• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
حرب المناطيد.. حقبة جديدة من التنافس الأمريكي الصيني

تسبب تحليق منطاد صيني فوق أراضي الولايات المتحدة قبل عدة أيام في بدء حقبة جديدة من العلاقات بين البلدين ذهب البعض بوصفها حقبة "الحرب الباردة"، ورغم إسقاطه فوق ساحل المحيط الأطلسي إلا انه فتح أيضًا حالةً من الجدل الواسع في الداخل الأمريكي


المنطاد ـ الذي زعمت بكين أنه أداة لرصد الطقس، وزعمت واشنطن أنه أداة تجسس ـ تسبب في إحراج كبير لإدارة جو بايدن، وكان مادة دسمة للانتقادات بين الصينيين والأمريكيين، وللتراشق بين الجمهوريين والديمقراطيين في أمريكا، فما هي خلفيات وتداعيات هذه الأزمة؟

دخـيل غـامـض

كان المشهد العام غريبًا بعض الشيء، منطاد تجسس صيني يصل حجمه إلى حجم حافلتين تقريبًا يطفو في سماء الولايات المتحدة، قالت إدارة بايدن إنها انتظرت اللحظة الأنسب لتدمير هذا الدخيل الغامض والاستيلاء على حمولته السرية، لا شك أن الانتظار كان مفيدًا لأن إسقاطه كان من الممكن أن يتسبب في أضرار جسيمة إذا اصطدم بالأرض، فلو سقط فوق مونتانا على سبيل المثال، كان من الممكن أن يكون هناك 2000 شخص في خطر من الحطام المتناثر، وبينما كانت إدارة بايدن تراقب وتنتظر اللحظة المناسبة لتفجير المنطاد، كانت المشاجرات السياسية قد انفجرت بالفعل في واشنطن، حيث زعم الجمهوريون أن الإدارة الأمريكية أظهرت ضعفًا في السماح للمنطاد بدخول المجال الجوي للولايات المتحدة، بدأت أسئلة النواب الجمهوريين تتوالى لتحقيق مكاسب سياسية: هل كان ترامب سيسمح للصين بأن تدفع بمنطاد تجسس للتحليق فوق الولايات المتحدة؟، لماذا يترك بايدن للصين فرصة إحراج أمريكا أكثر من ذلك؟، وما سر رد فعله البطيء؟، رد الديمقراطيون بأن الإدارة السابقة في عهد ترامب لم ترد على العديد من المهام المماثلة فوق الأراضي الأمريكية، وأبقت بشكل غير معهود تحليقات المناطيد الصينية فوق هاواي وتكساس وفلوريدا سرية دون كشفها للعلن.

 

مثل هذه الحادثة تنبأ بوضع جيوسياسي جديد، وترفع من أسهم من يتحدثون مؤخرًا عن حرب مع الصين بحلول عام 2025، تسعى هذه الأخبار إلى تحذير المواطنين الأمريكيين من أن التهديد الصيني ليس ببعيد عنهم

لكن فشل ترامب في إيقاف المناطيد لا يبرئ بايدن، لا سيما وأن هذه المرة ظل المنطاد الصيني لفترة طويلة نسبيًا فوق مونتانا التي تعدّ موطنًا لمنصات الصواريخ الباليستية الأمريكية العابرة للقارات، ولعل هذا ما يجعلها هدفًا مهمًا للتجسس الصيني، ويجعل أيضًا من السكوت على وجوده فوق هذه البقعة الحساسة أمرًا خطيرًا، من بين عدة خيارات اقترح البنتاغون تفريغ بالون المنطاد جزئيًا والتقاط كبسولته على ارتفاع منخفض، لكن عدم وجود تقنية دقيقة تسمح بتنفيذ هذه العملية جعلتها مستبعدة، وانتهى الأمر بقيام طائرة مقاتلة من طراز "إف 22" بإطلاق صاروخ (AIM-9) على المنطاد فأسقطته على الفور، كانت العملية محددة بحيث يتم إسقاطه داخل المياه الإقليمية الأمريكية حتى يسهل استرجاع الحطام.

