تسرب معلومات حول العملية. واستمر الحجب الإعلامي حتى أعلن
رئيس الوكالة اليهودية، آرييه دولتسين، بأن "أحد الأسباط اليهودية على وشك العودة
لوطن". في أعقاب هذا الإعلان نشرت مجلة "Jewish
Press"
في نيويورك قصة العملية. وفي اليوم التالي، تناولت صحيفة لوس أنجلوس تايمز تفاصيل العملية.
إلا أن آلة الثرثرة الإسرائيلية
لم تتوقف عند هذا الحد، حيث منح يهودا دومينتس، وهو من قيادات دائرة الهجرة بالوكالة
اليهودية، حواراً لصحيفة المستعمرين "نيقودا"، قال فيه "في الماضي كان
يوجد بإثيوبيا 25 ألف يهودي، والآن لا يمكنني أن أبوح لك كم يهودي لازال هناك".
ورداً على سؤال المحاور هل هاجر معظمهم "لإسرائيل"، أجاب دومينتس بأنه
"يمكن القول بنعم، لكن بدون تفاصيل".
بعد ذلك بثلاثة أيام قال رئيس
الوزراء، شمعون بيرس، في خطاب من فوق منبر الكنيست: "حكومة إسرائيل بذلت - ولازالت
- العديد من الجهود في حدود إمكاناتها، بل وأكثر، من أجل إنجاز العملية حتى وصول آخر
يهودي من إثيوبيا إلى وطنه". وبالفعل، في نفس اليوم ألغى السودانيون الرحلات وتوقفت
العملية. جدير بالذكر أن ما أثار غضب السلطات السودانية لم يكن الأنباء المنشورة في
الصحف، وإنما تأكيد رئيس وزراء إسرائيل لتلك الأنباء. "لو صمت الإسرائيليون شهراً
واحداً آخر لكان من الممكن إنقاذ كل يهود إثيوبيا"، قال مصدر رسمي في واشنطن.
الرئيس الأمريكي جورج بوش، أبدى
اهتماماً كبيراً بـ"عملية موشيه"، وأعرب عن تقديره الشديد لاستعداد "إسرائيل"
المخاطرة بعملائها السريين وأفراد من الجيش لإنقاذ لاجئين من ويلات المجاعة في أفريقيا.
ولم يكتف بوش بالكلام. بعد أسابيع معدودة من وقف عملية موشيه، هبطت في جدارف بالسودان
سبع طائرات هيركليوس تابعة لسلاح الجو الأمريكي، وعلى متنها رجال الـCIA. وعلى الفور، بدأ الطاقم
الأمريكي عملية أسماها "ملكة سبأ" (بلقيس)، وفي إطارها تم نقل الـ500 يهودي
المتعثرين في السودان مباشرة إلى قاعدة سلاح الجو في متسبيه رامون.
بعد شهرين من ذلك تمت الإطاحة
بحاكم السودان جعفر النميري على أيدي بعض الضباط في جيشه، وسارع رجال المخابرات الليبية
بالسفر إلى السودان لرصد رجال الموساد الذين لازالوا يعملون بالعاصمة السودانية. كشف
الليبيون الثلاثة، الذين ظلوا في السودان، وفي اللحظة الأخيرة تمكنوا من الهرب إلى
بيت عميل الـCIA في الخرطوم.
العميل الأمريكي تستر عليهم في
منزله واستطاع تسفيرهم في صناديق على متن رحلة جوية متجهة إلى العاصمة الكينية نيروبي.
إلا أنه بعد وقت قصير من ذلك تفجرت في الولايات المتحدة قضية اليهودي جوناثان بولارد،
العميل في إحدى الوكالات الاستخباري، والذي اعتقل بتهمة التجسس الخطير لحساب "إسرائيل"،
الأمر الذي أثار شعور رهيب في نفوس مسئولي الـCIA بأن "إسرائيل" تتعامل معهم بنكران شديد
للجميل.
في أعقاب "عملية موشيه"
أثيرت بين أبناء الطائفة الإثيوبية انتقادات حادة، لأنه خلال العملية التي استمرة سنتين
لقي نحو أربعة آلاف يهودي حتفهم، بسبب الظروف السيئة والطريق الطويلة التي اضطروا للسير
فيها حتى السودان. كما احتدم في الموساد جدل كبير بين رجال وحدة العمليات "قيسارية"،
برئاسة شفتاي شافيت، وبين رجال وحدة "بيتسور" التي كانت مسئولة عن تهجير
الإثيوبيين إلى البلاد، حول تخطيط العملية وتنفيذها.
