• - الموافق2024/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
انتفاضة شعبية في الصين مثل

رغم المركزية الشديدة في النظام السياسي الصيني والعنف الذي يجابه به أي محاولة لإظهار معارضة لسياسة النظام إلا أنه في الآونة الأخيرة ظهرت موجة من الاحتجاجات على سياسة صفر كوفيد، ما هي سيناريوهات تلك الاحتجاجات وهل من الممكن أن تتصاعد أكثر من ذلك؟

ترجمة هشام عليوان

يوان يوان آنغ Yuen Yuen Ang

 

في 26 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، شهدت مدن عدة في الصين مظاهر غضب واحتجاج على سياسة " Zero COVID" الصارمة لمكافحة انتشار فيروس كورونا، وهي السياسة التي ثبت فشلها الذريع.  الصين وحدها تعاني من هوس القضاء على الفيروس، فيما خرج العالم بأسره تقريباً إلى الحياة الاعتيادية منذ تطوير لقاحات فعّالة. لقد كانت سياسة بكين مدمرة؛ تضرّ بالاقتصاد، وتستنزف الموارد المالية للإدارات المحلية، وتثير غضباً واسع النطاق ضد النظام. الشيء الوحيد الذي يهتم به الرئيس الصيني شي جين بينغ Xi Jinping، أكثر من الاقتصاد، هو الأمن والاستقرار الاجتماعي. لكن لماذا يصرّ "شي" على المضي بسياسة ضارة بموقعه؟ الأكثر شيوعاً هو أن الحكومة الصينية تخشى من تصاعد حالات الإصابة بفيروس كوفيد -19، فتصاب المستشفيات بالعجز، خاصة مع عدم كفاية التلقيح بين كبار السن. ويدّعي الحزب الشيوعي أن "حماية الأرواح هي أولويتنا القصوى" على الرغم من أن عمليات الإغلاق القاسية تسببت بوفيات بسبب الحوادث، والاكتئاب، والحرمان من الرعاية الطبية. ولا يجرؤ أيّ موظف إداري، وحتى بين النخب السياسية، على التشكيك في سياسات الرئيس الصيني الحالي، حتى عندما تتحدى الفطرة السليمة.

 

المفارقة في هذه الاحتجاجات، أنها غادرت طابع الاحتجاج المباشر على إجراءات العزل (لا نريد اختبار كوفيد..نريد الحرية) لتصل إلى مستوى انتقاد سياسة كتمّ الأفواه

في ظل القيادة الجماعية التي ميزت النظام السياسي الصيني ابتداء من عهد دينغ شياو بينغ Deng Xiaoping (حكم بين عامي 1978 و1992)، لم تكن النزوات الشخصية للزعيم الأعلى لتهيمن على السياسة الوطنية. ولكن بما أن شي نجح في تركيز السلطة في شخصه بقدر ما فعل ماوتسي تونغ Mao Zedong من قبله، فقد أصبح شي بصلاحياته موازياً للإمبراطور مع فارق أنه مجهز بقدرات دولة عالية التقنية. وتحت قيادته، لم تكن البيروقراطية مهووسة بإنقاذ الأرواح أو التعايش في نهاية المطاف مع كوفيد-19، بل الحفاظ على الرقم المقدس للزعيم: "صفر"، أي صفر إصابة بالفيروس.

خلال المراحل المبكرة من انتشار الوباء في الصين، كان هناك سبب وجيه للرئيس الصيني لإعطاء الأولوية لمعالجة الوباء. في ذلك الوقت، كان الفيروس جديداً وخطيراً، ولم يتوافر لقاح بعد. نجحت استراتيجية الصين القاضية بإجراء الاختبارات الجماعية، وإغلاق المدن، والحجر الصحي المركزي في المستشفيات المؤقتة، في تحقيق العجائب، مما أثار إعجاب المتشكّكين، بالمقارنة مع فوضى الإدارة في الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب، وفي المملكة المتحدة في عهد رئيس الوزراء بوريس جونسون. ووفقاً لمركز المعلومات عن فيروس كورونا التابع لجامعة جونز هوبكنز، وحتى حزيران/يونيو 2022، سجلت الصين حالة وفاة واحدة فقط لكل 100 ألف شخص، مقارنة بـ 300 وفاة لكل 100 ألف شخص في الولايات المتحدة. بالنسبة إلى شي، كانت أرقام الوفيات التي تقترب من الصفر في الصين انتصاراً نادراً وقيماً، لا سيما بعد الانتقادات الشديدة التي وجهت إليه عندما انتشر الفيروس لأول مرة انطلاقاً من الصين. لقد أثبتت الإنجازات المبكرة صحة مزاعمه حول تفوق النظام السياسي الصيني ذي الطابع الهرمي المركزي على الديمقراطية الليبرالية، ومنحته فخراً كبيراً بهزيمة الغرب.

