في ظل هذه المتغيرات، يمكن النظر إلى زيارة الرئيس الإيراني إلى دمشق، والتي تنطوي على إشارات متعددة بعضها يرتبط بالمعايير السياسية، بأن طهران مقبلة على مواقف سياسية جديدة متماهية مع التطور الذي تشهده المنطقة
في زيارة هي الأولى من
نوعها منذ 13 عامًا، وصل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى العاصمة السورية دمشق،
تلبية لدعوة رسمية من رئيس النظام السوري بشار الأسد، الزيارة وصفتها وسائل الإعلام
الإيرانية الرسمية بأنها "بالغة الأهمية"، فيما وصفها السفير الإيراني لدى دمشق
حسين أكبري بأنها "نقطة تحول، نظرًا للتغيرات والتطورات التي تحدث في المنطقة، فهي
لن تكون مفيدة لطهران ودمشق فقط، بل ستستفيد منها دول أخرى بالمنطقة". فما خلفيات
وأبعاد هذه الزيارة؟، وما الدلالات التي تحملها؟، وما هي الأصداء التي ستتركها في
ظل التحولات التي تشهدها المنطقة؟
|
زار
الأسد طهران مرتين بشكل معلن خلال السنوات الماضية، كانت الأولى في فبراير
2019، فيما كانت الثانية في مايو 2022، والتقى خلالها بـ "رئيسي" وبالمرشد
الأعلى الإيراني علي خامنئي، كما شهدت السنوات الأخيرة توقيع العديد من
الاتفاقات الثنائية في مجالات مختلفة |
نقطـة تحـول
كان آخر رئيس إيراني يزور
سوريا هو الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، الذي زارها في سبتمبر 2010، ومنذ ذلك
الحين لم يقم أي رئيس إيراني بزيارة دمشق على الرغم من الدعم اللامحدود الذي قدمته
طهران للنظام السوري خلال النزاع المسلح الذي اندلع في أعقاب الثورة السورية في عام
2011، خلال السنوات القليلة الماضية تحدثت تقارير متعددة عن زيارة محتملة لرئيس
إيران إلى سوريا، لكنها لم تحصل أبدًا، وفقًا لبعض التكهنات فإن طهران كانت ترفض
إتمام هذه الزيارة إلا في حالة موافقة الجانب السوري على توقيع المزيد من اتفاقيات
الاستثمار طويل المدى، كنوع من سداد الديون السورية المتوجبة لصالح إيران، لا سيما
وأن إيران تعدّ الداعم الرئيسي لنظام الأسد حيث ساندته سياسيًا واقتصاديًا
وعسكريًا، فبينما كانت تسهم في تأمين احتياجات النظام من النفط، فإنها أيضا دأبت
على إرسال مستشارين عسكريين ومقاتلين لدعم جيش النظام السوري في معاركه، وهو ما
ساعد ـ إلى جانب الدعم الروسي ـ في ترجيح الكفة لصالح قوات الأسد على عدة جبهات،
وفي مقابل هذا الدعم حصلت طهران على نفوذ اقتصادي وسياسي كبير في الداخل السوري،
بما في ذلك حصة كبيرة من الأصول الاقتصادية السورية متمثلة في الأراضي والمباني
الحكومية والموارد الطبيعية مثل مناجم الفوسفات.
على الجانب الآخر،
زار الأسد طهران مرتين بشكل معلن خلال السنوات الماضية، كانت الأولى في فبراير
2019، فيما كانت الثانية في مايو 2022، والتقى خلالها بـ "رئيسي" وبالمرشد الأعلى
الإيراني علي خامنئي، كما شهدت السنوات الأخيرة توقيع العديد من الاتفاقات الثنائية
في مجالات مختلفة، بعضها تضمّن تدشين مرفأين
مهمين في شمال طرطوس وفي جزء من مرفأ اللاذقية، لكن هذه الاتفاقيات لم تكن كافية
لإرضاء مطامع الإيرانيين الراغبين في المزيد، من هنا كانت أهمية زيارة رئيسي إلى
سوريا في هذا التوقيت المتزامن مع تحركات دبلوماسية حثيثة يتغيّر معها المشهد
السياسي في المنطقة، والتي تتمثل في الآتي:
1ـ الانفتاح العربي تجاه
النظام السوري الذي تمت مقاطعته عربيًا منذ عام 2011، وسط معلومات تفيد بقرب عودة
دمشق إلى الجامعة العربية لا سيما مع قرب انعقاد قمة عربية في السعودية مقررة في 19
مايو، صحيح أنه لا تزال هناك انقسامات عميقة بين الدول العربية بشأن كيفية إعادة
تأهيل سوريا وتوقيت ذلك، لكن بشكل عام هناك رغبة في تعزيز التنسيق والتعاون الأمني
بين النظام السوري وعدد من الدول العربية لاعتبارات متعلقة بأمنها.
