استدعت صدمة إفلاس بنك وادي السيليكون مصطلح الكساد الكبير من الذاكرة الاقتصادية، إذ يعد من أكبر الأزمات الاقتصادية التي مرت بالعالم وكان له آثاره السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي ما زالت تلقي بظلالها على العالم إلى الآن
شكل إفلاس بنك وادي السيليكون" (Silicon
valley
Bank)،
المعروف اختصارًا بـ"SVB""
وهو مؤسسة بنكية أمريكية عملاقة، ولها تاريخ يمتد إلى 40 عامًا من العمل المصرفي،
تمتد نشاطاتها إلى الصين والهند وسائر العالم، وتملك أصولاً بقيمة 200 مليار دولار،
وتضم أكثر من 8500 موظف موزعين عبر عشرات الفروع والمقرات داخل وخارج أمريكا.
ورغم كونه بنكًا غير تقليدي بطريقة ما، فإن طريقة عمل "SVB"
لا تخرج عن الطريقة التقليدية للبنوك: يضع المتعاملون إيداعات في البنك مقابل فائدة
محددة، وفي الطرف الآخر يقوم البنك باستخدام هذه الودائع عبر منح قروض بفوائد
للمؤسسات والشركات أو استخدام هذه الأموال في تمويل مشاريع ناشئة عالية المخاطرة
تدرّ أرباحًا كبيرة لاحقًا. يحقق البنك إيراداته وأرباحه من خلال الفرق بين نِسَب
القروض والإيداعات، وعائدات التمويل بالاعتماد على اختياراته الدقيقة للشركات
والمؤسسات سريعة النمو.
لذلك، كانت الصدمة الكبرى التي لم يكن تتخيل أن يتحول "الشريك المالي للاقتصاديات
المُبتكرة" إلى بنك مُفلس، وتحوَّلت "40 عامًا من الخدمات المصرفية" إلى معاناة
لسداد ودائع العملاء، في واحد من أخطر الانهيارات المصرفية التي شهدها العالم في
العصر الحديث.
استدعت صدمة إفلاس بنك وادي السيليكون مصطلح الكساد الكبير من الذاكرة الاقتصادية،
إذ يعد من أكبر الأزمات الاقتصادية التي مرت بالعالم وكان له آثاره السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والتي ما زالت تلقي بظلالها على العالم إلى الآن.
الكساد الكبير النشأة والأسباب:
هو كساد اقتصادي عالمي حاد حدث خلال ثلاثينيات القرن العشرين وبداية عقد
الأربعينيات انطلاقًا من الولايات المتحدة.
بدأ الكساد الكبير في يوم الخميس الرابع عشر من أكتوبر عام 1929 فقد تم طرح نحو
12.9 مليون سهم للبيع دفعة واحدة في بورصة نيويورك، وهو ثلاثة أضعاف الحجم المعتاد
طرحه يوميًا، أثار حجم الأسهم المطروحة فزع الجميع، ولم تجد تلك الأسهم المطروحة من
يشتريها.
سوار القلق والشك المستثمرين، وهو ما أدى لطرح عدد أكبر من الأسهم للبيع حتى وصل
عدد الأسهم المعروضة للبيع خلال أيام إلى نحو 30 مليون سهم في يوم عرف بالثلاثاء
الأسود، وهو ما يعني انهيار كامل للبورصة وسوق الأسهم.
|
كان تأثير الكساد مدمرًا على كل الدول تقريبًا الفقيرة منها والغنية. انخفض
متوسط الدخل الفردي وعائدات الضرائب والأسعار والأرباح، بينما انخفضت
التجارة الدولية بأكثر من 50%.
|
الولايات المتحدة الأمريكية كانت قبل ذلك الانهيار هي السوق الأوفر الأكبر في
العالم والأكثر استقراراً. وكان لخروج الدول الأوربية من الحرب العالمية الأولى
منهكة دوره في دفع تلك الدول إلى الاعتماد على السوق الأمريكي لتوفير حاجيات
شعوبها، وهذا بالطبع دفع الاقتصاد الأمريكي إلى ازدهار ونمو لم يشهد مثله من قبل.
