تعاني إيران من العديد من الأزمات الداخلية متمثلة في التظاهرات ما زالت مشتعلة إلى أزمة اقتصادية خانقة ناهيك عن تأزم مفاوضات الملف النووي، وعلاقات إقليمية متوترة هل تستطيع طهران تجاوز تلك الأزمات أم أنها مرشحة للاستمرار والتعقيد؟
لم لقد مرت إيران بالعديد
من الاضطرابات والأزمات خلال الأشهر الماضية حيث واجه مرشدهم الأعلى "علي خامنئي"
تحديًا غير مسبوق بالاحتجاجات التي نالت من اسمه للمرة الأولى وكسرت العديد من
مبادئ النظام وثوابت، فيما عانى حكم الملالي ككل من تحديات داخلية كبيرة نتيجة
المشكلات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وفيما يمرّ عام ويأتي آخر يُمنّي
الإيرانيون أنفسهم بانفراجه للوضع المتأزم الذي تعيشه بلادهم.
تحديات داخلية
|
ما
تزال الاحتجاجات مستمرة حتى الآن ولا تظهر عليها بوادر تذكر على التلاشي،
ولعل ما ميّز هذه الاحتجاجات عن سابقاتها أنها الأطول منذ ظهور الحركة
الخضراء بعد الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها عام 2009م |
كان إيران على موعد مع
أطول فترة من الاضطرابات في الجمهورية الإيرانية منذ إنشائها في عام 1979م، تفاجأ
الجميع من حجم المظاهرات وشدتها وتصميم المتظاهرين على الإطاحة بالنظام الحاكم،
فيما كان الاقتصاد الإيراني عالقًا في عامٍ من النمو المنخفض والتضخم المرتفع
والعقوبات وهو ما أضر بالآفاق الاقتصادية لملايين الإيرانيين.
1ـ احتجاجات غير مسبوقة
بدأ كل شيء في السادس عشر
من سبتمبر، عندما توفيت الفتاة مهسا أميني البالغة من العمر 22 عامًا في حجز شرطة
الأخلاق لارتدائها الحجاب بشكل غير لائق، سرعان ما اشتعل الغضب العام من طريقة
تعامل الشرطة والقواعد المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات المدنية، إلى جانب الأزمات
الأخرى المرتبطة بالفساد والبطالة، التحدي الأكبر فيما يخص الاحتجاجات الأخيرة أنها
تشكلت بسواعد جيل جديد من الشباب المتعطش لحياة مختلفة والذي خاب أمله في الحكم
الحالي، لم يردع المتظاهرين القمع والسجن والإعدامات، بل على العكس فقد أدى استعمال
عقوبة الإعدام إلى ردود فعل سلبية في الداخل والخارج، وبدلًا من أن تنجح سياسة
الاعتقال والإعدام في خلق الأمن وتخفيف التوترات، أدت إلى تفاقم الكراهية والغضب
العام.
ما
تزال الاحتجاجات مستمرة حتى الآن ولا تظهر عليها بوادر تذكر على التلاشي، ولعل ما
ميّز هذه الاحتجاجات عن سابقاتها أنها الأطول منذ ظهور الحركة الخضراء بعد
الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها عام 2009م، كما أنها بلا قيادة منظمة
وبشكل أكثر وضوحًا ذات طابع ثوري، ويرى البعض في هذا الأمر نقطة قوة، فالشباب
الإيرانيون يعززون جبهتهم دون السماح لجماعات معارضة موجودة في الخارج بقيادة
نضالهم أو استغلاله أو سرقته، لقد ظهرت أسماء لم تكن معروفة سابقًا وأصبحت أيقونات
لحركة هزت إيران في صميمها.