زعم شافيت ورجاله أن "بيتسور"
هي وحدة هامشية ليس لديها القدرة على تنفيذ تلك العملية التي كلفت بها. وقالوا إن رجال
وحدة "بيتسور" لا يملكون قدرة عملياتية حقيقية، لذا لم يتمكنوا من الصمود
أمام الضغط في تلك العملية الصعبة والمعقدة. ومن الناحية الأخرى زعم رجال وحدة
"بيتسور"، ومن بينهم جاد شمرون الذي شارك في العملية، أن أسلوب العمل الارتجالي
والعفوي وغير التقليدي لقائد العملية، دورون، هو تحديداً الذي أدى إلى نجاح العملية.
حتى اليوم يعتقد الكثيرون في
الموساد أنه لو كانت وحدة "قسارية" هي المسئولة في حينه عن العملية، ربما
كان معدل إخلاء اليهود من مخيمات اللاجئين أسرع وأكثر نجاعة، وربما وفرت إسرائيل أيضاً
على نفسها عناء وفاة عدد كبير من اليهود. بنظرة للخلف يبدو أن العملية كلها تولدت بارتجالية
اللحظة الأخيرة وأديرت بشكل غير منظم، وليس بناء على تخطيط دقيق وفكر بعيد الرؤية.
الصحفي رونين برجمان من صحيفة
"يديعوت أحرونوت" سأل قائد العملية، هل شعرت أن الموساد ربما يكون قد أخذ
على عاتقه مسئولية ثقيلة للغاية وأنه وعد المهاجرين بإخراجهم من السودان فور اجتيازهم
الحدود ولم يوف بوعده.
وأجاب دورون: "كانت هناك
نية للوفاء بالوعد، لكن ثمة أحد لا يستطيع تخطيط عملية كهذه بطرق عمل منظمة. أنت تنشغل
بموضوع مختلف تماماً عن العمليات العادية لأجهزة المخابرات. طوال الوقت كنا نبحث عن
طرق عمل جديدة، وقد نجحنا أحياناً في ذلك، وأحياناً أخرى كانت درجة النجاح أقل. وبدء
من مرحلة معينة لم يكن من الممكن تنظيم حركة اللاجئين داخل السودان. بمنتهى البساطة
فقدنا السيطرة".
وأضاف دورون: "يمكنني تفهم
أخطائهم". وسأله الصحفي أيضاً لماذا لم ينتظر الموساد أوقات أكثر مناسبة لتنفيذ
العملية، دون سقوط كل هذا العدد من الضحايا. رد دورون على هذا السؤال بإجابة قاطعة:
"أن تقول إنه كان يجب الانتظار كأنك تقول إنه كان يجب تأجيل إعلان الدولة عن حرب
الأيام الستة".
واتهم البعض رجال "اللجنة"
وبعض زعماء الطائفة بالفساد، وتفضيل أبناء أسرهم وأخذ أموال كانت مخصصة لكل المهاجرين.
كما زعم البعض أنه ما كان يجب
إخراج يهود إثيوبيا من ديارهم، حيث أنهم لم يتعرضوا لاضطهاد أو معاناة - مثلما زعم
رئيس الوزراء بيجين - وكان من الأفضل لهم البقاء في إثيوبيا سالمين معافين. يبدو أن
أصحاب هذا الادعاء الأحمق تجاهلوا الهدف الرئيسي الذي أقيمت من أجله دولة "إسرائيل"،
وهو جمع الشعب اليهود وتهجيره من كافة أرجاء الكون. كما أنهم تجاهلوا حنين يهود إثيوبيا
الطويل، الذي دام آلاف السنين، للمجئ إلى أرض إسرائيل والقدس.
بعد انتهاء "عملية موسى"
و"عملية سبأ" ظل في إثيوبيا آلاف اليهود الذين أرادوا الهجرة إلى "إسرائيل".
