لماذا هذا الاهتمام الروسي بتصريحات قديروف؟ أو بالأحرى لماذا تحرص القيادة الروسية على تصديره في المشهد السياسي؟
"يمكن لروسيا الضغط على الزر، والسلام عليكم"
هذه الجملة هي ختام رد الرئيس الشيشاني رمضان قديروف على سؤال لأحد الصحفيين حول
ماذا إذا خسرت القوات الشيشانية والروسية حربها على أوكرانيا؟ ما الخيار المتاح في
هذه الحالة؟
فرد قديروف بالقول إن روسيا دولة عظمى ونووية. وأضاف قديروف أن روسيا لن تسمح أبدا
لنفسها بالخسارة في أي مواجهة، ويمكنها الضغط على الزر، والسلام عليكم، في إشارة
منه إلى إمكانية استخدام السلاح النووي في الحرب على أوكرانيا.
وتابع قديروف كما قال رئيسنا فلاديمير بوتين ما الغاية من بقاء العالم إن فنيت
روسيا؟ لا نريد أن يعيش هؤلاء الشياطين لنفنى نحن. نحن إلى الجنّة وهم إلى النار.
هذا التفاخر بروسيا ودورها والإشادة برئيسها بوتين، ليس جديدًا على قديروف.
ولكن لماذا يفعل قديروف ذلك؟ ما هي دوافعه؟
والسؤال الأهم
لماذا هذا الاهتمام الروسي بتصريحات قديروف؟ أو بالأحرى لماذا تحرص القيادة الروسية
على تصديره في المشهد السياسي؟
للإجابة على هذه الأسئلة، يلزمنا لها أن ندرك ما هو الوضع السياسي لجمهورية الشيشان
في روسيا؟ وكيف وصل قديروف لحكم الشيشان؟ ثم في النهاية توظيف روسيا لدور قديروف في
الاستراتيجية الروسية.
|
اكتسب أهل الشيشان سمعة المقاتلين الأشداء منذ أواخر القرن الثامن عشر،
وكانت لهم عدة محاولات لإقامة دولة للمسلمين في تلك المناطق بعيدة عن
النفوذ الروسي، من أشهرها حين رفع القائد العسكري الشيخ منصور راية الجهاد
ضد الغزو الروسي |
الشيشان... بين الجغرافيا والتاريخ
أطلق على هذه المنطقة اسم الشيشان منذ القرن الثامن عشر عندما غزا الروس البلاد،
حيث كانت أول بلدة وصلوا إليها تسمى (شيشن أود)، ومن ثم أطلقوا الاسم على المنطقة
والشعب.
يتم وصف الشيشان في علم الجغرافيا السياسية بالدولة الحبيسة أو الدولة غير
الساحلية، وهي دولة ذات سيادة محاطة باليابسة بالكامل، أو التي تقع سواحلها الوحيدة
على البحار المغلقة، وفي حالة الشيشان هي دولة محاطة باليابسة بالكامل، يحدها
شمالاً إقليم ستافروبول الروسي، وداغستان، وجنوباً جورجيا، وشرقاً داغستان، وغرباً
أنجوشيا وأوستينا الشمالية، كما تبلغ مساحتها نحو 17 ألفا و300 كيلومتر مربع، وهي
ذات مناخ قاري.
وعلى العموم تصنف الشيشان بأنها من دول القوقاز أو القفقاس، وهي المنطقة الجبلية
الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود وتقسمها جبال القوقاز، فهناك شمال القوقاز
والذي يضم مناطق إسلامية استولت عليها روسيا، كالشيشان وأنجوشيا وداغستان وغيرها،
وهناك أيضًا جنوب القوقاز وفيه عدد من الدول المستقلة، وهي جورجيا وأرمينيا
وأذربيجان.
ويقترب عدد سكان الشيشان من نحو مليون ونصف نسمة، ويشكل الشيشانيون 70% من سكانها،
بينما يمثل الروس وقوميات أخرى النسبة الباقية، كما يدين غالبية سكان الشيشان
بالإسلام.