وبينما تعلمت الدول الأخرى التعايش مع الفيروس، ظلت القيادة الصينية متعلقة بسياسة صفركوفيد، وخُصّصت موارد هائلة وأفراد كُثر من أجل احتواء الوباء. لكن هذا النهج أضحى متقادماً بشكل متزايد، بل إنه سخيف، مع ظهور متغير جديد للفيروس (أوميكرون) شديد القابلية للانتشار، ولكن أقل خطورة. تجاهلت الإدارات المحلية هذا الواقع، التي لا تريد ظهور أي حالات في مرصدها. لذا، اقتصرت إجراءاتها على فرض إغلاقات شاملة لا هوادة فيها، ورشّ المطهّرات في الشوارع، وحجر الأشخاص الذين تعرضوا للإصابة ولكن ليس لديهم أعراض. إن عبثية هذه التدابير لا يكون لها معنى إلا عندما يفهم المرء أن هدفها الحقيقي ليس حماية الصحة العامة، بل تحقيق هدف سياسي هو: إبقاء أرقام الإصابات عند الصفر.

في البداية، كانت الآمال كبيرة في أنه بعد مؤتمر الحزب الشيوعي في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ستخفف القيادة من إجراءات السيطرة على الوباء. وفي 11 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أصدر المجلس الوطني للصحة (الإدارة الحكومية المسؤولة عن السياسة الصحية) توجيهاً يُعرف باسم "الإجراءات العشرون"، تضمن الأمر بعض الإرشادات المحددة لتخفيف القيود؛ على سبيل المثال، تقليل عدد أيام الحجر الصحي المفروضة على المسافرين الوافدين، وحق الأشخاص في المناطق عالية الخطورة بالعزل في المنزل بدلاً من المرافق المركزية للحجر الصحي. وقد فسّر المستثمرون هذه التوجيهات الجديدة على أنها علامة على خروج الصين الوشيك من الوباء، وانتعشت أسواق الأسهم لمدة وجيزة. لكن ثبت أن هذا التفاؤل سابق لأوانه. في الواقع، لم تكن الإجراءات الجديدة تهدف إلى إنهاء الضوابط بل إلى تحسينها. وكلّفت المسؤولين بمهمة شبه مستحيلة: "منع انتشار الفيروس، وفي الوقت نفسه، ضمان استقرار الاقتصاد". تعليمات بكين المتضاربة حمّلت كل اللوم والمسؤولية إلى الحكومات المحلية: إذا انتشر الفيروس، فهذا خطؤهم؛ وإذا كان الاقتصاد يعاني، فهذا خطؤهم أيضاً. هذا ما تسبّب بالارتباك، فبعض المدن خفّفت الضوابط، وشددت مرة أخرى، في حين فرضت مدن أخرى المزيد من الضوابط.

 

هناك تفسيران متطرفان لطبيعة الاحتجاجات الشعبية ضد الإغلاق. الأول يعتبرها لحظة عابرة من الاضطرابات، بينما ينظر إليها الثاني على أنها "ثورة ملونة" محتملة قد تطيح بالنظام. كلاهما غير صحيح

في 25 تشرين الثاني/نوفمبر، اندلع حريق سكني مميت في مدينة أورومتشي، حيث تأخرت جهود الإنقاذ على ما يبدو بسبب الحواجز التي تستخدم عادة لمنع السكان من مغادرة منازلهم أثناء الإغلاق. بالنسبة لكثير من الصينيين، كان هذا ما أشعل فتيل الغضب. قالت إحدى المشاركات على وسائل التواصل الاجتماعي: "إذا لم أكن أنا هذه المرة، فقد أكون أنا في المرة القادمة". ثار الغضب من هذه المأساة في خضم وضع اقتصادي قاتم: أغلقت أكثر من 460 ألف شركة أبوابها في الربع الأول من عام 2022، ووصلت بطالة الشباب إلى ما يقرب من 20%. في غضون ذلك، علم كثير ممن أصيبوا بالفيروس أنه لم يكن خطيراً كما زعمت دعاية الدولة. وأدرك بعضهم أن معاناتهم ناتجة عن سياسة لا معنى لها ولا داعي إليها، وليست نتيجة الفيروس نفسه.