سادت الرفاهية بين قطاعات الشعب الأمريكي وأصبح الثراء بالنسبة لأي مواطن حق أصيل،
بينما القروض ميسرة والفائدة منخفضة، الأمر الذي دفع الملايين إلى المضاربة في
البورصة، فارتفع حجم التداول في بورصة نيويورك بشكل جنوني من 577 مليون عام 1927
إلى 2 مليار دولار في 1929.
في البورصة انتشرت ثقافة اشترِ الآن وادفع لاحقًا، لذلك لهثت قطاعات كبيرة من الشعب
الأمريكي تجاه شراء السندات عبر الاقتراض، وبحلول نهاية العشرينات كان 90 في المائة
من سعر شراء الأسهم في بورصة نيويورك يتم بنقود مقترضة.
يضاف إلى الأسباب التي أدت إلى انهيار الاقتصاد الأمريكي، تباطؤ الدول الأوربية في
تسديد ما عليها من ديون مستحقة تجاه الشركات والمؤسسات الأمريكية، ظنًا من تلك
الدول أنها في مأمن عن تلك الفقاعة الإنتاجية الكبيرة التي تعيشها أمريكا،
كان الانهيار الكبير الذي لحق بالاقتصاد الأمريكي وكمحاولة من البنوك المحلية
مواجهة الأزمة وتوفير فائض مالي مناسب يلبي حاجة المودعين، لجأت تلك البنوك إلى سحب
الودائع والأموال الخاصة بها من البنوك الأوروبية، وهو ما أحدث خللًا ماليًا كبيرًا
في معظم الدول الأوروبية.
بالتوازي مع ذلك ومع تعطل الإنتاج كليًا في السوق الأمريكي، توقفت الشركات والمصانع
عن استيراد المواد الأولية الخاصة بها من أوروبا، وهو ما زاد الطين بلة، وانتقلت
على إثره الأزمة كالنار في الهشيم إلى السوق الأوروبية ومنه إلى كل أسواق العالم.
كان تأثير الكساد مدمرًا على كل الدول تقريبًا الفقيرة منها والغنية. انخفض متوسط
الدخل الفردي وعائدات الضرائب والأسعار والأرباح، بينما انخفضت التجارة الدولية
بأكثر من 50%.
ارتفعت نسبة البطالة في الولايات المتحدة إلى 23% وارتفعت في بعض البلدان لتصل إلى
33%. تضررت المدن في جميع أنحاء العالم بشدة، لا سيما تلك التي تعتمد على الصناعات
الثقيلة.
كما توقفت أعمال البناء تقريبًا في العديد من البلدان. عانت المجتمعات الزراعية
والمناطق الريفية من انخفاض أسعار المحاصيل بنحو 60%. في مواجهة انخفاض الطلب مع
وجود مصادر بديلة قليلة للوظائف، عانت المناطق التي تعتمد على صناعات القطاع الأولي
مثل التعدين وقطع الأشجار أكثر من غيرها.
وأعلنت عشرات المؤسسات المالية إفلاسها وأغلق العديد من المصانع، وكثرت أعداد
العاطلين عن العمل وتوقف الإنتاج، وانتقلت الأزمة كالنار في الهشيم إلى جميع
الأسواق العالمية.
الآثار السياسية (صعود النازية):
كان للكساد الكبير آثار سياسية واسعة فكان سببا مباشرا لصعود النازية في ألمانيا،
فقد ضرب الكساد الكبير ألمانيا بشدة. وأجبر تأثير انهيار وول ستريت البنوك
الأمريكية على إنهاء القروض الجديدة التي كانت تمول السداد بموجب خطة دوز[1]
وخطة يونغ[2].