2ـ يُضاف إلى ذلك اتفاق
الرياض وطهران خلال الشهر الماضي على استئناف علاقاتهما في الفترة المقبلة بعد توقف
دام 7 سنوات، تمت إعادة العلاقات بوساطة من الصين والتي اعتبرت بمثابة ضربة للنفوذ
الأمريكي في الشرق الأوسط، حيث ترى إيران في تحالفها مع الصين عامل تغيير في قواعد
اللعبة السياسية بالمنطقة.
3ـ الرغبة المتزايدة لعدد
من الدول العربية في عودة الاستقرار إلى سوريا، وإعادة اللاجئين، ففي مقابل إعادة
احتضان النظام إقليميًا سيكون عليه تسهيل عملية إعادة اللاجئين، بالإضافة إلى البحث
عن حل سياسي شامل مع قوى المعارضة.
4ـ تأتي الزيارة وسط مساعي
روسية للوساطة بين دمشق وأنقرة التي دعمت المعارضة السورية لسنوات، وفي حالة إيجاد
تفاهم بين السوريين والإيرانيين فمن المتوقع أن يسهم ذلك في التوصل لحل نهائي
للنزاع الذي أودى بحياة أكثر من نصف مليون سوري، واستنزف اقتصاد البلد ودمّر بنيتها
التحتية، وتسبب في نزوح وتهجير أكثر من نصف عدد السكان داخل البلاد وخارجها.
|
تريد
طهران الحصول على ضمانات سيادية لما ستحصل عليه نظير الأموال التي صرفتها
لصالح النظام من أجل إرساء قواعده واستمراريته بالرغم من المخاطر العديدة
التي كادت أن تطيح به، وبالفعل فقد شهد اليوم الأول لزيارة رئيسي توقيع عدد
من الاتفاقات الاستراتيجية بين البلدين. |
في ظل هذه المتغيرات، يمكن النظر إلى زيارة الرئيس الإيراني إلى دمشق، والتي تنطوي
على إشارات متعددة بعضها يرتبط بالمعايير السياسية، بأن طهران مقبلة على مواقف
سياسية جديدة متماهية مع التطور الذي تشهده المنطقة،
لا يمكن التأكيد على دقة هذه الفرضية الآن، لكن ما هو مؤكد أن مضمون الزيارة لا
يخلو من الفوائد الاقتصادية للإيرانيين، لقد اصطحب رئيسي في زيارته وفدًا يضم وزراء
النفط والدفاع والشؤون الخارجية والاتصالات والطرق وبناء المدن، إنها زيارة للتأكيد
على تثبيت الوجود والفعالية في سوريا، والأهم من ذلك كله نيل النصيب الأكبر من كعكة
إعادة الإعمار.
توترات ومخـاوف
كانت العلاقات بين إيران
وسوريا قد أخذت منعطفًا نحو الأسوأ خلال الأشهر القليلة الماضية، وذلك عندما توقفت
طهران عن تزويد دمشق بالمنتجات البترولية في عام 2017، كما أنها سبق وأن علّقت
الموافقة على تعيين سفير سوري جديد لديها، يُضاف إلى ذلك الهجمات الإسرائيلية
المتكررة على الميليشيات الموالية لإيران والتي دفعت الأخيرة وحلفائها إلى التساؤل
عما إذا كان بعض القادة العسكريين السوريين يبلغون إسرائيل بتحركاتهم، بل إن بعض
التقارير قد زعمت أن مصادر سورية أعطت إسرائيل معلومات عن قافلة شاحنات تابعة
لميليشيا موالية لإيران بالقرب من الحدود السورية العراقية، مما عرّضها لضربة
بطائرة بدون طيار في أواخر يناير الماضي، يأتي ذلك فيما ألّمحت تقارير أخرى إلى أن
العديد من السوريين ـ بما في ذلك بعض أفراد الجيش ـ قد باتوا غير راضين عن سلوك
إيران داخل بلادهم، والكثير منهم قلقون من أن الهجمات الإسرائيلية تدمر روحهم
المعنوية وتفقدهم ما تبقى لهم من سيطرة وسيادة على أراضيهم.
هذا الوضع الملتبس أثار
قلق إيران وسوريا بشأن علاقاتهما الاستراتيجية، لكن بشكل عام ورغم أن التوترات كانت
حقيقية للغاية، لكنها لم تتسبب في إحداث أي خرق خطير بين الحليفين، فإيران وسوريا
مرتبطتان من نواحٍ كثيرة، وقد نجحت طهران خلال السنوات العشر الأخيرة في تعزيز
وجودها في العراق وسوريا ولبنان واليمن وكرّست نفسها كشريك استراتيجي هو الأكثر
موثوقية لجزء فاعل من الأطراف السياسية في تلك البلدان.