لحظة عابرة أم ثورة ملونة؟

المفارقة في هذه الاحتجاجات، أنها غادرت طابع الاحتجاج المباشر على إجراءات العزل (لا نريد اختبار كوفيد..نريد الحرية) لتصل إلى مستوى انتقاد سياسة كتمّ الأفواه، من خلال رفع أوراق بيضاء تعبيراً عن الرقابة اللصيقة التي تمارسها السلطات على الرأي، بل هتفت مجموعة من المتظاهرين في شنغهاي بكلمات رددها متظاهر وحيد سابق رفع لافتة على جسر في بكين، قبل أكثر من 30 عاماً فيما سمي بأحداث ميدان تيان آن مين في عام 1989، وهي الانتفاضة التي هزت النخبة الحاكمة في الصين في العمق، وانتهت بقمع دموي.

ما من شك في أنّ ما جرى منعطف بالغ الأهمية في تاريخ الصين في القرن الحادي والعشرين، إذ ربما تكون هذه هي المرة الأولى التي يتجمع فيها الصينيون معاً لمقاومة سياسة وطنية - ويبدو، حتى الآن، أنهم جعلوا السلطات تغيّر مسارها بتخفيف القيود المقررة لمكافحة انتشار الفيروس. لكن ماذا بعد؟ هل تستجيب السلطة لمطالب الناس أم ستلاحقهم؟ هل ما حدث هو اضطرابات محدودة أم ثورة ذات أهداف سياسية؟

هناك تفسيران متطرفان لطبيعة الاحتجاجات الشعبية ضد الإغلاق. الأول يعتبرها لحظة عابرة من الاضطرابات، بينما ينظر إليها الثاني على أنها "ثورة ملونة" محتملة قد تطيح بالنظام. كلاهما غير صحيح. فعلى الرغم من أن الصين شهدت احتجاجات متفرقة في الماضي، إلا أنها كانت تدور حول مظالم معينة، مثل الأجور المستحقة أو تعويضات الأراضي، والتي يمكن حلها عن طريق إقالة مسؤولين من رتب منخفضة أو منح امتيازات مختلفة. المختلف والمهم في الاحتجاجات الأخيرة هو أنها لا تتعلق بالصراعات المحلية الضيقة. بدلاً من ذلك، هي موجّهة نحو سياسة وطنية يقودها شي شخصياً. ولا يقتصر التحرك على مجموعة واحدة، بل يشمل المهن والأصول الطبقية والعرقية والمناطقية. وجرى التعبير عن الانتقادات، ليس فقط عبر الإنترنت كما حدث في عام 2020، بعد وفاة الطبيب لي وينليانغ Li Wenliang، الذي حذّر الآخرين من فيروس جديد، (كورونا المستجد) لكن السلطات أسكتته. ولكن أيضاً بالنزول إلى الشوارع، على الرغم من المراقبة الأمنية المشددة وخطر الاعتقال.

ومع ذلك، فإن هؤلاء المتظاهرين، على الرغم من شجاعتهم غير العادية، لا يشكّلون بعد قوة ثورية. يبدو أن الكثير منهم في الشوارع يطالبون فقط بحرية التنقّل، وحقهم في كسب عيشهم، وليس التغيير السياسي. وعلى ذلك، يمكن أن تكون هناك أغلبية صامتة تلتزم بسياسات الدولة وتدعم الحزب الشيوعي الصيني. ولا يزال الرئيس شي يتمتع بشعبية بين القوميين، وأولئك الذين أفادوا من سياساته لمكافحة الفقر.

ما الذي سيفعله "شي"؟

هناك ثلاثة احتمالات لما سيحدث بعد ذلك. في السيناريو الأكثر تفاؤلاً ، سيعلن شي أنه استمع إلى مخاوف الناس، وأصبح الفيروس متوسط الخطورة، لذا فقد حان الوقت لإسقاط الهدف "صفر كوفيد"، وتعديل السياسات. قد يفقد الرئيس الصيني ماء الوجه لاعترافه بالأخطاء والتزامه بتصحيحها، لكن قبضته على السلطة قوية لدرجة أن هذا لا يكاد يضعف سلطته. سيشهد الاقتصاد انتعاشاً حاداً بعد ثلاث سنوات من الطلب الاستهلاكي المكبوت. وبعد تقديم التنازلات السياسية، ستنتهي الاحتجاجات، وتعود الصين إلى الاستقرار. هذا هو أفضل سيناريو يراهن عليه المستثمرون المتفائلون، لكنه يفترض عدم حدوث أي تغيير في العلاقات بين الدولة والمجتمع، وهو أمر غير واقعي، بالنظر إلى هوس شي بالأمن وإدراك الجمهور الصيني المتزايد بأنه بمكنته دفع القيادة إلى التراجع.