ما أهمية المناطيد؟

يعود استخدام المناطيد كمنصات قصف وتجسس إلى الحقبة النابليونية في أوروبا خلال أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وقد ظهرت مجددًا خلال الأيام الأولى للحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، ومنذ ذلك الحين استخدمت واشنطن المئات منها لمراقبة خصومها، ومؤخرًا بات الصينيون أيضًا يرسلون المناطيد لجمع المعلومات الاستخباراتية، ووفقًا لتقارير استخباراتية أمريكية عن مسؤولين في البنتاغون فإن العديد من المناطيد الصينية طافت حول العالم خلال العقد الماضي، فما الأهمية التي تمثلها هذه المناطيد لبكين؟

قد لا تكون المناطيد ذات قدرة قتالية عالية، لكنها تحتفظ بقدرة فريدة على القيام بالمراقبة لكونها تطير على ارتفاعات أعلى من الطائرات، ويمكن أن تظل ثابتة فوق المواقع الحساسة، وهو ما يجعلها تجمع قدرًا من المعلومات أكثر مما تجمعه الأقمار الصناعية الصينية التي تدور في مدار أرضي منخفض، وتوفر المناطيد دقة أفضل في صورها الملتقطة بفضل صعودها ونزولها بدرجة محددة، ويصعب اكتشافها على الرادار، ويمكن أن تكون مموهة كمركبة طقس مدنية.

يمكن تجريب العديد من التقنيات والأجهزة عبر هذه المناطيد ذات الكلفة المادية المتواضعة مقارنةً بكلفة الأقمار الصناعية، فالمناطيد أصغر وأرخص وأسهل في الإطلاق من الأقمار الصناعية، إذا ما نجحت تلك التقنيات التي يتم تجريبها على المناطيد يمكن إطلاقها مع الأقمار الصناعية لاحقًا.

هناك احتمال بأن مهمة المنطاد كانت عبارة عن محاولة لاختبار قدرات شبكات الرادار الأمريكية، وهي محاولة اختبار ذات قيمة كبيرة في أي صراع مستقبلي بين البلدين، أشارت تقارير إلى أن المنطاد كان ينثر أجهزة تجسس أصغر ـ مثل الميكرودرونات ـ التي يمكنها مراقبة أهداف سرية محددة.

جاءت رحلة المنطاد المفاجئة بعد شهور من التوتر الحاد بين بكين وواشنطن، لا سيما بعد أن أججته زيارات الساسة الأمريكيين إلى جزيرة تايوان التي تريد الصين ربطها بالبر الرئيسي لها بكل الوسائل، وكانت زيارة رئيسة مجلس النواب آنذاك نانسي بيلوسي إلى الجزيرة في أغسطس سببًا لتوتر العلاقات واضطرابها بشكل خطير.

تداعـيات ونتـائـج

من غير المعروف حتى الآن السبب الحقيقي الذي دفع الصينيين إلى إطلاق مثل هذه المهمة في هذا التوقيت تحديدًا، يرى البعض أنها كانت محاولة صينية لتأكيد قوتها ونفوذها في وقت لم تكن فيه الأمور تسير على ما يرام بالنسبة لها، بسبب تباطؤ النمو الاقتصادي والاحتجاجات السياسية العامة وسوء إدارة جائحة فيروس كورونا المستجد، فسياسة وخز العصا في جسد الولايات المتحدة دائمًا ما تكون جذابة لنظام الرئيس شي جين بينغ، خاصة في ظل استفزازات الولايات المتحدة للصين عبر عملياتها في مضيق تايوان أو بحر الصين الجنوبي، لكن بشكل عام هناك تداعيات ونتائج ظهرت على الفور:

أتت المهمة عشية زيارة مخططة لوزير الخارجية أنتوني بلينكين إلى الصين، تم إلغاء الزيارة بسبب حادثة المنطاد وسط بوادر أزمة دبلوماسية وسياسية تتفاقم منذ مدة بين البلدين، وهناك من يفترض أن القادة المتشددين داخل القيادة قد سعوا عمدًا إلى تخريب زيارة بلينكين، والتي كان الهدف الأساسي منها استكشاف سبل الاستقرار الاستراتيجي بين بكين وواشنطن للحد من احتمالية حدوث تصعيد غير مقصود بينهما.

من وجهة نظر أمريكية، يرى مسؤولو البنتاغون أن رحلة المنطاد التي استغرقت أسبوعًا فوق الولايات المتحدة كانت في النهاية أكثر فائدة لواشنطن منها لبكين، فمن خلال الانتظار حتى يصل المنطاد فوق المياه الإقليمية لأمريكا، تمكنت إدارة بايدن من تعظيم احتمالية استعادة كبسولة المنطاد سقطت في المحيط الأطلسي ومن ثمَّ توافر فرصة مفيدة لفحص ما تم جمعه من معلومات، والتعرف على ما توصلت إليه أنظمة الاستخبارات والاتصالات الصينية في هذا الصدد، وبالتوازي تقليل مخاطر إصابة المدنيين الأمريكيين من الحطام المتساقط.