وكان يجب تهجيرهم "لإسرائيل"، بعدما أضيف سبب آخر لكل الأسباب سابقة الذكر،
وهو أن العديد من الأسر تمزقت وتفرقت، وأطفال جاءوا "لإسرائيل" بدون آبائهم
وكذلك العكس، هذا الانقطاع تسبب في صعوبات شديدة في عملية استيعابهم، وكذلك أدى إلى
أحداث أخرى مأساوية. مبعوثو الوكالة اليهودية والموساد نقلوا الآلاف من العاصمة الإثيوبية
أديس أبابا، وهؤلاء كانوا في انتظار المعجزة التي ستنقلهم لأرض "إسرائيل".
"وها قد جاءت المعجزة".
بعد مرور ست سنوات على
"عملية موشيه"، في مايو 1991، بدأت "عملية شلومو"، وهي العملية
التي جرت في ظل ظروف دراماتيكية، وفي خضم حرب أهلية كانت فيها قوات المتمردين على النظام
العسكري الحاكم على أعتاب العاصمة أديس أبابا. تهيأت الظروف لتنفيذ العملية بعد الوصول
إلى اتفاق، بوساطة أمريكية، بين حكومة "إسرائيل" وحاكم إثيوبيا الهارب منجيستو،
قبل أيام معدودة من انهيار نظامه.
وبحسب الاتفاق، تدفع "إسرائيل"
مبلغ 35 مليون دولار مقابل تهجير اليهود، كما وعد الأمريكيون عدة مسئولين في نظام منجيستو
بمنحهم اللجوء السياسي بالولايات المتحدة. تحقق الاتفاق في أعقاب أنشطة سرية مستمرة
لأوري لوفرني، رجل وزارة الخارجية الذي كرس جهوده من أجل تنفيذ المهمة بناء على طلب
رئيس الوزراء يتسحاق شامير.
وبحسب روايات متفق عليها، تم
الاتفاق أيضاً مع قيادات المتمردين بألا يعرقلوا تلك العملية المحدودة، مع الموافقة
على هدنة غير رسمية ووقف المعارك.
هكذا بدأ الجيش الإسرائيلي العملية،
برئاسة نائب رئيس الأركان أمنون ليبكين شاحاك. وبسرعة شديدة وتنظيم نموذجي أرسل إلى
أديس أبابا كل الطائرات، وفي إطار العملية أرسلت شركة العال لإثيوبيا ثلاثين طائرة
ركاب، كما أرسل سلاح الجو الكثير من طائراته. ووصل إلى أديس أبابا المئات من جنود وحدة
شلدج، إلى جانب جنود من سلاح المشاة والمظلات من أصول إثيوبية، والذين كانوا قد هاجروا
لإسرائيل قبل سنوات معدودة، حيث انتشروا هناك لتأمين المطار وقادوا اليهود إلى داخل
الطائرات. على مدار أربع وثلاثين ساعة اجتمع في المطار 14.400 يهودي، وبسرعة البرق
أصعدوهم إلى الطائرات التي اقلعت متجهة إلى إسرائيل. حققت هذه العملية رقماً قياسياً
عالمياً: 1087 راكب على متن طائرة العال البوينج رقم 747. وخلال الرحلة ولد أيضاً طفل،
لينزل من الطائرة 1088 مهاجراً.
عند رؤية الجنود الإثيوبيين الشباب
الذين جاءوا من إسرائيل بزي الجيش الإسرائيلي لإنقاذ إخوانهم، تفجرت مشاعر عظيمة بين
المهاجرين، حتى أن الجنود المظليين الإثيوبيين الأقوياء، الذين كانوا يرتدون الزي العسكري
والباريه الأحمر، لم يتمكنوا من حبس دموعهم.
والآن، بعد مرور قرابة 20 عاماً
على عملية شلومو، لازال هناك الكثير من اليهود في إثيوبيا يحلمون بالهجرة "لإسرائيل".
والمعروف أن عملية استيعاب يهود إثيوبيا في "إسرائيل" لم تكن بسيطة، سواء
بسبب التمييز الفج ضدهم، أو شعور المهاجرين بالاغتراب أو الشك المرفوض في يهوديتهم.
ومثلما قال البيت الأخير من
"أغنية الرحلة":
"في القمر، صورة أمي تنظر
إلى، أمي لا تختفي: لو كانت بجانبي، لكان بمقدورها إقناعكم بأني يهودي".
كتاب الموساد "العمليات الكبرى"
ترجمة: مختارات إسرائيلية