السيناريو الثاني، هو مزيج من تصحيحات المسار والقمع المتزايد. حتى الآن، يبدو أن هذه هي النتيجة الأكثر ترجيحاً. ففي إيجاز صحفي في 29 تشرين الثاني/نوفمبر في بكين، تعهدت لجنة من كبار خبراء الصحة بتخفيف القيود غير الضرورية، وتعزيز التلقيح بين كبار السن مما يشير إلى أن الحكومة المركزية تتخذ أخيراً خطوات للتعايش مع الفيروس. ويبدو أن بعض حكومات المدن والمقاطعات تخلت عن عمليات الإغلاق بين عشية وضحاها. في غضون ذلك، يدفع المتظاهرون ثمناً باهظاً لأفعالهم. بدأت الشرطة في تنفيذ اعتقالات وتسيير دوريات في الأماكن العامة بأعداد مخيفة. ومن المرجح تشديد الرقابة في بيئة خانقة بالفعل. وإدراكاً منها أن التطبيقات الأجنبية مثل تويتر سمحت للمتظاهرين الصينيين بمشاركة رسائلهم في الخارج، قامت الشرطة بشكل عشوائي بإيقاف الأشخاص وتفتيش هواتفهم بحثاً عن تطبيقات محظورة. وتوقفت إحدى أكبر سلاسل الأدوات المكتبية في الصين بيع الورق الأبيض مقاس A4، مشيرةً إلى الحاجة إلى "الأمن القومي والاستقرار".

ثمة سيناريو ثالث متشائم: يمكن للحكومة المركزية، على العكس من إشارات التخفيف من القيود والضوابط الصحية، إطلاق حملة قمع لا ترحم على كل من شارك في العصيان المدني. لم يعلق شي على الموقف الحالي، لذلك لا يُعرف ما الذي يفكر فيه. ومن غير الواضح ما إذا كانت الإجراءات التي اتخذها التكنوقراط المركزيون والحكومات المحلية حتى الآن قد حظيت بتأييده. وإلى أن تتولى الحكومة الجديدة مهامها رسمياً في آذار/مارس 2023 ، سيكون هناك فراغ سياسي. ولكن بالنظر إلى التجارب السابقة، فلن يكون شي على استعداد لتحمل الانتقادات الموجهة للحزب، ناهيك عن توجيهه إليه شخصياً.

منذ عام 1989، طوّر الحزب الحاكم ترسانته من استراتيجيات القمع. هو يعلم أن القمع العنيف مكلف للغاية أمام الرأي العام. وتشير تجربة بكين مع هونج كونج إلى أن الاحتجاجات الجماهيرية قد تستمر لمدة من الوقت، ولكن بعد ذلك، يمكن للحكومة أن تضع حداً للتحدي من خلال معاقبة المحتجين واحداً تلو الآخر - وهو نهج يُعرف باسم "تصفية الحسابات بعد انقضاء الأمر".

قال دنغ شياو بينغ ذات مرة: "ما هو سيء يمكن تحويله إلى شيء جيد"، وهو يفكر في أهمية الثورة الثقافية التي قادها ماوتسي تونغ. "يمكن أن تجعل الناس يفكرون، وتجبرهم على إدراك سبب حدوث خطأ وما الذي يجب تغييره. وهذا ما جعل من الممكن تغيير المشهد السياسي والاقتصادي في الصين".

كلمات دنغ تبدو حقيقية بالنسبة للصين اليوم. ما سيحدث بعد ذلك يعتمد بشكل حاسم على ما إذا كان شي اختار التصرف ببراغماتية واعتدال، أو بعناد ووحشية. بغض النظر عن كلا الأمرين، أنجز شي شيئاً عميقاً عن غير قصد: فسياسته الخالية من الفيروس جعلت كل مواطن صيني - سواء أكان غنياً أم فقيراً، كبير السن أم شاباً، ذكراً كان أم أنثى - يقدر قيمة حرياته المحدودة، ليس بطريقة مجردة عالية الحركة ولكن على المستوى الشخصي للغاية. وربما يكون التفسير الأكثر تفاؤلاً للأحداث الأخيرة، هو أن بذور الديمقراطية الهادفة في الصين مبعثرة ولا يمكن تدميرها.

 

لقراءة النص الكامل:

https://www.foreignaffairs.com/china/problem-zero-xi-pandemic-policy-crisis

 

أعلى