تبدو الساحة الليبية في حالة من الحراك المستمر هذه الأيام، فالزيارات الخارجية خاصة من الجانب الأمريكي في تصاعد، كما أن تصريحات الفرقاء الليبين وتصريحاتهم تشي أن ثمة جديد على الساحة الليبية، وهذا ما يحاول هذا المقال سبر أغواره
في خلال الأيام القليلة الماضية شهدت ليبيا زيارتين هامتين من مديري كل من
المخابرات الأمريكية والتركية.
ففي يوم الخميس الماضي، زار مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية وليام بيرنز
طرابلس، حيث التقى رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة ومسؤولين
آخرين، وانتقل بعدها المسئول الأمريكي إلى بنغازي في شرق ليبيا حيث اجتمع بقيادات
تلك المنطقة الموالين للجنرال الليبي خليفة حفتر قائد ما يسمى بالجيش الوطني
الليبي.
لكن شبكة "سي إن إن" الأمريكية تقول إنه لا يمكن تأكيد الاجتماع بين حفتر وبيرنز
بشكل مستقل.
وقد رد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، على سؤال خلال مؤتمر
صحفي، بشأن الهدف من الزيارة النادرة التي قام بها مدير وكالة الاستخبارات المركزية
الأمريكية وليام بيرنز إلى ليبيا قائلاً: لن أعلق على أي رحلة سفر قد يقوم بها مدير
وكالة الاستخبارات المركزية.
وفي السياق نفسه امتنعت الاستخبارات المركزية الأمريكية عن التعليق، كما أن
البيانات الصادرة عن حكومة الدبيبة في طرابلس اقتصرت على ذكر اللقاءات باختصار،
وأوردت حكومة الوحدة الوطنية الليبية في بيان عبر صفحتها على فيسبوك، أن اللقاء شهد
مشاركة وزيرة الخارجية والتعاون الدولي نجلاء المنقوش، ورئيس جهاز المخابرات حسين
العائب، ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء ورئيس الحكومة عادل جمعة.
وأشارت الحكومة في بيانها إلى أن بيرنز أكد خلال اللقاء على ضرورة تطوير التعاون
الاقتصادي والأمني بين البلدين، مشيداً بحالة الاستقرار والنمو الذي تشهده ليبيا
خلال الفترة الأخيرة.
أما نجلاء المنقوش، وزيرة الخارجية في حكومة الدبيبة، فقد ذكرت في تغريدة عبر تويتر
إن اللقاء مع بيرنز الذي جرى في طرابلس، شهد تبادلاً مثمراً في الآراء بشأن قضايا
تتعلق بالأمن، وبتمهيد الطريق صوب الاستقرار وإجراء الانتخابات في ليبيا.
|
استطاع حفتر بمساعدة إقليمية من إحداث اختراق في الغرب الليبي منذ
ثلاثة أشهر، عندما تمكن من استقطاب أحد قادته وهو وزير الداخلية الأسبق
فتحي باشاغا، الذي اختاره البرلمان الليبي الذي يسطر عليه حفتر رئيسًا
لحكومة جديدة، فحاول باشاغا السيطرة على طرابلس بانقلاب مسلح |
في حين لم يصدر أي تعليق رسمي من طرف حفتر أو عن أي أحد من المسئولين التابعين له
في المنطقة الشرقية من ليبيا.
وبعدها بأيام قليلة، التقى رئيس جهاز المخابرات التركي، هاكان فيدان برئيس الوزراء
الليبي عبد الحميد الدبيبة، ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي في العاصمة الليبية
طرابلس.
وذكر بيان نشر في الصفحة الرسمية على فيسبوك لرئاسة الوزراء الليبية يوم الثلاثاء
الماضي، أن الدبيبة بحث آخر التطورات الإقليمية مع فيدان.
وأضاف البيان: استقبل رئيس مجلس الوزراء عبد الحميد الدبيبة في رئاسة مجلس الوزراء،
رئيس جهاز المخابرات التركي هاكان فيدان، وتم خلال الاجتماع بحث ملفات إقليمية
ودولية مشتركة.
وذكر البيان أن وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، ووزير الدولة عادل جمعة،
ووزير الاتصالات والشؤون السياسية وليد اللافي حضروا الاجتماع.
وذكر بيان صادر عن المكتب الصحفي لمجلس الرئاسة، أن رئيس جهاز المخابرات الليبي
حسين العائب، وسفير تركيا في طرابلس كنعان يلماز حضرا الاجتماع.
ولم يذكر البيان تفاصيل عن فحوى الاجتماع، بحسب وكالة الأنباء التركية الأناضول.