قسمت الأراضي الشيشانية في العام 1991 بعد انهيار الاتحاد السوفييتي إلى جمهوريتين
ذاتيتي الحكم، وهم المعروفتان بجمهورية أنجوشيا وجمهورية الشيشان.
تاريخيًا بدأ الإسلام في الوصول إلى منطقة القوقاز في زمن خلافة عثمان بن عفان رضي
الله عنه، حيث كان كثير من الصحابة يتوجهون إلى المرابطة على الثغور في أطراف جنوب
القوقاز في أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، ثم تحركت قوافل التجار المسلمين إلى شمال
القوقاز، وكانوا يدعون إلى الإسلام فآمن كثير من الشيشان بدين الحق، بعدها تمكن
العثمانيون من نشر الإسلام مرة أخرى هناك فقد اتسمت الفتوحات أيام الدولة العثمانية
بقوتها وقدرتها على هزيمة الروس ومحاولتهم المستميتة، وشهدت تلك الفترة بناء عدد
كبير من المساجد، ودخول الكثيرين من الناس في القوقاز للإسلام، حيث أصبح الإسلام هو
الدين الأكثر اعتناقًا في شمال القوقاز حيث تقع الشيشان.
في العهد القيصري:
اكتسب أهل الشيشان سمعة المقاتلين الأشداء منذ أواخر القرن الثامن عشر، وكانت لهم
عدة محاولات لإقامة دولة للمسلمين في تلك المناطق بعيدة عن النفوذ الروسي، من
أشهرها حين رفع القائد العسكري الشيخ منصور راية الجهاد ضد الغزو الروسي،
وبعده محاولة الإمام شامل الذي أعلن قيام الدولة الإسلامية على أراضي الشيشان
وداغستان، وسماها (إمامات) لكنه انهزم من الروس ووقع في الأسر، ثم أفرج عنه وذهب
إلى استنبول ثم استأذن السلطان العثماني في أداء في فريضة الحج، ومات هناك ودفن في
البقيع، ومنذ ذلك التاريخ دخل الشيشان تحت الحكم القيصري.
في زمن الاتحاد السوفيتي: قام الدكتاتور السوفيتي جوزيف ستالين الذي خشي عدم ولاء
الشيشانيين بترحيلهم جميعًا عام 1944 إلى وسط آسيا حيث توفي كثيرون منهم، وفي عام
1954، سمح الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف لبعضهم بالعودة.
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي: أعلن الزعيم الشيشاني السابق جوهر دوداييف الاستقلال في
نهاية الحكم السوفيتي، ومن ثم أرسل الرئيس الروسي آنذاك بوريس يلتسن قوات في
عام1994، وخاضت روسيا حربًا دموية ضد محاولة دوداييف، أسفرت عن مقتل نحو 25 ألف
شيشاني، وخمسة آلاف جندي روسي، كما خلفت مئات الآلاف من اللاجئين.
واستمر الوضع إلى عام 1996، حيث تم توقيع اتفاق جديد بين الطرفين، تم بموجبه بإعلان
استقلال جمهورية الشيشان عن الاتحاد الروسي.
|
دخلت القوات الروسية غوديرمس ثانية كبرى المدن الشيشانية دون طلقة رصاص بعد
أن سلمها قديروف للروس. وجاءت المكافأة سريعة حين أعلن بعد أشهر قليلة
تعيين قديروف رئيسًا للإدارة المؤقتة في الشيشان، ثم رئيسا للجمهورية وهو
ما تم بالفعل في 2003. |
الشيشان في الاستراتيجية الروسية
في عام 1999، وصل فلاديمير بوتين إلى حكم روسيا، حيث شرع في رسم جيبولتيك جديد
لروسيا تحاول فيها استعادة أحلامها الإمبراطورية، فكان من الطبيعي أن يبدأ بالأكثر
قربًا جغرافيًا من روسيا وهي الشيشان.