بالنسبة للنظام تمثل
الاحتجاجات تهديدًا وجوديًا، لذا تمارس أجهزة المخابرات والشرطة حملتها القمعية
التي لا حدود لها، يبدو أن النظام مصمم على القتال من أجل البقاء بغض النظر عن
التكلفة البشرية والسياسية، لا سيما بعد أن فشلت محاولته لتهدئة الجمهور من خلال
الادعاء بأنه سيحل شرطة الأخلاق سيئة السمعة، وبالتزامن بحث النظام عن كبش فداء
لإنكار إخفاقاته، فربط الاضطرابات بأعداء أجانب وجماعات انفصالية ونشطاء يتأمرون
لتقسيم البلاد، لم يلق هذا الطرح سوى القليل من الدعم، وأعلن المتظاهرون عن وحدتهم
عبر البلد المتنوع عرقيًا، وواصلوا هاتفهم الداعي لإسقاط النظام والانتقام لدماء من
قُتِلوا منهم، ربما يكون الوقت أما النظام قد فات لاستعادة عاطفة الشباب الإيراني
المحتج.
2ـ اقتصاد متأزم
ليست الاحتجاجات وحدها هي
الصداع الذي تعيّن على الحكومة الإيرانية مواجهته، فالاقتصاد متضرر بشدة من
العقوبات، كما أن الفساد الذي ينخر في مفاصله منذ فترة طويلة قد ساعد على تآكل
القوة المالية للدولة، وهو ما زاد من تضرر أوضاع المواطنين الإيرانيين، تفاقمت أزمة
الاقتصاد بشكل كبير مع تدهور قيمة الريال الإيراني الذي فقد فعليًا ثلث قيمته على
مدار 100 يوم فقط من الاحتجاجات، وجرى تداول الدولار فوق 413 ألف ريال في 26 ديسمبر
الماضي ارتفاعا من 320 ألفا في منتصف سبتمبر، ضربت الإضرابات التجارية مدينة تلو
الأخرى، وأضر الاضطراب العام بطلب المستهلكين ومناخ الأعمال الأوسع، فيما انخفضت
إيرادات الضرائب وكانت عائدات تصدير النفط وتهريبه أقل من التوقعات، ولم ينجح
الرئيس إبراهيم رئيسي في تحقيق تعهداته بشأن معالجة سوق الإسكان غير المنظم، كما
فشلت خطته الطموحة لبناء مليون وحدة سكنية كل عام
لا تزال آثار العقوبات
التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب آخذة في التأثير على
الاقتصاد الإيراني، لا سيّما وأنها قد شملت العديد من المؤسسات الاقتصادية
والمالية، من أبرزها: البنك المركزي وشركة النفط الوطنية وشركة الناقلات وغيرها،
وهو ما أدى إلى عزلة إيران وتكبيل اقتصادها، وبدون آفاق لتحسن الأوضاع فمن المرجح
أن يستمر العجز التجاري في الاتساع وستستمر الشركات والمستثمرون في تقليص الاستثمار
الذي يحتاجه الاقتصاد الإيراني مع مواصلة رأس المال في مغادرة إيران.
الملف النووي
قال المسؤولون الأمريكيون
إن المفاوضات مع إيران في مرحلتها النهائية بشأن استعادة الاتفاق النووي المعروف
بخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، ففي
أغسطس الماضي 2022م كان هناك تفاؤل للتوصل إلى اتفاق نهائي بعدما قدم الاتحاد
الأوروبي اقتراحه إلى طهران وواشنطن وذلك بعد عام ونصف من المناقشات غير المباشرة
بين الجانبين، كان إتمام الاتفاق سيؤدي إلى رفع مؤقت للعقوبات ضمن فترة تمتد حتى
عام 2025م وذلك لاختبار امتثال إيران للاتفاق، وهذا من شأنه تحرير ما يزيد عن 100
مليار دولار من الأرصدة الإيرانية المجمدة، لكن سرعان ما انهارت المحادثات مرة أخرى
بعد أن طلبت إيران من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إسقاط تحقيقها حول آثار
اليورانيوم التي تم العثور عليها في ثلاثة مواقع غير معلنة، كما سعت إيران إلى
ضمانات بأن الإدارة الأمريكية المقبلة لن تتخلى عن الاتفاق النووي، لكن كلا
المطلبين لم يكن مرحب بمناقشتهما بالنسبة لواشنطن.
