هل تقف الولايات المتحدة على الحياد منتظرة نتيجة الانتخابات التركية، أما أن لها وسائلها للتدخل بحيث تدفع الطرف الموالي لها للفوز بالانتخابات؟ ما هي وسائلها؟ وهل ستنجح في ذلك؟
في الأسبوع الماضي تناقلت وسائل الاعلام العالمية، اعلان الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان رفضه مقترح أعضاء حزب العدالة والتنمية الحاكم، تأجيل موعد الانتخابات
التركية من الـ 14 من مايو القادم، إلى الـ 18 من يونيو.
وشدد الرئيس التركي على المضي قدمًا في إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية،
بالرغم من تداعيات زلزال فبراير، والتي كان كثير من المراقبين يتوقعون تأجيلها بسبب
الخسائر الناجمة عن هذا الزلزال.
ولم يكن موعد الانتخابات الذي جرى حسمه هو الإشكالية الوحيدة التي تحيط
بالانتخابات، فثمة إرهاصات وتوقعات بتدخل أمريكي في الانتخابات.
حيث يصر الفريق الموالي لأردوغان وحزب العدالة من سياسيين وأجهزة اعلام، على أنه
يوجد رغبة أمريكية لإزاحة أردوغان وحزبه وحلفائه عن حكم تركيا، بعد ما يقرب من
عشرين عامًا منذ نجاحهم في الانتخابات المتوالية التي تم إجراؤها طوال هذه الفترة.
بينما يجادل فريق آخر من المعارضين لحزب العدالة والتنمية التركي، أنها نظرية
مؤامرة ولا توجد مثل هذه التدخلات، لأنه يستحيل أن تتدخل أمريكا في ظل انتخابات حرة
وتؤثر على الناخب التركي فيختار ما تريده أمريكا؟
ولحل هذه الإشكالية ينبغي النظر في البداية في علاقة حكومة أردوغان مع الولايات
المتحدة، وهل تدهورت إلى الحد الذي تندفع فيه أمريكا لمحاولة إزاحته من الحكم؟
ثم نعرج إلى أدلة القائلين بالتدخل الأمريكي ومناقشة مدى معقوليتها.
العلاقات التركية الأمريكية
لفهم طبيعة العلاقة بين الدولتين ينبغي تحديد رؤية كل منهما لدور الأخرى ومدى تعارض
المصالح والاستراتيجيات لكل منهما:
الرؤية الأمريكية لتركيا:
بعد أن ورثت الولايات المتحدة الدور البريطاني في العالم في أعقاب الحرب العالمية
الثانية، تطلعت أمريكا كسابقتها من القوى العظمى إلى تركيا باعتبارها حديقة خلفية
لصراعاتها العالمية.
فالدول الكبرى عادة تجعل عددًا من الدول تصبح أشبه بالحدائق الخلفية لهذه القوى
الكبرى، ولا تؤدي أي أدوار على الساحة السياسية العالمية، سوى أنها تقف كالمتفرج من
بعيد على من يؤدون الأدوار بإتقان على خشبة المسرح الدولي، ولم يترك لهم سوى
الإعجاب والتصفيق تعبيرًا عن الرضى وحالة الارتياح لما يقدم.
وهذه حال تركيا بعد سقوط الدولة العثمانية وتحولها إلى مجرد ألعوبة في يد القوى
الكبرى بين الحربين وأثناء الحرب الباردة التي اندلعت بين القطبين، وحتى بعد سقوط
الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، حيث تحولت تركيا إلى مجرد معبر للغرب
وبالذات الولايات المتحدة إلى دول آسيا الوسطى أو الجمهوريات السوفيتية السابقة.
|
دأب الرئيس بايدن حتى في حملته الانتخابية على وصف الرئيس التركي، رجب طيب
أردوغان، بالمستبد، داعياً إلى ضرورة اتباع نهج جديد في السياسات الأمريكية
تجاه تركيا.
|
باختصار أصبحت تركيا وفي وقت واحد بمثابة إما حديقة خلفية أو على الأكثر كجبهة
أمامية في صراع جيوسياسي بين الأقوياء، وظل الحال على ذلك حتى جاء عام 2002، وفي
نهايته صعد حزب العدالة والتنمية التركي ليتولى الحكم منفردًا بعد نجاحه المذهل في
الانتخابات البرلمانية لينتهج نهجًا مستقلاً، محاولاً كسر جدار التبعية للغرب وعلى
رأسه أمريكا، راسمًا لتركيا دورًا جديدًا في العالم.
