• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ثورة ضدّ النظام ولا

يعاني النظام الإيراني من حالة عدم الرضا الشعبي وهو الأمر الذي تترجمه الاحتجاجات الشعبية التي تخرج من آن لآخر، لكن الأخيرة، كانت من القوة حيث دفعت بالاعتقاد بإمكانية نجاحها، لكنها انحسرت كسابقتها، والسؤال لماذا بدت قوية في بدايتها ولماذا لم تحقق أهدافها


مع مرور خمسة أشهر على الاحتجاجات الواسعة النطاق في إيران تُطرح تساؤلات جدّية عن احتمالية استمرارها ووصولها إلى هدفها المفترض، وهو إسقاط نظام الحكم، كما فعلت ثورة عام 1979 ضد شاه إيران؛ فتلك الثورة التي مرّت ذكراها الرابعة والأربعين في 11 شباط/فبراير الحالي، تواصلت فعالياتها قرابة العام، واستنفرت كافة قطاعات المجتمع، ووصلت تداعياتها المزلزلة إلى الجيش نفسه الذي أعلن الحياد، وكان الشاه نفسه قد غادر البلاد في 16 كانون الثاني/يناير، أي قبل قرابة شهر من النصر النهائي للثورة على النظام. فالاحتجاجات السابقة منذ قيام "الجمهورية الإسلامية" عام 1979، تختلف عن الاحتجاجات الحالية بأنها اعتراضات جزئية على إجراءات وقوانين معيّنة (إزاحة حسين منتظري من خلافة الخميني وتعديل الدستور عام

 

الفارق الأساسي بين 1979 و2023، أنّ الثائرين على الشاه آنذاك، وجدوا قائداً رمزاً لهم هو الخميني، فتحلّقوا حوله، ووجهّوا ضربة قاصمة لأقوى نظام في المنطقة، فتهاوى

 1989) أو على قرارات محدّدة (حظر مطبوعة "سلام" الإصلاحية عام 1999 مثلاً، أو تزوير الانتخابات الرئاسية عام 2009، أو رفع أسعار الوقود عام 2019، أو إسقاط الطائرة الأوكرانية بعد إقلاعها من مطار الإمام الخميني في طهران عام 2020) أو على سياسات عامة تنشر الفقر في أواسط المجتمع (المضي بالمشروع النووي وهو الذي استتبع عقوبات أميركية لها آثار قاسية على الاقتصاد).

ثم إنّ المقارنة بين هذه "الثورة" وثورة 1979، تكشف أنّ المكوّنات الاجتماعية والسياسية المتصارعة في إيران، لم تتغيّر كثيراً، فهناك الأقليات العرقية التي تتذمّر من الحكم المركزي، وتنضم تلقائياً إلى أيّ احتجاج ينشب في المدن الرئيسية، وهناك قوميون فرس يرون الأولوية لإيران، ويعترضون على الإنفاق الخارجي على غير الإيرانيين، ويساريون من اتجاهات متعدّدة يرفضون الطبيعة الدينية للنظام، وجماعات تخلط بين الحداثة والإسلام مثل حركة مجاهدي خلق، وهناك ملكيون يحلمون بإعادة آل بهلوي إلى الحكم. ولا شيء يجمع بين هذه العناصر المتنافرة أيديولوجياً وسياسياً، سوى العداء للنظام القائم. الفارق الأساسي بين 1979 و2023، أنّ الثائرين على الشاه آنذاك، وجدوا قائداً رمزاً لهم هو الخميني، فتحلّقوا حوله، ووجهّوا ضربة قاصمة لأقوى نظام في المنطقة، فتهاوى. ثم بدأت حملة التصفيات والاغتيالات بين أولاد الثورة، ففاز الخمينيون في نهاية حقبة دموية. وأسهمت الحرب التي شنّها صدام حسين على إيران عام 1980، في حسم الصراع في الداخل لمصلحة اتجاه ولاية الفقيه التي يمثّله الخميني.