وأُرسلت القوات الروسية إلى الشيشان مجددًا وبدأت حرب ثانية في الشيشان أطلق عليها
رسميًا عملية مكافحة الإرهاب، وحسمت الحرب في النهاية لصالح روسيا.
من استعراض تاريخ روسيا الدموي مع أهل الشيشان سواء في عهد القياصرة أو في عهد
الاتحاد السوفيتي وانتهاء ببوتين، نلاحظ إصرار روسي على السيطرة على تلك البقعة
الصغيرة من الأرض وإخضاع أهلها، ولم يتم الاعتراف بهم كدولة إلا في فترة انهيار
الاتحاد السوفيتي، حيث كانت روسيا في أضعف حالتها ولم تغب تلك الفترة كثيرًا فبعد
ثلاث سنوات، وحين بدأت تستعيد روسيا نهجها الإمبراطوري عادت لسياستها القديمة.
ولكن ما هي تلك الأهمية لمنطقة الشيشان كي تجعل الروس يولوها ذلك الاهتمام؟ لدرجة
أن روسيا اعترفت باستقلال جمهوريات صغيرة، أقل شأناً من الشيشان كدول البلطيق؛
أستونيا ولتوانيا ولاتفيا، ولكنها لم توافق على استقلال الشيشان.
أولا هناك بعد جيوبولتيكي، يتمثل في أن الشيشان جزء من شمال القوقاز والذي يفصله عن
جنوبه جبال القوقاز والتي هي بمثابة حاجز طبيعي استراتيجي مثالي لروسيا للدفاع عن
حدودها الجنوبية.
ثانيا البعد العقائدي، فأهل الشيشان معروفون تاريخيًا تمسكهم بالإسلام، وحبهم
للجهاد فكان لا بد من إخضاعهم وإبعادهم عن الإسلام بنسخته الأصلية، والذي يلعب
مفهوم الأمة الإسلامية دورًا حاسمًا في آمال ذلك الشعب وطموحاته، ومن ثم سوف تتأثر
بهم الشعوب الإسلامية الأخرى المجاورة كالأنجوش والداغستانيين.
ثالثا البعد الاقتصادي، تمتلك الشيشان في مناطقها الجبلية العديد من الثروات
المعدنية المهمة، ومن أبرزها: النفط الخام الذي يستخدم لإنتاج البتروكيماويات،
بالإضافة إلى الغاز الطبيعي والحجر الجيري وحجر الجبس ومعدن الكبريت والمعادن
الأخرى، كما اشتهرت بالمياه المعدنية التي جعلت من الشيشان مُنتجعًا طبيعيًا، كما
بها نهر تيريك ونهر سونزا فجعلا من منطقة الوادي المحيطة بهما منطقة زراعية خصبة،
وهذه العناصر تسيل لها بالطبع لعاب الطمع الروسي.
رحلة قديروف
في عام 1995 وقف أحمد قديروف ينادي الشيشانيين على دقات طبول الحرب: أيها الرجال،
يا من تدافعون عن الإسلام والشيشان، ها هو مصير أوطانكم بين أيديكم، إذا كنا لا
نزيد عن مليون مجاهد يواجهون 150 مليونًا من الروس فإن القضاء على روسيا نهائيًا لا
يستوجب أكثر من أن يقتل كل رجل منا 150 كافرًا منهم.
وخلال هذه الحرب صنفت موسكو قديروف واحدًا من أخطر أعدائها في الشيشان لقدرته
البلاغية على شحن عاطفة الشيشانيين بالجهاد ضد الروس، واعتبر بوريس يلتسين أن إسقاط
رأس قديروف أثمن من إسقاط رأس أصلان مسخادوف الذي انتخبه الشعب الشيشاني في عام
1997 رئيسًا لخمس سنوات.