هنا شعرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة بخطورة النهج الاستقلالي، الذي تمارسه حكومة
حزب العدالة بقيادة أردوغان فكان لابد من رسم استراتيجية جديدة تحاول أن تعيد فيه
المارد إلى قمقمه مرة أخرى.
هذه الاستراتيجية تبلورت أكثر مع صعود إدارة بايدن إلى كرسي الرئاسة في البيت
الأبيض، فتمحورت حول اتخاذ أوراق ضغط على الحكومة التركية لجعلها تمتثل للإرادة
الأمريكية،
فكانت ورقة الأكراد، وورقة مبيعات الأسلحة الحديثة الأمريكية، وورقة حقوق الإنسان.
بالنسبة للأكراد، دعمت الولايات المتحدة وحدات حماية الشعب الكردية في سورية
المعروفة بقربها من حزب العمال الكردي الذي يخوض حرب عصابات مع الدولة التركية،
ويحلم بفصل منطقة الأكراد في تركيا والتحامها بنظيرتها في العراق وسوريا وإيران
لتكوين دولة كردستان الكبرى.
أما ورقة الامتناع عن تزويد تركيا بالأسلحة الحديثة، فقد تبلور في وقف مشروع انتاج
الطائرات الحديثة إف 35 المشترك بين تركيا والولايات المتحدة، كما أجلت أمريكا صفقة
بيع طائرات إف 16 المعدلة إلى تركيا.
وتمثلت ورقة حقوق الإنسان الأداة الاستراتيجية الأمريكية الأخيرة في كبح جماح
الصعود التركي، فبايدن عندما يريد الضغط على دولة ما فإنه سرعان ما يرفع شعار القيم
الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو اتجاه يعاكس سياسات سلفه الرئيس السابق دونالد
ترامب، الذي لم يولِ هذه القضايا أهمية تُذكر خاصة في تعاملاته مع دول الشرق الأوسط
لا سيما تركيا.
ودأب الرئيس بايدن حتى في حملته الانتخابية على وصف الرئيس التركي، رجب طيب
أردوغان، بالمستبد، داعياً إلى ضرورة اتباع نهج جديد في السياسات الأمريكية تجاه
تركيا.
ولكن سرعان ما تغيرت أولويات إدارة بايدن مع بدء حملتها للمحافظة على صدارة الساحة
العالمية، وتحجيم الصعود الصيني والروسي في العالم، والحيلولة دون تحويلهم النظام
العالمي إلى متعدد الأقطاب.
فعمدت الولايات المتحدة إلى إعادة ترميم العلاقات مع الحلفاء والشركاء، والعودة
بالنظام العالمي للاصطفافات التي كان عليها في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي
لمواجهة الصعود الروسي والصيني، وتمكنت من جر روسيا إلى مستنقع أوكرانيا، وهنا ظهرت
أهمية الدور التركي.
فبدأت إدارة بايدن في تقليص أدوات ضغطها على تركيا أردوغان، أو على الأقل هذا ما
بدا في العلن.
الرؤية التركية للولايات المتحدة
بوصول حزب العدالة والتنمية التركي إلى سدة الحكم، حاول تغيير النظرة إلى تركيا
ودورها في العالم.
يعتبر أحمد داود أوغلو (المنظر الأساسي لفكر حزب العدالة في كتابه العمق
الاستراتيجي)، "أنه لفترة طويلة في التاريخ كانت تركيا في نظر العالم دولة جسرية
ليس لها رسالة سوى أن تكون معبرًا بين الأطراف الكبرى،
أي جسرًا بين طرف وآخر دون أن تكون فاعلاً بين الطرفين، ولذا بدت تركيا لدى الشرقي
دولة غربية ولدى الغربي دولة شرقية".
والواقع أن تركيا تحت حكم حزب العدالة مثلها مثل القوى التي لديها طموح في الصعود
الدولي، تمر بمراحل صعود ثلاثة لكي تصل إلى مصاف القوى العظمى:
مرحلة تصفير المشاكل مع الدول الأخرى، خاصة دول الجوار والقوى الدولية.