الافتقار إلى قائد

حالياً، الاختلافات عريضة بين صفوف الثورة والمعارضة، ولا يوجد قائد يجمع شتات المجموعات الناشطة. بل لا توجد قواسم مشتركة متينة، والثفة منعدمة بين تيارات مختلفة، لا سيما وأن ذاكرتها مثقلة بتواريخ مريرة فيما بينها. فمن غير الممكن مثلاً، أن يكون ابن الشاه المخلوع، رضا بهلوي (62 عاماً)، موضع إجماع بين المعارضين، حتى وإن كان بعض الإيرانيين يتشوّق إلى حقبة الشاه، ممن عاش تلك الأيام، أو من الشباب الذين لم يشهدوا شيئاً من حلاوته أو مراراته. وبالنظر إلى الفصيل المعارض الأساسي، حركة مجاهدي خلق، التي تقودها حالياً، مريم رجوي (69 عاماً)، فإن تاريخه الدموي من الاغتيالات والتفجيرات داخل إيران خلال صدامه مع أنصار الخميني بعد إسقاط الشاه، كما انحيازه إلى العراق إبان الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، يمثّلان عائقاً أمام قيادته الثورة الشعبية الحالية. أما الزعيمان الإصلاحيان الموضوعان في الإقامة الجبرية، منذ عام 2011، ليس بسبب الثورة الخضراء اعتراضاً على تزوير الانتخابات الرئاسية، بل بسبب دعوتهما إلى التظاهر، تأييداً للثورات في العالم العربي: مير حسين موسوي (80 عاماً) ومهدي كروبي (85 عاماً)؛ فهما وإن أعلنا تأييدهما للحراك الشعبي الحالي، واعترضا على قمع السلطة للمتظاهرين، وعلى أحكام الإعدام الصادرة ضد المعتقلين، والتي هي قيد التنفيذ تباعاً، إلا أنهما كانا من صميم الثورة الخمينية، ومن رجالاتها الأوائل. فالموسوي كان آخر رئيس للوزراء قبل تعديل الدستور عام 1989، بين عامي 1981 و1989. ومهدي كروبي، من رجال الدين القريبين من الخميني، وكان عضواً في اللجنة التي درست التعديلات الدستورية عام 1989. وترأس البرلمان مرتين، الأولى بين عامي 1989 و1992، والثانية بين عامي 2000 و2004. وخلال الثورة الخضراء، لم يعترضا على النظام نفسه، وهما جزء أساسي منه، بل انصبّ الاعتراض آنذاك، على سلوك النظام، علماً أن موسوي دعا أخيراً إلى دستور جديد، والاستفتاء الشعبي عليه، أي إلى تغيير النظام الحالي. فقد قال في رسالة له، إنه من أجل إنقاذ إيران، لا بد من تغيير جذري يأخذ سماته الرئيسية من الحركة الحالية: "المرأة، الحياة، الحرية". وطرح موسوي ثلاثة مطالب في بيانه. أولاً: تنظيم استفتاء حر ونزيه حول ضرورة تغيير أو كتابة دستور جديد. ثانياً: في حالة التصويت الإيجابي من قبل الشعب على تغيير الدستور، تتشكّل جمعية دستورية تتألف من "الممثلين الحقيقيين للأمة" من خلال انتخابات حرة ونزيهة. ثالثاً: تنظيم استفتاء ثانٍ للموافقة على مشروع الدستور لإقامة نظام قائم على سيادة القانون، يتماشى مع حقوق الإنسان وإرادة الشعب.

 

إن البحث جارٍ في أوساط الناشطين عن إمكانية تحقيق ما لم تحققه الحراكات السابقة، وعن الوسائل الكفيلة بإدامة التحرّك الشعبي، من خلال تظهير قيادة جامعة ولو في الخارج

وبرز أخيراً، في خضم الاحتجاجات المستمرة، دور مميز لزعيم أهل السنة في إيران المولوي عبد الحميد إسماعيل زاهي، وهو من بلوشستان، وخطبه التي يلقيها يوم الجمعة، باتت محطة من محطات الحراك الذي يتجدّد أسبوعياً عقب صلاة الجمعة. لكن حتى وإن كان المولوي عبد الحميد، ينفتح في مواقفه على المكوّنات العرقية والدينية للحراك الشعبي، إلا أن انتماءه الديني والعرقي، قد يكون عائقاً حقيقياً. فالصدام مع القوى الأمنية للنظام يتسم بعنف أكبر في مناطق السنة في إيران، منه في المناطق الأخرى. ويمكن النظام تحويل الأنظار عن الشكوى الرئيسية للمتظاهرين، عبر إثارة الشكوك في أهداف الحراك في تلك المناطق، وزعزعة الصفوف. وبحسب مؤسسة دراسة الحرب ISW الأمريكية، والتي تصدر عنها تقارير متعاقبة عن مجريات الحراك الشعبي في إيران، فإن النظام يتصدّى للمولوي عبد الحميد وفق نمط تصعيدي ثابت، لكن بحذر، نظراً لما يمكن للقمع المباشر من إطلاق توترات طائفية شديدة في هذه المرحلة. فعبد الحميد هو ناقد صريح للنظام، ويستخدم خطبه يوم الجمعة في زاهدان وسيستان وبلوشستان لتشجيع القيام بتظاهرات أسبوعية تنتقد التعاطي السيء للنظام مع البلوش، وسوء تعامله مع المتظاهرين عموماً. وبدأ دور المولوي عبد الحميد بالظهور، رداً على أحداث الجمعة الدامية في زاهدان في 30 أيلول/سبتمبر الماضي، حين هاجمت قوات الأمن المتظاهرين وقتلت حوالى 100 شخص.