والحصيلة أن مضمون زيارة كل من بيرنز وهاكان إلى ليبيا لم يكشف عنها رسميًا سواء من
طرف ليبي أو أمريكي أو تركي، نظرًا لطبيعة القائمين بالزيارة، وهما يديران جهاز
المخابرات التي تتسم أعماله دائمًا بالسرية، كما أن زيارة مدير المخابرات تختلف
دائمًا عن زيارات العسكريين والدبلوماسيين، لذلك سوف يتم تحليل ما يجري وفق أيضًا
متابعة ما يجري من صراع في الداخل الليبي، أو المنافسة الإقليمية، أو تطورات ما
يجري على الساحة الدولية.
الصراع في الداخل الليبي
لا يزال الانقسام السياسي والعسكري هو المسيطر على الوضع الليبي، بين شرق ليبيا
الذي يسيطر عليه حفتر عن طريق برلمان طبرق مدعومًا من أطراف عربية وغربية ومسلحي
فاغنر الروسية، وغرب ليبي يسيطر عليه حكومة الوحدة الوطنية بزعامة عبد الحميد
الدبيبة مدعوم أيضًا من أطراف عربية وغربية، ومعترف به دوليا فضلا عن دعم مسلح من
تركيا.
وقد استطاع حفتر بمساعدة إقليمية من إحداث اختراق في الغرب الليبي منذ ثلاثة أشهر،
عندما تمكن من استقطاب أحد قادته وهو وزير الداخلية الأسبق فتحي باشاغا، الذي
اختاره البرلمان الليبي الذي يسطر عليه حفتر رئيسًا لحكومة جديدة، فحاول باشاغا
السيطرة على طرابلس بانقلاب مسلح، وتم إفشاله من قبل قوات حكومة الوحدة الوطنية
مدعومة من القوات التركية.
وقد أدى هذا الهجوم إلى مقتل أكثر من 32 شخصًا، وإصابة نحو 150 آخرين.
|
هناك أقطاب عالمية كالصين وروسيا، تحاول إنهاء الزعامة الأمريكية وتربعها
على قمة النظام الدولي، وبين أمريكا التي تحاول قصقصة أجنحة تلك القوى
الدولية وأوراقها، حتى تستمر في تفردها وزعامتها. |
وفي نفس الوقت تم تعيين مبعوث جديد للأمم المتحدة إلى ليبيا السنغالي عبد الله
باتيلي، بينما لا تزال الانتخابات المفترض أنها ستوحد ليبيا كلها، يتم تأجيلها.
وتنقل صحيفة الجارديان البريطانية في أعقاب فشل هجوم باشاغا الأخير على طرابلس،
تصريحًا لجيفري دي لورانتيس المستشار البارز لبعثة الولايات المتحدة لدى الأمم
المتحدة، يقول فيه: الليبيون فقدوا الثقة بالكامل في الطائفة السياسية، والميليشيات
المتحالفة معهم، والمرتزقة، فهم يرون أن الساسة والمسلحين لا يرغبون في التوقف عن
نهب ثروات البلاد، مشيرًا إلى أن ذلك الأمر أصبح جليًا بعد هجوم طرابلس الأخير، وهو
الأسوأ من نوعه خلال السنوات الماضية.
تحالفات المنطقة ...خلط الأوراق
في الآونة الأخيرة شهدت المنطقة تغيرًا وانقلابًا في المحاور المتصارعة في المنطقة
وتبدل التحالفات.
فاتجهت الدول الخليجية جميعها للتقارب مرة أخرى بعد التصدع الذي أصابها، حيث يحاول
الخليج تزعم تكتل عربي إسلامي يكون له رأيًا مستقلاً ومقدمًا مصالحه على مصالح
القوى الدولية، وأن يخرج من قيود التبعية السابقة والتي جعلت من هذه الدول على وشك
الوقوع فريسة في أيدي المحور الإيراني ومشروعه الطائفي.
كما اتجهت دول المنطقة لعلاقات أكثر ترابطًا وتحالفًا مع القوة التركية الصاعدة،
بحيث يستفيد الطرفان سواء على المستوى الاقتصادي أو العسكري أو الاستراتيجي.
العالم بين نظام دولي جديد ونظام يحاول تثبيت نفسه
هكذا يمكن وصف الصراع العالمي الحالي.
فهناك أقطاب عالمية كالصين وروسيا، تحاول إنهاء الزعامة الأمريكية وتربعها على قمة
النظام الدولي، وبين أمريكا التي تحاول قصقصة أجنحة تلك القوى الدولية وأوراقها،
حتى تستمر في تفردها وزعامتها.
