فنصف القوات العسكرية الأوروبية الخارجية تتمركز في أفريقيا، وبصفة أساسية في منطقة الساحل، وتعتبر فرنسا الذراع الكبرى لأوروبا الاستعمارية في أفريقيا، كون هذه المنطقة تعد من البقاع الغنية بموارد الطاقة والثروات المعدنية
في عام 2019م صرّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال ندوة صحفيّة عقدها مع نظيره
الإيفواري حسن واتارا، داعياً إلى "فتح صفحة جديدة بين فرنسا ودول القارة الإفريقية
أو "مستعمراتها القديمة" منوّهاً بأنه ينتمي "إلى جيل هو ليس بجيل الاستعمار، وأن
"الاستعمار الفرنسي كان خطأ جسيماً ارتكبته الجمهورية".
وعلى الرغم من كون هذا اعتراف تاريخي، إلا أنه مناورة مفضوحة، من دولة استعمارية
كبرى سابقة تلفظ أنفاس وجودها الأخير في أفريقيا. فالجميع يعلم ما تمثله أفريقيا
لفرنسا، ونتذكر تصريح الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران: "دون إفريقيا فرنسا لن تملك
أي تاريخ في القرن الواحد والعشرين"، كما صرح الرئيس الفرنسي جاك شيراك بأنه: "دون
إفريقيا فرنسا سوف تنزلق إلى مرتبة دول العالم الثالث". وبالجملة يمكن اعتبار
أفريقيا بالنسبة لفرنسا الحديقة الخلفية والفضاء الجيوستراتيجي، التي لا يمكنها
التخلي عنها، وتؤمن سيطرتها عبر قواعدها العسكرية المنتشرة.
إذ كل ما في الأمر أن ماكرون يحاول مستميتا استعادة شيء من الثقة التي تمهد لعودة
السيطرة، ولكن يبدو أن هذا شيء بعيد.
تاريخ أسود حافل بالجرائم الدولية
يعود تاريخ الهيمنة الفرنسية على إفريقيا إلى القرن السابع عشر، تقريبًا منذ سنة
1624م، عندما بدأت فرنسا في احتلال مناطق مختلفة من القارة، واستغلال سكانها
المحليين، عبر إنشاء أول مراكزها التجارية في السنغال، لتتوالى فيما بعد الحملات
العسكرية الفرنسية على بعض الدول الأخرى في شمال وغرب ووسط أفريقيا.
واستخدمت فرنسا دولاً مثل السنغال وساحل العاج وبنين لسنوات طويلة مركزاً لتجارة
العبيد، كما نهبت كافة موارد المنطقة. وفرضت سيطرتها على أكثر من عشرين دولة
أفريقية، واستمرت في حكم 35% من مساحة القارة لمدة ثلاثمئة عام.
وأنشأت أشكالا مباشرة للإدارة خلال تلك الفترة، واتبعت سياسات الاستيعاب من خلال
فرض أنظمتها الثقافية وقيمها. وقد توزعت مستعمراتها في منطقتين رئيستين، هما "غرب
إفريقيا الفرنسية" و"إفريقيا الاستوائية الفرنسية"، كما اتبعت فرنسا استراتيجية
فرّق تسد، بين القبائل المحلية، ما وفر لها سهولة الإدارة، وضمان عدم حدوث تمرد ضد
قواتها المستعمرة. ووضعت الحدود، مثلها مثل بقية القوى الاستعمارية، بين أبناء
القبيلة والأسرة الواحدة، ما تسبب في صراعات بين العديد من البلدان الإفريقية بعد
الاستقلال. وهكذا عاشت القارة الأفريقية مختلف مشاهد العبودية والمجازر والتمييز
العنصري والنهب والإفقار.
استقلال زائف ونخب زائفة فاسدة
أجبرت فرنسا كبقية الدول الاستعمارية عشرات الألوف من العبيد الأفارقة مشاركة
جيوشها في الحربين العالميتين، وكانت تدفع بهم دائما إلى الخطوط الأمامية من
الجبهات، كما استخدمتهم كدروع بشرية. ووفقا لتقارير دولية بخصوص خسائر الحرب
الكونية الأولى، فإن 71 ألف جندي أفريقي في صفوف الجيش الفرنسي لقوا مصرعهم، معظمهم
من المغرب والسنغال والجزائر وتونس ومدغشقر.
وقد أيد ذلك الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، في كلمته خلال فعاليات إحياء الذكرى
المئة لمعركة فردان (مدينة فرنسية تعرضت لهجوم ألماني)، معربًا عن امتنانه واحترامه
لكافة الجنود الأفارقة والمسلمين الذين ضحوا بحياتهم في سبيل فرنسا.
|
كما صرح الرئيس الفرنسي جاك شيراك بأنه:
"دون
إفريقيا فرنسا سوف تنزلق إلى مرتبة دول العالم الثالث".