تسبب المنطاد في حرج شديد للأمريكيين وذهول للرأي العام العالمي بعدما استعرضت بكين قدرتها في الساحة الأمريكية، لا يهم في الواقع ما إذا كان المنطاد يتجسس أو يراقب الطقس فحسب، بقدر ما يهم هو أن كيسًا من الغاز المثقل الذي لا تتجاوز سرعته سرعة الرياح القوية قد أبحر في المجال الجوي الأمريكي دون إذن، وعبر المجال الجوي الكندي قبل ذلك، وهناك من يرجح أنه تم إرساله على وجه التحديد لغرض رؤيته من قبل الأمريكيين، صحيح أنه كان بإمكان القوات الجوية الأمريكية إسقاطه بمجرد عبوره إلى أراضيها، لكن مخاطرة سقوط الحطام ومقتل المدنيين على الأرض كانت كبيرة للغاية.

أعطت الحادثة للجمهوريين حججًا قوية لانتقاد إدارة بايدن، إذ زعم الإدارة أنها انتظرت عبور المنطاد إلى منطقة آمنة حتى يسهل إسقاطه حمايةً للمدنيين على الأرض، لكن لماذا لم يتم التعامل معه بمجرد دخوله المجال الجوي الأمريكي قبالة سواحل ألاسكا؟، لماذا لم يتم اعتراضه قبالة 12 ميلًا من المياه الإقليمية لولاية ألاسكا، أو حتى عبر المساحات الشاسعة من الأرض ليس فقط في ألاسكا، وإنما أيضًا في مونتانا ووايومنغ وساوث داكوتا ونبراسكا؟

مثل هذه الحادثة تنبأ بوضع جيوسياسي جديد، وترفع من أسهم من يتحدثون مؤخرًا عن حرب مع الصين بحلول عام 2025، تسعى هذه الأخبار إلى تحذير المواطنين الأمريكيين من أن التهديد الصيني ليس ببعيد عنهم، فحتى لو كانت القيمة التكتيكية للمنطاد بسيطة، فإن تأثيره النفسي كان كبيرًا بعدما أضرَّ بالشعور الجماعي بالأمن في أمريكا، وقد وجد اليمين الأمريكي في هذه الضجة فرصة مناسبة لانتهازها لتحقيق مكاسب سياسية وشعبوية.

إذا كان المنطاد بالفعل هو منطاد تجسس، فإن رغبة بكين في إجبار الرئيس بايدن على القيام بعمل عسكري ضده من الأمور التي تُحسب لهم، فالصينيون يتعلمون المزيد عن خصومهم في كل مرة يقومون فيها باستفزاز رد عسكري، هنا ـ على سبيل المثال ـ بات بإمكانهم كيف تستجيب أمريكا لتهديد منخفض المستوى، فبدلًا من اتفاق القادة الأمريكيين على قرار واحد على غرار ما حدث في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ظلت الحيرة مسيطرة وتشتت الآراء بين الخيارات المتعددة.

ستؤدي هذه الأزمة إلى تعزيز السياسات التي تتبعها دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية والهند وأستراليا والفلبين ودول أخرى بجنوب شرق آسيا لتقوية دفاعاتها وتعزيز شراكاتها الأمنية مع الولايات المتحدة، مثل هذه الشراكات ستكون مفيدة للطرفين؛ لتلك الدول التي تريد أن تحمي نفسها من أطماع التنين الصيني، وللولايات المتحدة التي تريد محاصرته عبر جيرانه.

 

النمو الصيني المحموم جعل واشنطن تتحسس ضده منذ اللحظة الأولى وكثفت جهودها ضده مؤخرًا، وسبق وأن أعلنت الصين بين عامي 2010م و2012م أنها نجحت في تفكيك عمليات تابعة لوكالة الاستخبارات الأمريكية داخل حدودها

اعتراض صيني

عندما ظهر المنطاد الغامض لأول مرة في سماء ولاية مونتانا وقالت السلطات الأمريكية إنه صيني، رفضت بكين في البداية الاعتراف بتبعيته لها، واعتبرت هذا الادعاء لا أساس له من الصحة، لاحقًا اعترفت الصين بأن المنطاد يتبعها بالفعل، لكنها قالت إنه يُستخدم لأغراض الطقس والأرصاد الجوية بشكل أساسي، مضيفة أن الصين تأسف لدخول المنطاد بشكل غير مقصود إلى المجال الجوي الأمريكي، وفي ظل الانتقادات الأمريكية المتوالية وقيام واشنطن بإسقاط المنطاد، أعلنت الخارجية الصينية عن استيائها الشديد بسبب إسقاطه لأنه "ينتهك بشكل خطير الاتفاقيات الدولية"، وقالت إنها أبلغت واشنطن مرارًا وتكرارًا أن المنطاد مدني الاستخدام وأن وجوده فوق أمريكا يعدّ أمرًا عرضيًا تمامًا بسبب عطل فني، لكن تقرير نشرته مجلة "Scientific American" قال إن المنطاد يبدو أنه كان يتمتع بمستوى عالٍ من القدرة على المناورة، خاصةً عندما بدا أنه باق فوق المنشآت الحساسة في مونتانا، كما أن تعطل المنطاد كان يقتضي أن يصبح كليًا معتمدًا على أنماط الرياح، وهو ما لم يحدث حتى لحظة إسقاطه.