أبعـاد ودلالات ونتائج مرتقبة
بمجرد وصوله إلى القصر
الرئاسي بدمشق، قال رئيسي للأسد خلال محادثات موسعة جمعت بينهما، إن "سوريا اجتازت
مصاعب كبيرة، واليوم نستطيع القول بأنكم قد عبرتم كل هذه المشاكل وحققتم الانتصار
رغم التهديدات والعقوبات"، ومع "تحقيق الانتصار" على حد وصف رئيسي فإن سوريا الآن
مقبلة على مرحلة جديدة سيكون الاقتصاد هو عنوانها الرئيسي، من هنا يبدأ الحديث عن
النتائج المرتقبة لهذه الزيارة، أو بمعنى أدق النتائج التي يرجوها الإيرانيون من
ورائها:
1ـ
تريد طهران الحصول على ضمانات سيادية لما ستحصل عليه نظير الأموال التي صرفتها
لصالح النظام من أجل إرساء قواعده واستمراريته بالرغم من المخاطر العديدة التي كادت
أن تطيح به، وبالفعل فقد شهد اليوم الأول لزيارة رئيسي توقيع عدد من الاتفاقات
الاستراتيجية بين البلدين.
2ـ تريد طهران الحصول على
امتيازات عسكرية ومدنية ودبلوماسية واسعة، منها على سبيل المثال أنها تريد أن
يُعَامل الإيرانيون في المستشفيات والمؤسسات الحكومية وغير ذلك، كما يعامل
السوريون، وفي حال ارتكبوا أي جريمة؛ فإنهم يحاكمون أمام القضاء الإيراني وليس
القضاء السوري.
3ـ من المنتظر أن تكون
الاتفاقات الجديدة استكمالًا لاتفاقات سابقة، كان رئيس الوزراء السوري عماد خميس قد
وقّعها في بداية 2017، منها ما يتعلق بعمل شركة إيرانية يدعمها الحرس الثوري كمشغل
ثالث للهاتف الجوال، واستثمار الفوسفات السوري لمدة 99 عامًا، والاستحواذ على أراض
واسعة لإقامة مشاريع زراعية وصناعية.
4ـ تأمل طهران في حُسن
استغلال التغيرات السياسية الراهنة، خاصةً فيما يتعلق بانشغال روسيا بحرب أوكرانيا،
فهي تريد سداد التكاليف التي دفعتها خلال الحرب والتي تصل إلى نحو 20 مليار دولار
خلال العقد الماضي.
5ـ تكرس زيارة رئيسي
الوجود الإيراني طويل الأمد في سوريا، كما عقد اجتماعات منفصلة مع قادة فصائل
المقاومة الفلسطينية خلال اليوم الثاني من زيارته، وهو ما يبعث برسالة قوية إلى
الكيان الصهيوني، خاصةً وأن رئيسي شارك في حفل كبير أُقيم تحت اسم "انتصار
المقاومة"، وهو استعراض للقوة الإيرانية أمام التصعيد الإسرائيلي.
6ـ تريد إيران شبه
المعزولة دوليًا أن تكسر عزلتها عبر المزيد من الصفقات الإقليمية، وتعزيز وجودها
وتأثيرها في المنطقة، ولا شك أن مثل هذه الزيارات رفيعة المستوى تؤتي ثمارها في هذا
الإطار.
لم تتبلور بعد ردود أفعال
مخالفة لما هو معتاد تقليديًا حيال الزيارة، فالدول المناصرة لإيران رأت في الزيارة
انتصارًا كبيرًا وتعزيزًا لعلاقات إيران مع حلفائها، على النقيض رأت الولايات
المتحدة أن الزيارة تمثّل تكريسًا لنفوذ الشرّ الإيراني، وقد صرّح نائب المتحدث
باسم وزارة الخارجية الأمريكية فيدانت باتيل بأن تعميق العلاقات بين إيران وسوريا
"يجب أن يكون مصدر قلق كبير للعالم، فكلا البلدين واصلتا المشاركة في الأنشطة
الخبيثة المزعزعة للاستقرار، ليس فقط في بلدانهما المباشرة، ولكن أيضًا في المنطقة
ككل"، لكن بين هذا وذاك فإن إيران يبدو أنها عازمة على السعي لتحقيق تغييرات سياسية
في وضعها بالمنطقة، فحتى وإن ظلّت ترفع شعارات المقاومة والعداء للغرب وإسرائيل ولم
يحالفهما من الجيران، فإنها في نفس الوقت ترغب في الخروج من دائرة العقوبات
المفروضة عليها وتخفيف وطأة عزلتها، لقد قوّض استمرار العداء مشاريعها الاقتصادية،
وحان الوقت لكي تسلك مسارًا مختلفًا وتبقى النتائج مرهونة بمدى نجاحها في تلك
المساعي.