ثم تنتقل إلى مرحلة وإيجاد موطئ قدم وتمدد في النفوذ.
وأخيرًا مرحلة التصادم والاشتباك مع الصراعات الإقليمية والدولية وإثبات أنها قوة
عظمى.
والمتتبع لاستراتيجيات حزب العدالة وسياساته طيلة العشرين سنة ماضية يجدها تطبيقًا
عمليًا لتلك الخطوات:
ففي البداية رفعت الحكومة التركية شعار صفر مشكلات، هذا النهج الذي اعتمد على البحث
عن الفرص بدلاً من تجنب التهديدات، وحاول أن يجعل تركيا في دور أشبه بالوسيط مع
جميع اللاعبين السياسيين في المنطقة.
ولكن مع اندلاع ما عرف بموجات الربيع العربي، بدت استراتيجية صفر مشاكل غير مجدية،
حيث رأت حكومة العدالة أنه يتعين عليها الانتقال إلى خطوة أخرى في سلم الصعود، وهو
الاشتباك مع قضايا المنطقة وإيجاد موطئ قدم.
فكان ترجمة تلك الخطوة بالتدخل التركي في سوريا وليبيا والصومال وقطر بالتوافق مع
حكومات هذه الدول وإنشاء قواعد عسكرية بها.
كذلك عكس التعاون التركي مع كل من أذربيجان وأوكرانيا في حربهما وتزويدهما بالسلاح
رغبة تركية في الوجود الإقليمي وإظهار تركيا كقوة إقليمية يجب أن يحسب لها حساب.
وكان مساعدة النظام الأثيوبي في حربه الأهلية ضد طائفة التجراي، مظهًرا آخر للتمدد
التركي باعتبار أثيوبيا إحدى الدول الأفريقية الكبرى، والتي نظر لها الأتراك كمدخل
مهم للبحر الأحمر وقاعدة للولوج إلى أفريقيا.
لم تصل تركيا بعد للمرحلة الأخيرة في الصعود وهي الصدام وتحدي القوى الكبرى، ولكن
هناك إرهاصات وبالونات اختبار يطلقها أردوغان من حين لآخر في تحدي أمريكا وفي بعض
الأوقات روسيا والصين، ولكن سرعان ما يتراجع ويأخذ خطوة للخلف عندما يدرك أن الوقت
لم يحن بعد.
التدخل الأمريكي في الانتخابات التركية
تتعدد الاتهامات التي يسوقها المسئولون في حزب العدالة التركي بالتدخل الأمريكي
المزمع في الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة، بالرغم من أن الصف الأول من
المسئولين الأتراك ينأون بأنفسهم عن الحديث المباشر في ذلك الموضوع.
وإذا كان من الطبيعي أن يتحدث الموالون لحكومة العدالة سواء كانوا ساسة أو وسائل
إعلام عن التدخل الأمريكي في الانتخابات، ولكن أن يخرج أحد المعارضين ليتحدث عن هذا
التدخل فهذا هو المثير للدهشة.
|
يعتبر أحمد داود أوغلو (المنظر الأساسي لفكر حزب العدالة في كتابه العمق
الاستراتيجي)، "أنه لفترة طويلة في التاريخ كانت تركيا في نظر العالم دولة
جسرية ليس لها رسالة سوى أن تكون معبرًا بين الأطراف الكبرى |
تنقل وكالة الأنباء الروسية نوفوستي، عن رئيس حزب الوطن التركي المعارض دوجو
بيرينجيك، بأن الولايات المتحدة تنوي تنظيم معركة دموية في تركيا، خلال فترة
الانتخابات الرئاسية المقبلة، وأن واشنطن تعتبر أنقرة بيدقًا.
وأوضح بيرينجيك، قائلا: إن صحيفة فورين بوليسي الأمريكية وهي هيئة شبه رسمية تابعة
لوزارة الخارجية الأمريكية، كانت قد أصدرت في وقت سابق مقالاً يفيد بأنه ستكون
هنالك مذبحة في تركيا خلال الانتخابات الرئاسية القادمة، بعبارة أخرى، أعلنت
الولايات المتحدة للعالم أنها ستنظم مذبحة في تركيا خلال فترة الانتخابات.