بعد مرور عام يبدو أن
الاتفاق قد بات محكومًا عليه بالفشل، وفي أوائل نوفمبر الماضي قال الرئيس الأمريكي
جو بايدن إن الاتفاقية النووية التي حاول استعادتها قد "ماتت"، وعلى الرغم من أن
إدارته قد تراجعت بسرعة عن تعليقه، إلا أن العديد من الخبراء قد أعربوا أن التوصل
إلى اتفاق مع طهران لكبح نشاطها النووي مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية قد بات
مستحيلًا في الوقت الراهن، لقد بات الغرب يرى أن التكلفة السياسية لمنح إيران
تخفيفًا للعقوبات مقابل اتفاق نووي ستكون كبيرة بسبب حقيقة أن النظام الإيراني يقتل
شعبه في الشوارع ويقتل الأوكرانيين بشكل غير مباشر من خلال توفير الأسلحة لروسيا،
في المقابل هناك عدم رغبة لدى الجانب الإيراني للتعامل مع الأنظمة الغربية التي
يعتقد أن لها يدًا في تأجيج الاحتجاجات الحالية.
|
في أفريقيا وبعض البلدان الآسيوية، واصلت قوافل التبشير الإيرانية عملها
بغية تحويل الكثير من الشباب في تلك المناطق نحو الولاء الديني
والأيديولوجي لطهران، اعتمدت الدبلوماسية الإيرانية في تغلغلها على
المساعدات التنموية المقدمة عبر منظمات حكومية وغير حكومية
|
مع عدم وجود اتفاق في
الأفق، لا تزال إدارة بايدن ملتزمة بعقوبات الإدارة السابقة، فيما تعمل إيران على
تسريع مسيرتها نحو الأسلحة النووية، فخلال الشهر الماضي أكدت الوكالة الدولية
للطاقة الذرية أن إيران بدأت تخصيب اليورانيوم في محطة فوردو النووية تحت الأرض على
بعد خطوة واحدة من مستويات صنع الأسلحة النووية، وأمام هذا الواقع لن يسعى الغرب أو
النظام الإيراني حثيثًا من أجل إحياء الاتفاق النووي.
العلاقات
الخارجية
لم تكن علاقات إيران
الدولية وأنشطتها الخارجية بمأمن من الاضطرابات، بعضها كانت له عواقب وخيمة وبعضها
كانت له بوادر نجاح، حيث واجهت تحديات محتدمة ومنافسة متصاعدة مع أطراف مختلفة.
1ـ العلاقات مع الغرب
كان من المفترض أن تعود
إيران إلى المجتمع الدولي بعد كسر جمود مفاوضات برنامجها النووي المثير للجدل، لكن
سرعان ما تبددت هذه الآمال بحلول نهاية العام، ورغم حالة الغموض والفشل، فإن العودة
للاتفاق النووي بين إيران والقوى الغربية هو الخيار المفضل لكلا الطرفين، نظرًا
لحاجة طهران الملحّة لرفع العقوبات وإنعاش اقتصادها، ومصلحة الغرب في تسوية هذا
الملف وما سينتج عنه تفاهمات ستسهم في حل أزمة الطاقة العالمية، كما يأمل الغرب من
وراء الاتفاق في إضعاف الشراكة الاستراتيجية بين إيران والصين من جهة، وبين إيران
وروسيا من جهة أخرى، وبخلاف الاتفاق النووي فإن توتر العلاقات بين القوى الغربية
وإيران قد ازداد مؤخرًا بسبب قيام الأخيرة بتجاوز كل الخطوط الحمراء فيما يتعلق
بمسألة حقوق الإنسان، إلى جانب هجمات الحرس الثوري على بعض ناقلات النفط في الخليج
العربي، منها الهجوم على ناقلة نفط ترفع العلم الليبيري تعود لملياردير إسرائيلي
نفذته طائرة مسيّرة إيرانية، وكذلك الهجوم على مقرات بعض الأحزاب الكردية في
كردستان العراق، يُضاف إلى ذلك قيام طهران بإرسال طائرات بدون طيار إلى روسيا
لاستخدامها في غزوها لأراضي أوكرانيا.