تصاعدت الأزمة المالية خارج نطاق السيطرة في منتصف عام 1931، بدءًا من انهيار كريدت
أنستالت في فيينا في مايو. وضع هذا ضغوطًا شديدة على ألمانيا، التي كانت بالفعل في
حالة اضطراب سياسي مع تصاعد عنف الحركات النازية والشيوعية، وكذلك مع قلق
المستثمرين من السياسات المالية الحكومية القاسية. قام المستثمرون بسحب أموالهم
قصيرة الأجل من ألمانيا، حيث تدهورت الثقة. خسر بنك الرايخ 150 مليون مارك في
الأسبوع الأول من شهر يونيو وبـ540 مليون في الأسبوع الثاني، و150 مليون في يومين،
19-20 يونيو.
|
دفعت البطالة وعدم قدرة كثير من الأسر بالوصول للحد الكفائي للأسرة، وبينما
كان دور المرأة في الأساس هو داخل المنزل؛ ودون تدفق ثابت لدخل الأسرة،
خرجت المرأة لمحاولة الحصول على دخل إضافي |
تضررت جمهورية فايمار[3] الألمانية بشدة من
الكساد، حيث توقفت القروض الأمريكية للمساعدة في إعادة بناء الاقتصاد الألماني. وصل
معدل البطالة إلى ما يقرب من 30% ما تسبب في انهيار الحزب الاشتراكي الديمقراطي
الوسطي سياسيًا. كانت هذه نقطة ارتفع خلالها كل من الحزب النازي والأحزاب الشيوعية
في السنوات التي أعقبت الانهيار لامتلاك أغلبية الرايخستاغ بعد الانتخابات العامة.
في يوليو 1932.
اتبع هتلر سياسة الاكتفاء الذاتي الاقتصادية، حيث أنشأ شبكة من الدول الصديقة
والحلفاء الاقتصاديين في وسط أوروبا وأمريكا اللاتينية. من خلال خفض الأجور
والسيطرة على النقابات العمالية، بالإضافة إلى الإنفاق على الأشغال العامة، انخفضت
البطالة بشكل كبير بحلول عام 1935. لعب الإنفاق العسكري على نطاق واسع دورًا
رئيسيًا في الانتعاش، وهكذا كان الكساد الكبير سببًا في صعود هتلر وتمكن الحزب
النازي من السلطة الحكم في ألمانيا، الأمر الذي تسبب بشكل مباشر بعد ذلك في اشتعال
الحرب العالمية الثانية.
آثار الاجتماعية (خروج المرأة للعمل):
دفعت البطالة وعدم قدرة كثير من الأسر بالوصول للحد الكفائي للأسرة، وبينما كان دور
المرأة في الأساس هو داخل المنزل؛ ودون تدفق ثابت لدخل الأسرة، خرجت المرأة لمحاولة
الحصول على دخل إضافي،
ولاقى عمل المرأة رواجًا إذ كانت تتقاضى أجرًا أقل من الرجال.
كما انخفضت نسبة الولادة في كل مكان، حيث أُجل إنجاب الأطفال حتى تتمكن العائلات من
إعالتهم ماليًا. انخفض متوسط معدل المواليد في 14 دولة رئيسة بنسبة 12% من 19.3
مولودًا لكل ألف من السكان في عام 1930 إلى 17.0 في عام 1935. واستخدمت النساء
وسائل منع الحمل لتأجيل الولادات. كان هناك اتجاه للنساء المتزوجات للانضمام إلى
القوى العاملة، والتنافس على وظائف بدوام جزئي على وجه الخصوص.
وسَّعت النساء في المناطق الريفية والبلدات الصغيرة عملياتهن في حدائق الخضروات
لتشمل أكبر قدر ممكن من إنتاج الغذاء. رعت المنظمات الزراعية في الولايات المتحدة
برامج لتعليم ربات البيوت كيفية تحسين حدائقهن وتربية الدواجن للحوم والبيض، ودفعهن
للعمل خارج المنزل، كانت المجتمع الأمريكي إلى ذلك الوقت لا يرى خروج المرأة
الكريمة من بيتها للعمل وكان يرها منقصة كبيرة. لكن الفقر كان أحد الدوافع التي
ساعدت في تغيير تلك الأوضاع الاجتماعية للمرأة.
قامت النساء الريفيات من شدة الفقر بصنع فساتين من أكياس العلف وأشياء أخرى لهن
ولأسرهن ومنازلهن من أكياس العلف. وقامت النساء الأمريكيات صانعات اللحاف من أصول
أفريقية من زيادة نشاطهن في المدن الأمريكية وعززن التعاون ودربن المبتدئات.