وأضاف بيرينجيك، أن سيناريو المؤامرة الأمريكية واضح تمامًا، كوضوح الجهة المسؤولة
عن بث الفتن والخلافات حول العالم.
وإذا كان هذا الكلام مبهمًا، ومصدر المعارض التركي وهي صحيفة الفورين بوليسي لم نجد
لها رابطًا على الإنترنت كي نتمكن من توثيق المعلومة، فإن الصحفي التركي في جريدة
تقويم بكير هزار قد نشر تفصيلات مهمة عن خفايا اجتماع زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال
كيلتشدار، مع زعيمة حزب الجيد ميرال أكشنار في فندق الماريوت على بعد 30 متراً من
السفارة الأمريكية في العاصمة التركية أنقرة، لإقناعها بالعودة للطاولة السداسية
وهي تحالف المعارضة التركية ضد أردوغان.
وذكرت الصحيفة أن اجتماع الماريوت حضره عدد من العاملين بالسفارة الأمريكية في
العاصمة التركية أنقرة، إلى جانب مسؤولين بحزبي الشعب الجمهوري والجيد.
وأكدت أن ظهور اسمي رئيسي بلديتي إسطنبول وأنقرة في هذا الاجتماع جاء بتوصية
أمريكية، وأن سبب اختيار فندق الماريوت، إلى جانب قربه من السفارة الأمريكية، هو
احتواؤه على أجهزة تشويش تحول دون مراقبة الاجتماعات المهمة، مشيرا إلى أن كيلتشدار
أوغلو اعتاد عقد اجتماعات داخل الفندق.
وبينت الصحيفة أن الفندق مملوك لأحد قيادات طائفة المورمون التي اعتقل منها القس
الأمريكي أندرو برونسون في تركيا من قبل بتهم التجسس، وتدخل حينها الرئيس الأمريكي
السابق دونالد ترامب شخصياً للإفراج عنه بعد فرض عقوبات ضخمة على أنقرة من أجل
السماح بإطلاق سراحه.
وإذا كانت تلك المعلومات لم يتم اختبار صحتها، ولكن ثمة ما يعضدها من أفعال
السياسيين الأمريكان وحتى تصريحاتهم.
ففي مقابلة صورتها معه صحيفة نيويورك تايمز ونقلتها قناة الجزيرة في ديسمبر من عام
2019، سئل بايدن عندما كان مرشحًا للرئاسة عن أردوغان فوصفه بأنه مستبد، وقال
المرشح الديمقراطي أرى أنه يجدر بنا اتخاذ منهج مختلف جدًا في التعامل معه الآن،
بأن نوضح أننا ندعم قيادة المعارضة.
وأضاف أن أردوغان عليه أن يدفع ثمنًا، وأن واشنطن عليها أن تحمس قادة المعارضة
التركية حتى يستطيعوا مواجهة أردوغان وهزيمته. ليس عبر انقلاب، بل عبر العملية
الانتخابية.
وهنا يكمن السؤال، إذا صحت الأنباء بالتدخل الأمريكي في الانتخابات كيف سيتم هذا
التدخل؟
هناك تسريب لصحيفة واشنطون بوست يبدو متعمدًا من الإدارة الأمريكية منذ ما يقرب من
سنتين، حيث كشفت الصحيفة أنه في لقاء داخلي لم يجر الإعلان عن تفاصيله، طلب مستشار
الأمن القومي جيك سوليفان من لجنة التسليح في الكونجرس الأمريكي المماطلة في
الموافقة على صفقة الطائرات الأمريكية إلى تركيا إلى ما بعد الانتخابات القادمة
والتأكد من رحيل أردوغان.
فهذه وسيلة من وسائل التدخل،
وهناك وسيلة أخرى وهي العمل على توحيد صفوف المعارضة، وغيرها من الوسائل التي
تجيدها أمريكا في تعاملها مع أمثال تلك الملفات.
في النهاية سيحتكم الجميع في تركيا لصوت الشعب التركي، وبصرف النظر عن النتيجة يحسب
لأردوغان أنه نجح أن جعل الشعب التركي هو الذي يقرر ما يريده وليس أي قوة داخلية
عسكرية، أو خارجية.