2ـ العلاقات مع المحيط
الإقليمي
إقليميًا، شهد العام
المنصرم تحديًا أساسيًا متناميًا لإيران من طرف الكيان "الصهيوني"، إذ تمكن الأخير
من تقوية علاقاته مع دول المنطقة واستعاد علاقاته مع تركيا، وهو مؤشر خطير على صعيد
التنافس الجيوسياسي طويل الأمد، ويقلق الإيرانيين على مصالحهم الحيوية الأمنية
والاقتصادية، فانطلق الدبلوماسيون الإيرانيون ومسؤولو الاستخبارات إلى فتح قنوات
حوار مع بعض دول المنطقة، في مقدمتها مصر والأردن، وبينما تم تنشيط العلاقات مع
سلطنة عمان وقطر تمت تهدئة العلاقات مع الدول الخليجية الأخرى، حيث تبادل المسؤولون
الزيارات بين طهران وأبو ظبي لتعزيز العلاقات التجارية، ونشط رئيس الوزراء العراقي
بين الرياض وطهران لخلق مسارات للحوار بينهما وبحث إمكانية رفع مستوى التمثيل بين
البلدين، وبالتوازي عملت طهران على تقوية جبهتها الإقليمية المضادة الممتدة من
اليمن مرورًا بالعراق وحتى لبنان وسوريا، وبشكل عام لا يزال الإقليم ينظر بعين
الريبة وعدم الثقة إلى إيران، خاصةً في ظل تنامي القدرات العسكرية الإيرانية
وتوسعها نشاطها في صناعة المسيّرات بدون طيار والصواريخ الباليستية، هذا بخلاف
طموحاتها النووية.
3ـ العلاقات مع الحلفاء
بالرغم من أن العلاقات
الإيرانية مع حلفائها تقوم بالأساس على المصالح المتبادلة والمشتركة، إلا أن طهران
تحاول أن تستفيد من كبوات الحلفاء وتعيد توظيفها بما ينسجم مع مصالحها.
* مـع روسـيا:
على الرغم من التوافق
الأمني والسياسي والعسكري الوثيق بينهما، إلا أن المنافسة الاقتصادية بينهما قد
اشتدت منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، فالعقوبات الغربية على النفط الروسي وتحديد
سقف لأسعاره جعلت النفط الإيراني مُهدد بمنافسة شرسة من نظيره الروسي في أسواق
النفط الآسيوية الشرهة للطاقة، وقد يؤدي هذا التنافس إلى تقليص عائدات إيران من
تصدير النفط وتهريبه إلى تلك الأسواق، وعلى الرغم من هذه التناقضات تقف إيران إلى
جانب الروس في حربهم على أوكرانيا، وشهد هذا العام استقبال طهران للرئيس الروسي
فلاديمير بوتين في أول زيارة له خارج البلاد منذ بدء حربه على أوكرانيا، حيث ناقش
الجانبان تطوير آليات التجارة بينهما وتعزيز العلاقات لتجنب العقوبات الغربية التي
تستهدفهما.
* مـع الصـين:
العداء مع الغرب يدفع
إيران والصين صوب تعميق علاقتهما أيضًا، لا سيما وأن إيران تنظر إلى الصين
باعتبارها أهم شريك اقتصادي وأكبر داعم دبلوماسي لها ضد ضغوط الولايات المتحدة، وقد
كشفت زيارة وزير الدفاع الصيني إلى إيران مؤخرًا عن حجم الاهتمام بين البلدين
لتعزيز أوجه التعاون العسكري بينهما، صحيح أن بكين قد بدأت خلال الفترة الأخيرة في
تعزيز علاقاتها مع دول الخليج، إلا أن قواسمها المشتركة مع إيران قديمة واستراتيجية
وقد عززها انضمام طهران مؤخرًا إلى منظمة شنغهاي للتعاون.