بشكل عام دفع الكساد الكبير المرأة دفعا للخروج إلى سوق العمل، وأصبحت جزءا لا
يتجزأ منه بعد ذلك.
نهاية الكساد الكبير (الحرب العالمية الثانية)
كان الرأي السائد بين المؤرخين الاقتصاديين هو أن الكساد الكبير انتهى بقدوم الحرب
العالمية الثانية. واعتقد العديد من الاقتصاديين أن الإنفاق الحكومي على الحرب تسبب
أو على الأقل سرَّع التعافي من الكساد الكبير، على الرغم من أن البعض يرى أنه لم
يلعب دورًا كبيرًا في الانتعاش، إلا أنه ساعد في الحد من البطالة.
ساعدت سياسات إعادة التسلح التي أدت إلى الحرب العالمية الثانية في تحفيز اقتصادات
أوروبا في 1937-1939. بحلول عام 1937، انخفضت البطالة في بريطانيا إلى 1.5 مليون.
أنهت التعبئة العامة للقوى البشرية عقب اندلاع الحرب عام 1939 البطالة.
عندما دخلت الولايات المتحدة الحرب في عام 1941، قضت أخيرًا على الآثار الأخيرة
للكساد الكبير وخفضت معدل البطالة في الولايات المتحدة إلى أقل من 10%. أدى الإنفاق
الهائل في الولايات المتحدة على الحرب إلى مضاعفة معدلات النمو الاقتصادي، إما
لإخفاء آثار الكساد أو إنهائه بشكل أساسي. تجاهل رجال الأعمال الديون الوطنية
المتزايدة والضرائب الجديدة الباهظة، وضاعفوا جهودهم لزيادة الإنتاج للاستفادة من
العقود الحكومية السخية.
بدأ الأمر بالاقتصاد الربوي والترف المجتمعي بالتوسع في الاقتراض ما أحدث فقاعة
اقتصادية انفجرت فتسببت في صعود الأحزاب ذات النزعات المتطرفة ما أدى إلا الدخول في
حروب عالمية مدمرة، مرورا بتغير في هيكل الأسر، وأعدادها وتغير دور المرأة ووظيفتها
في الأسرة والمجتمع. هذه بعضٌ من آثار الكساد الكبير الذي يتخوف منه كثير من
المراقبين مع وجود العديد من الظروف التي تتشابه في معطياتها بما مر به العالم في
تلك الحقبة السالفة. فهل تصدق مخاوفهم؟ هل يعيد التاريخ نفسه؟ ربما نعم، وربما أشد،
وربما لا.
[1] "خطة دوز" هي تعبير عن المقترح الذي قدم من قبل لجنة دوز، وسميت باسم رئيسها
"تشارلز جيتس دوز".
كانت خطة في عام 1924 لحل قضية تعويضات الحرب العالمية الأولى التي كانت مطلوبة من
ألمانيا.
[2] "خطة يونغ" هي برنامج لتسوية ديون التعويضات الألمانية بعد الحرب العالمية
الأولى، كتبت عام 1929 بل فشل خطة دوز وصدق عليها رسمياً عام 1930. قدمتها لجنة
برئاسة الأمريكي "اُوِن د. يونغ"
[3] جمهورية فايمار، هي الجمهورية التي نشأت في ألمانيا في الفترة من 1919 إلى 1933
كنتيجة الحرب العالمية الأولى وخسارة ألمانيا الحرب. سميت الجمهورية الناشئة باسم
مدينة فايمار الواقعة بوسط ألمانيا والتي اجتمع بها ممثلو الشعب الألماني في العام
1919 لصياغة الدستور الجديد للجمهورية والذي اتبعته الجمهورية حتى العام 1933 حين
تمكّن الزعيم النازي أدولف هتلر من إحكام سيطرته على مقاليد الحكم في برلين بعد
توليه منصبي المستشارية ورئاسة
الجمهورية. اعتبر المؤرخون هذا الحدث نهاية جمهورية فايمار.