وبالجملة يمكن اعتبار أفريقيا بالنسبة لفرنسا الحديقة الخلفية والفضاء
الجيوستراتيجي |
|
|
ورغم وعودها المتكررة بمنح الاستقلال في حال قبول تلك الدول القتال إلى جانبها
بالحروب العالمية، فإنها قابلت الثورات التحررية بالعنف المفرط والقتال، راح ضحيتها
أكثر من مليوني أفريقي. ولكن وكشرط لتأسيس العالم الرأسمالي الجديد الذي أنشئ بعد
الحرب العالمية الثانية، وافقت فرنسا على منح مستعمراتها في إفريقيا استقلالا هزيلا
ومشروطا، وافق عليه معظم الزعماء الأفارقة، باستثناء رئيس غينيا أحمد سيكو توري.
لذلك اعتاد الأكاديميون تسمية مرحلة الاستقلال بعد الحرب الثانية بالاستقلال الوهمي
أو الزائف، حيث حرصت الدول الاستعمارية على تثبيت نخب موالية لها في الحكم، قبل
رحيلها المزيف. وقد وصف الفيلسوف الاجتماعي فرانتس فانون (1925/1961) هذا النوع
بأنه "استقلال زائف".
قال رئيس أول مؤتمر لعموم إفريقيا عام 1919، وعضو الجمعية الوطنية الفرنسية
(البرلمان) عن السنغال بليز دياني، "نحن سكان المستعمرات نود البقاء ضمن ممتلكات
فرنسا في إفريقيا. لأنها أعطتنا كل أنواع الحرية، وعاملتنا كأطفالها دون أي تمييز.
لا أحد منا يريد من فرنسا أن تترك إفريقيا للأفارقة فقط، كما يود البعض".
وقال رئيس السنغال (1960/ 1980) ليوبولد سيدار سنغور: إن الطريقة الأنسب والمرغوبة
لبلاده، هي المحافظة على موقعها داخل الإمبراطورية الفرنسية.
ولم يؤثر الرفض الغيني لهذا النوع من الاستقلال في شيء، حيث وافقت البلدان
الإفريقية الأخرى، وقد ضمنت فرنسا استمرارها في إفريقيا عبر قواعد عسكرية واتفاقيات
اقتصادية وتعاونية ملزمة، خاصة فيما يتعلق بالعملة الاستعمارية الفرنسية (الفرنك
الإفريقي)، ونظام التعليم الفرنسي، والعلاقات العسكرية والتجارية.
هكذا نشأ تيار فكري بين الأفارقة يدعى "الأوربة الإفريقية"، ركز على مناهضة الحركات
الاستقلالية، مسلطًا الضوء على فوائد الاستعمار، وهكذا تمكنت فرنسا من إيجاد نخب
إفريقية، دافعت عن الاستعمار وحاربت الأفكار الاستقلالية، وشاركتها عمليات النهب
المستمرة لثروات ومقدرات القارة الأفريقية.
وليست بعيدة فضيحة شركة "ألف"، التي تعد أكبر فضيحة مالية وسياسية من نوعها في
تاريخ أوروبا المعاصر، وقد هزت فرنسا في تسعينيات القرن الماضي، ومثلت عمليات
اختلاس وتزوير واسعة استحوذت بموجبها مجموعة من أطر شركة "ألف آكيتين البترولية"
ورجال أعمال وساسة فرنسيون وأفارقة على أكثر من 300 مليون يورو من أموال الشركة
المملوكة للدولة بين عامي 1989 و1993، مع أن عمليات أخرى مشبوهة تُصنف في نطاق
الفضيحة جرت طيلة العهدة الرئاسية الثانية للرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران.
وقد طالت القضية الرئيس الأسبق جاك شيراك، مع وزراء الخارجية والداخلية وغيرهم من
كبار الساسة.
استكبار بالاعتراف لا الاعتذار
قتلت فرنسا ملايين الجزائريين خلال فترة استعمار الجزائر، التي استمرت 132 عامًا.
كما شاركت الوحدات العسكرية الفرنسية في واحدة من أكبر حروب الإبادة الجماعية عبر
التاريخ، وذلك في رواندا تحديدًا حيث قُتل ثمانمائة ألف شخص عام 1994، قام بها
متطرفو قبيلة "الهوتو" ضد أقلية "التوتسي"، وقد دعمت فرنسا بشكل مباشر عمليات
الإبادة الجماعية تلك.