* مـع تركـيا:
بالرغم من أن التنافس
التركي الإيراني طويل الأمد، إلا أن تعدد ساحات الاشتباك التي انغمس فيها الطرفان
قد شكّلت لهما اختبارًا صعبًا لمصالحهما الأمنية والاقتصادية المشتركة، فإيران قلقة
من اتساع نفوذ تركيا في شمال سوريا وكذلك من تصاعد التنافس في العراق، وفي المقابل
هناك قلق تركي من المجموعات المسلحة الموالية لإيران التي تعمل على الحد من جهود
الأتراك لتحييد الوحدات الكردية الانفصالية في سوريا والعراق، كما أن هناك مؤشرات
على استهداف طهران لمشاريع الغاز التي قد تمر عبر كردستان نحو تركيا، لم تشهد
الفترات السابقة مواجهات صريحة بين الجانبين إلا أن خطر المواجهة لا يزال قائمًا
وقد يحدث في لحظةٍ ما إذا تعارضت المصالح.
التغلغل الشيعي
تم إنشاء الجمهورية
الإيرانية الحالية كدولة دينية، وهو إنجاز تحقق في جزء كبير منه بفضل تقديس سلطة
رجال الدين الشيعة التي تهيمن على النظام الحاكم، ومع ذلك فإن الغضب الشعبي اليوم
في إيران من سوء الحكم يتجه بشكل متزايد إلى رجال الدين أنفسهم، ومن المرجح أن يلعب
التصور القاتم لرجال الدين بين الإيرانيين العاديين دورًا في تدهور وضعهم في الخارج
في بلدان أخرى لا يزال لدى الطوائف الشيعية فيها تقديسًا لا يتزعزع لرجال الدين
الشيعة، في سياق آخر واصلت إيران اللعب على الوتر الديني والمذهبي في المناطق التي
تنشط فيها بنفوذها، إذ يستمر نشر التشيّع بين أوساط الأهالي والأطفال في سوريا على
سبيل المثال، حيث تستغل إيران حالة العوز والفقر التي يعيشها السكان وتبدأ في إخضاع
أطفالهم لدورات عقائدية في المذهب الشيعي وانتقاء المميزين منهم لإرسالهم في منح
دراسية إلى مدينتي قم أو طهران، فيما تنشط الحسينيات التي أنشأتها إيران بدعم من
المركز الثقافي التابع لسفارتها في إعطاء دورات تعليمية مع توزيع مرتبات شهرية أو
سلال إغاثية على المشاركين، يأتي ذلك في إطار مساعيها الرامية إلى التغلغل الشيعي
في مفاصل المجتمع السوري.
في
أفريقيا وبعض البلدان الآسيوية، واصلت قوافل التبشير الإيرانية عملها بغية تحويل
الكثير من الشباب في تلك المناطق نحو الولاء الديني والأيديولوجي لطهران، اعتمدت
الدبلوماسية الإيرانية في تغلغلها على المساعدات التنموية المقدمة عبر منظمات
حكومية وغير حكومية
إلى جانب
المشاركة في برامج التعاون الدولي، حيث دأبت على الترويج للنموذج الإيراني عبر
تقديم مساعدات وبناء مدارس وأماكن عبادة تحت إشراف المبتعثين الإيرانيين لتجهيز
شباب تلك البلدان عقائديًا وفكريًا للعمل على ترسيخ المشروع الإيراني في بلدانهم،
وإنشاء مشاريع مشتركة في مجالي التكنولوجيا والطاقة، مثل: التنقيب عن النفط وصيانة
المصافي النفطية ومصانع البتروكيماويات والغاز، إلى جانب التعاون في مجالي الزراعة
والصحة، وبناء السدود والقواعد العسكرية الدفاعية.