وبالرغم من أن القوات الشيشانية التي أسقطت مبنى المخابرات الروسية في جروزني عثرت
على رسائل وأوراق للتواصل مع عميل شيشاني يحمل اسما حركيا هو آدم، ويقابله في خانة
الاسم الحقيقي أحمد قديروف غير أن الأمر لم يكن ليصدق آنذاك، أو ربما كان مصدقًا
ولكن المسئولين الشيشان لم يكونوا قادرين على التخلص من قديروف والذي وصل إلى منصب
المفتي العام لجمهورية تحكمها العلاقات العشائرية والقبلية. وفي الحالتين كانت
المحصلة في صالح بقاء قديروف في منصبه حتى نهاية عام 1999 حينما حدث الانعطاف
الكبير في طريق الرجل،
فتم إظهاره من جانب بوتين، على أنه مقاوم للمجاهدين مما أحدث خللاً وانقسامًا في
صفوف أهل الشيشان أثناء قتالهم للروس.
فدخلت القوات الروسية غوديرمس ثانية كبرى المدن الشيشانية دون طلقة رصاص بعد أن
سلمها قديروف للروس. وجاءت المكافأة سريعة حين أعلن بعد أشهر قليلة تعيين قديروف
رئيسًا للإدارة المؤقتة في الشيشان، ثم رئيسا للجمهورية وهو ما تم بالفعل في 2003.
وفي محاولته لتدعيم حكمه قام قديروف بتوزيع الوظائف على أبناء عشيرته (بينو) وخاصة
الحرس الشخصي له والقوات التابعة له المؤلفة من 3 آلاف رجل من أشرس العناصر
القتالية بقيادة ابنه.
وانتشرت أدلة وشهادات -بعضها لضباط في الجيش الروسي- على قيام حرس قديروف بعمليات
خطف واغتصاب وسرقة للمواطنين بل واتجار هذا الحرس في السلاح والمخدرات بحيث لم يعد
واضحًا للمواطن الشيشاني من يقوم بسرقته واعتقاله: الجنود الروس أم حرس قديروف؟
وسار حديث المواطنين الشيشان عن الفساد والمحسوبية الموضوع الأكثر شيوعًا في شيشان
اليوم.
ولكن في وسط حشود عسكرية هائلة، وفي يوم الاحتفال بعيد النصر الروسي لقي أحمد
قديروف الرئيس الشيشاني الموالي لروسيا مصرعه في ضربة موجعة من المجاهدين الشيشان
للاحتلال الروسي، ليتم تنصيب ابنه رمضان بديلاً له من قبل الروس.
أوكرانيا والشيشان
حشد الرئيس الشيشاني رمضان قديروف نحو 10 آلاف مقاتل شيشاني قبل بداية الهجوم
الروسي على أوكرانيا من أجل غزوها والسيطرة عليها
من بينهم مقاتلون يعرفون باسم (قديروفتسي) أي أتباع قديروف، وتتهمهم منظمات حقوق
الإنسان والشهود والناجون منذ عقود بالقتل خارج نطاق القانون واختطاف وتعذيب خصوم
قديروف ومنتقديه.
ولكن بحسب القناة الألمانية دويتشه فيله، فإن العديد من مسلمي الشيشان والتتار
يشاركون في القتال إلى جانب القوات الأوكرانية.
ونشر آدم عثماييف، وهو قيادي شيشاني يعيش في المنفى، تسجيلاً مصورًا على منصات
التواصل الاجتماعي قال فيه أريد أن أؤكد للأوكرانيين أن هؤلاء (قوات قديروف) ليسوا
شيشانيين. إنهم خونة ودمى أتباع روسيا.
وهناك وحدة عسكرية شيشانية أخرى تطلق على نفسها كتيبة الشيخ منصور والتي تنشط في
جنوب شرق أوكرانيا تحت قيادة مسلم تشبيرلوفسكي.
لم يكن أمر آل قديروف في نظر الروس مجرد خائنين تم استقطابهم، بل كان الأمر أبعد من
ذلك يتمثل في تقديم نموذج للإسلام الصوفي الخاضع للمحتل، ويسوق مفاهيم بعيدة عن
الدين الصحيح، هذا النموذج يتم تقديمه روسيا للعالم الإسلامي لإظهارها بمظهر الدولة
المحبة للمسلمين والحريصة على مصالحهم.