أما ردّ المرشد الأعلى علي خامنئي، فاتخذ مسارين مختلفين. الأول، محاولة تشويه سمعة عبد الحميد، والثاني، إرسال موفد شخصي للقائه في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. لكن فشلت كلتا المحاولتين في إسكات عبد الحميد وأنصاره.

وعلى هذا المنحى، أرسل النظام تعزيزات أمنية إلى زاهدان منذ أوائل كانون الثاني/يناير 2022 لردع عبد الحميد وأنصاره. أُغلقت الطرق المؤدية إلى زاهدان، وجرت اعتقالات جماعية، وأقيمت نقاط تفتيش في جميع أنحاء المدينة. كما اعتقلت قوات الأمن عالماً سنياً له علاقة بعبد الحميد في زاهدان، واثنين من قادة السنة المحليين في سنندج بإقليم كردستان في 30 كانون الثاني/يناير الماضي. وعلى الرغم من أن النظام سمح لتظاهرات الجمعة بالاستمرار كل أسبوع بأقل قدر من التدخل الأمني، فمن المرجّح أن يتجنب تكرار حادثة الجمعة الدامية وإذكاء المزيد من الشعور المناهض للنظام.

محاولة استعادة الزخم

منذ اندلاع الاحتجاجات العنيفة في 16 أيلول/سبتمبر الماضي، مع وفاة الشابة الكردية مهسا أميني، في مركز شرطة الأخلاق، ومع توسّع نطاق الثورة، جغرافياً في المدن كما في الأرياف، ومطلبياً وصولاً إلى إسقاط النظام وتحدّي رموزه، فإن البحث جارٍ في أوساط الناشطين عن إمكانية تحقيق ما لم تحققه الحراكات السابقة، وعن الوسائل الكفيلة بإدامة التحرّك الشعبي، من خلال تظهير قيادة جامعة ولو في الخارج، وإشراك كافة القطاعات والشرائح الاجتماعية، والأهم منه، استمالة ما أمكن من رجال النظام إلى الثورة الشعبية. في هذا المجال، نجح المتظاهرون نسبياً، في تحريك العواطف كما العقول، إلى حدّ ما، حتى داخل النظام نفسه، حتى بدأ البحث علناً عن مخرج ما من هذا المأزق غير المسبوق. لكن بالمقابل، تراجع زخم التظاهرات، مع مرور الوقت، واستيعاب النظام الصدمة الأولى، وقمع المتظاهرين بلا هوادة، واعتقال الآلاف منهم، وإصدار عشرات الأحكام بإعدام مشاركين في التظاهر، وتنفيذ بعض الأحكام فعلاً.      

لذا، حاول الثائرون استعادة زخم الاحتجاجات، من خلال الدعوة إلى تظاهرات واسعة في أرجاء البلاد في 16 شباط/فبراير الحالي في ذكرى أربعين إعدام اثنين من المشاركين في التظاهرات، وهما محمد حسيني ومحمد مهدي كرمي، وذلك بعد أن فشلوا منذ مطلع العام، في تنظيم تظاهرات، وذلك لعوامل أربعة، في الأقل. أولها، الطقس البارد غير المعتاد في مثل هذه الأيام من السنة وارتفاع نسبة التلوث في الهواء. وثانيها، الوجود الأمني الكثيف في بعض المدن والبلدات. وثالثها، الإنهاك الذي أصاب المتظاهرين وحاجتهم إلى العمل والحياة العادية. ورابعها، اعتقال آلاف المتظاهرين. 

أما القراءة الإجمالية للحراك منذ انطلاقه وحتى اللحظة، وبالمقارنة مع الانتفاضات المماثلة في إيران وخارجها، فإنها تدل بوضوح على أن الحراك العفوي انحسر، فانخفضت أعداد المشاركين بنسبة كبيرة. وعندما يصبح هذا هو الواقع، فمن الصعب إطلاق شرارة ثانية، لاستعادة الزخم الأول. وبالرجوع إلى ثورة عام 1979، فإن العنصر الحاسم في نجاحها، كان الاستعداد لتقديم تضحيات هائلة من أجل إسقاط النظام، فسقط عشرات الآلاف قبل أن تنهار إرادة القتال لدى قوات الأمن والجيش. أما في الحراك الحالي، فثمة استنكاف مزدوج عن الإمعان في الصدام العنيف، أي من الثائرين، ورجال النظام كذلك. فلا اندفاع نحو التضحية القصوى، كما لا اندفاع نحو القمع الأقصى. وأفضل ما قد يقال في هذه الحالة، إنها نصف ثورة أو أقل. لكنها في الوقت أكبر بكثير من أن يتمكن النظام من إخمادها ببساطة كما فعل في المرات السابقة، أو حتى أن يتجاهل خطرها، إذ قد تكون حلقة إضافية نحو مرحلة أشدّ وأقسى.

 

أعلى