بالرغم من الاعتراض الصيني، فإن بكين متهمة على الدوام بأنها تراقب الولايات المتحدة، ومن المؤكد أن الولايات المتحدة تفعل الشيء ذاته حيال الصين، بيد أن السنوات الأخيرة قد كشفت عن العديد من الظواهر الغامضة، فعلى سبيل المثال تم رصد طائرات صغيرة غير مأهولة بتناسق مخيف بالقرب من بعض المنشآت العسكرية الأمريكية الحساسة، كما رصد البنتاغون العشرات مما أسماها "الظواهر الجوية غير المعروفة"، وعلى الرغم من أن هذه المشاهد لم يتم ربطها بفاعل مؤكد، إلا أن الصينيين يحتلون مرتبة عالية في قائمة المشتبه بهم، وبخلاف ذلك فقد تم إطلاق أعداد مذهلة من الأقمار الصناعية خلال السنوات الأخيرة، عدد كبير منها مملوك للصين التي أطلقت أربع مجموعات من أقمار رصد الأرض المعروفة باسم "Yaogan" في عام 2022 وحده، وبينما كان الأمر يستغرق بضعة أيام أو أسابيع لتصوير ومراقبة معظم الأماكن على الأرض بواسطة قمر صناعي، الآن أصبح الأمر لا يتجاوز بضع دقائق لالتقاط صور في تتابع مستمر ومتواصل.

على شفا المواجهة

تظهر الأزمات غير المتوقعة من هذا النوع بوضوح سبب أهمية استئناف المحادثات لتعزيز التنسيق المتبادل بين القطبين النوويين، فيما ستستمر المنافسة العالمية بينهما وقد تتطور أحيانًا ليصبحان على شفا المواجهة، لقد دفعت رئاسة دونالد ترامب العلاقات بين البلدين إلى مستوى منخفض غير مسبوق، لا سيما في ظل الخلافات حول التجارة والتجسس والأمن، وقد أدى تصاعد التوترات العسكرية بينهما إلى جهود أمريكية أكثر تصميمًا لتقييد توريد التكنولوجيا المتطورة إلى الصين، مع الإعلان عن قيود على تصدير أشباه الموصلات والمعدات ذات الصلة إلى بكين، وهو ما يهدد قطاع التكنولوجيا الصيني وشركاته الرائدة، النمو الصيني المحموم جعل واشنطن تتحسس ضده منذ اللحظة الأولى وكثفت جهودها ضده مؤخرًا، وسبق وأن أعلنت الصين بين عامي 2010م و2012م أنها نجحت في تفكيك عمليات تابعة لوكالة الاستخبارات الأمريكية داخل حدودها، فيما أعلنت واشنطن في عام 2021م أنها أنشأت مركزًا للمهمات الموجهة ضد الصين وذلك لمواجهة التحدي العالمي الذي تشكله بكين.

لطالما كانت قضية الصين موضع إجماع من الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة، وهو أمر نادر الحدوث في المناخ الحالي المتقلب بينهما، وفي ظل الحشد العسكري من كلا الجانبين بدأ صقور السياسة في البلدين يشيرون إلى أن الحرب قد باتت أمرًا لا مفر منه وإن تأخرت قليلًا، لكن الأصوات الأكثر اعتدالًا لدى الطرفين تحاول بحذر استئناف الحوار بين البلدين، لا شك أن هذه الجهود قد توقفت تماما في الوقت الراهن، بيد أن الطرفين يدركان على المدى الطويل أن مخاطر الحرب بينهما ستكون مدمرة، وهو ما يجعل من الصعب أن تسقط الدبلوماسية وينتهي الهدوء الحذر بينهما ضحيةً لمنطاد تجسس، فآخر ما قد يتمنى العالم رؤيته هذه الأيام هو نشوب حرب كبرى بين قوتين نوويتين هائلتين.

أعلى