وهذا ما يحدث في حرب أوكرانيا منذ ما يقرب من عام، حيث نجحت الولايات المتحدة في جر
روسيا بوتين إلى مستنقع أوكرانيا.
وتأمل أمريكا استنزاف روسيا في حرب طويلة على أعتاب حدودها، تنهي بها تمدد بوتين
والنفوذ الروسي في العديد من المناطق الحيوية في العالم، وخاصة من المناطق التي
كانت تعدها أمريكا مناطق نفوذ خالصة لها وبالتحديد في الشرق الأوسط وأفريقيا.
لذلك جاء التركيز الاستراتيجي الأمريكي الحالي لإرضاء القوى الإقليمية وتجنب
الاصطدام بها، في محاولة لجذبها بعيدًا عن روسيا.
ما وراء الزيارات الاستخبارية
الذي يعزز فرضية أن هدف زيارة مدير المخابرات المركزية الأمريكية لليبيا تتعلق
بالوجود العسكري الروسي في شرق ليبيا، هي جولة رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان
والتي زار فيها الخرطوم ومن بعدها طرابلس، والتي تمت بعد انتهاء زيارة رئيس
المخابرات الأمريكية إلى ليبيا.
ففي هذه الأثناء يقوم وزير الخارجية التركي شاويش أوغلو بزيارة واشنطون حيث أجرى
محادثات مع وزير الخارجية الأمريكية وصفها الطرفان بأنها استراتيجية.
وجاءت في سياقها زيارة رئيس المخابرات التركية إلى السودان، في محاولة إقناع
السودانيين بوقف تعاونهم مع مقاتلي الفاغنر الروس والذين يتدفقون إلى ليبيا عن طريق
السودان، في مقابل رعاية تركيا لاتفاق بين أثيوبيا والسودان على خلفية نزاعهما على
مثلث الفشقة الحدودي، ومن المعلوم أن تركيا كانت الداعم العسكري الأكبر لحكومة
أثيوبيا في حربها الأهلية ضد طائفة التيجراي القوية، والتي لولا تدخل تركيا بمنظومة
طائرات البيرقدار لدخل جيش التيجراي العاصمة الأثيوبية أديس أبابا.
ولا يستبعد أن تكون أحد أهداف زيارة هاكان أيضًا الضغط على الحكومة المصرية، والتي
تماطل في إبرام صفقة مع الأتراك تتعلق بترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط.
ويبدو أن تركيا بنجاحها في إقناع السودان بوقف تدفق الفاغنر والأسلحة الروسية إلى
الشرق الليبي عبر الحدود السودانية وكذلك بضغطها على حكومة الدبيبة لتسليم المشتبه
به في قضية تفجير طائرة لوكربي محمد مسعود خير المريمي إلى الولايات المتحدة، تكون
قد نفذت صفقة مع الأمريكان بهذا الشأن، مع العلم أن تركيا قد قبضت الثمن، فكان
الإعلان عن تمرير صفقة الطائرات "إف 16" الأمريكية الى تركيا، والتي استبقت تلك
الجولة التركية بساعات.
ومن المعروف أن منع صفقة الطائرات الحربية "إف 16" تلك، كانت على رأس قائمة
العقوبات الأمريكية على تركيا حين أبرمت مع روسيا عقد شراء منظومة الدفاع الجوي "إس
400".
نتيجة هذه الزيارات سواء كانت زيارة رئيس المخابرات الأمريكية أو التركية، يبدو
أنها ستحقق هدف الطرفين الأمريكي والتركي في إخراج الروس من شرق ليبيا، وهذه مقدمة
لإضعاف تمددهم في أفريقيا.
وسيؤدي إنهاء الوجود العسكري الروسي في شرق ليبيا إلى ضعف مكانة حفتر، والذي يترافق
مع ضغط أمريكي على الإمارات ومصر لوقف دعمهما له مما سيؤدي إلى إنهاء تمرده في
الشرق. ومن مؤشرات ضعف دور حفتر، ففي أعقاب زيارة مدير المخابرات الأمريكية مباشرة،
تم استئناف انعقاد اجتماع مجموعة 5+5، والتي تتكون من القيادات العسكرية لكل من
الشرق والغرب الليبي والتي تهدف إلى توحيد الجيش الليبي.
لا يبدو أن هناك مستقبلاً لحفتر في الشأن الليبي، وسيؤول دوره إما إلى انتهاء تمرده
نهائيًا في ليبيا، أو خضوعه لانتخابات حرة ورهن وجوده السياسي برضا الشعب الليبي.