ولا يزال حتى الآن عدد القتلى في تونس والمغرب والسنغال والنيجر وموريتانيا
والكاميرون وبوركينا فاسو وغابون وغينيا وبنين غير معروف. ولم تحل فرنسا في دولة ما
إلا وارتكبت فيها أبشع الجرائم الإنسانية.
كما استهدف الفرنسيون، مثل غيرهم من القوى الاستعمارية الأخرى، القادة والعلماء
والنخب المختلفة في مجتمعات دول القارة، حيث قامت قواتهم وعلى سبيل المثال لا
الحصر، بقتل نحو 400 عالم مسلم خلال مؤتمر في تشاد عام 1917.
كان ينبغي لفرنسا الاعتذار على نهبها وتبديدها للثروات الإفريقية، واستعبادها
وقتلها الملايين في القارة السمراء، وزرعها الفوضى الاجتماعية، وارتكابها مختلف
أنواع الإبادة، ولكنه الاستعلاء والاستكبار الإمبريالي الاستعماري الغربي، الذي ما
زال يرى القارة الأفريقية على أنهم خدم للرجل الأبيض المسيحي، وأنهم جنس متدني من
البشر خلق ليخدم أصحاب البشرة البيضاء.
رفض الرئيس ماكرون الاعتذار، وقد اعتبر في 2017م في خطاب ألقاه بجامعة واغادوغو
عاصمة بوركينا فاسو، أن "جرائم الاستعمار الأوروبي في أفريقيا لا جدال فيها".
داعيًا الأفارقة إلى إرساء "علاقة جديدة" مع الأوروبيين. وفي 2021م رفض مجددًا
تقديم اعتذار بشأن التاريخ الاستعماري الفرنسي في القارة الإفريقية، مع كونه أقر في
خطابه خلال القمة الإفريقية الفرنسية، "بالمسؤولية الجسيمة لفرنسا لأنها نظمت
التجارة الثلاثية والاستعمار".
|
واستخدمت فرنسا دولاً مثل السنغال وساحل العاج وبنين لسنوات طويلة
مركزاً لتجارة العبيد، كما نهبت كافة موارد المنطقة. وفرضت سيطرتها على
أكثر من عشرين دولة أفريقية، واستمرت في حكم 35% من مساحة القارة لمدة
ثلاثمئة عام. |
|
|
وعلى الرغم من هذا تقوم 14 دولة إفريقية من الدول "المستقلة"، وهي من بلدان
المستعمرات الفرنسية السابقة، بدفع الضرائب الاستعمارية إلى فرنسا منذ استقلالها،
كما تلتزم بوضع 85% من احتياطاتها في البنك المركزي الفرنسي.
متغيرات التوازنات الدولية
لماذا علاقة جديدة مع الأوروبيين؟ يذكر ماتيو دي كريمناجو، عضو لجنتي الخارجية
والدفاع في البرلمان الإيطالي ورئيس قسم الدفاع في حزب فورتسا إيطاليا، أن رؤيتهم
هي العمل ضمن إطار البرامج الأوروبية والبعثات العسكرية الدولية، حيث إن نصفها يقع
في إفريقيا، وهذا يبين الأهمية الكبرى للقارة الأفريقية، وهو التحدي الأكبر للعقد
المقبل. ولابد من مزيد من الاهتمام بأفريقيا بعد التوسع الصيني القوي لسنوات،
وينبغي تعزيز التواجد في البحر الأبيض المتوسط.
إذن فنصف القوات العسكرية الأوروبية الخارجية تتمركز في أفريقيا، وبصفة أساسية في
منطقة الساحل، وتعتبر فرنسا الذراع الكبرى لأوروبا الاستعمارية في أفريقيا، كون هذه
المنطقة تعد من البقاع الغنية بموارد الطاقة والثروات المعدنية، من نفط وغاز
ويورانيوم وذهب وحديد، وما تمثله من أهمية سياسية وجيواستراتيجية، كذلك تمتلك قوة
سكانية شبابية هائلة، وتعد سوقًا استهلاكيًّا ضخمًا، يمكن ضخّ فيه المنتجات
الأوروبية، وغير ذلك من الأسباب.
ولا يتوقف الأمر على مزاحمة الصينيين لفرنسا والأوروبيين، فقد صارت القارة في
السنوات الأخيرة تشهد تدافعا صراعيًا قويًا من الدول الكبرى، فليست الصين فقط، ولكن
أيضا روسيا، وتركيا، والهند، وبعض دول الخليج كذلك، وهناك معلمهم وأستاذهم الأكبر
ما زال قابعا، لم يغادر، ولم يفكر يوما بالمغادرة، بل يعيد ترتيب أوراقه، إنها
الولايات المتحدة الأمريكية، ولهذا كله أحاديث أخرى.