لم يشهد الحرس الثوري
الإيراني تغييرًا كبيرًا في وضعية كقوة عسكرية تحت قيادة المرشد الأعلى تعمل على
تنفيذ الأجندة الإيرانية في الداخل والخارج، كما لم يتم رفعه من قوائم الإرهاب منذ
أن صنّفته إدارة ترامب في عام 2019م كمنظمة إرهابية، وقد أثبتت الأعوام القليلة
الماضية أن إيران لم تعد بحاجة إلى العجلة في تأسيس جبهات عسكرية في مناطق نفوذها،
بقدر أهمية الحاجة إلى تقوية نفوذها عبر نشر التشيّع وتهيئة المناخ المجتمعي وصناعة
بيئة حاضنة وظروف مناسبة تسمح لها العمل بهدوء وتضمن لها فرص نجاح أكبر عندما تحين
فرصة تأسيس جبهة عسكرية أو ميليشيا تابعة لها.
سيناريوهات
مستقبلية
استشراف المستقبل ليس
بمهمة سهلة، لكن المقدمات تنمّ عن النتائج، قد تكون هذه بعض التوقعات المبنية على
شواهد العام الماضي:
* من المتوقع أن تواجه
إيران وضعًا اقتصاديًا صعبًا في ظل استمرار العقوبات وكذلك الاحتجاجات، إلى جانب
ارتفاع معدلات التضخم ومعدلات البطالة، وتقييد الوصول إلى العملات الأجنبية،
والاستثمار الأجنبي المحدود للغاية، بيد أن ارتفاع أسعار الطاقة وزيادة منسوب
صادراتها النفطية قد يُسهم ولو قليلًا في التخفيف من وطأة الأزمة.
* من غير المتوقع أن تتسبب
المظاهرات الحالية في القضاء على النظام السياسي في إيران، فالنظام لا يزال يحتفظ
بولاء شريحة معتبرة من المجتمع الإيراني، كما أن قوة النظام ووحشيته في التعامل مع
الاحتجاجات قد يُضعف من ثقلها، لكن الاحتجاجات ستظل تتكرر ولو بشكل متقطع، مدفوعة
بمطالب اقتصادية من قبل محدودي الدخل والطبقة العاملة.
* من المتوقع أن تستمر
المواجهة بين طهران والكيان "الإسرائيلي" عبر عمليات متبادلة دون عتبة الحرب أو
الاشتباك المباشر، ستظل إسرائيل تستهدف علماء وضباط بارزين في الحرس الثوري في
الداخل الإيراني وكذلك استهداف تواجد الميليشيات الإيرانية في الداخل السوري عبر
ضربات جوية موجهة، فيما ستقتص إيران لنفسها في أماكن أخرى وبطرق مختلفة، لكنها
ستعمل على تجنب الدخول في تصعيد عسكري واسع مع إسرائيل.
* مع تقدم المرشد الأعلى
"علي خامنئي" في السن ومع الحديث المتكرر عن مرضه، يلوح موته في الأفق، صحيح أن هذا
الأمر لا يناقشه أحد تقريبًا علنًا داخل إيران، لكن الدولة بأكملها تستعد الآن
لقضية الخلافة، وفي ظل عدم وجود خليفة واضح له، ستكون إيران على شفا أزمة خلافة،
ومن المرجح أن يكون الحرس الثوري الإسلامي مسؤولًا بشكل مباشر عن حكم إيران لأول
مرة في تاريخها.
لقـد كانت الجمهورية
الإيرانية في حالة أزمة شبه دائمة منذ إنشائها في أعقاب ثورة 1979م، لقد كانت
دائمًا في مواجهة حروب وحشية وعقوبات دولية ومعارضة داخلية ومواجهة مستمرة مع القوى
العظمى والجيران الإقليميين، غالب الظن أن حالة الأزمة تلك لن تنتهي في المستقبل
القريب.