نصف ساعة مع الحجاج الليبيين
(الاسم: خليفة
.......................... المتوفى منذ سنوات عديدة، ونحن أولاده لم نستطع أن نحج
عنه نظرا لظروف الحياة الكثيرة، وعليه نرجو من الأخ الذي سيحج عن أبينا أن يتقي
الله في نفسه وأن يقوم بأداء فريضة الحج كاملة غير منقوصة. إن الله لا يضيع أجر من
أحسن عملا، والسلام، المتوفى: خليفة، التوقيع: ابنه حسين)
هذا نص رسالة كان يحملها حاج ليبي
ملفوف في وسطها 600دولار، بعث بها أولاد المتوفى ليوصلها إلى مكة، ويبحث لهم عمن
يحج عن أبيهم، واقترب مني أثناء موعظة كان يلقيها زميلي عبد المجيد الغيث على
الحجاج الليبيين، وقال لي بصوت خافت: معي أمانة وأتوسم فيك الخير ولا أعرف أحدا في
هذه البلاد، وذكر لي أمر النيابة عن الحج التي حملها من ليبيا إلى السعودية،
فاستمهلته وأجريت اتصالات بمن أعرف حتى وجدت من يلبي طلبه وينوب عن المتوفى في
الحج، فانشرح صدره، وتهلل وجهه، وتمتم بعبارات شكر ودعاء، ثم اجتمع علينا عدد كبير
من الحجاج يسألون، والجامع المشترك بين أسئلتهم هو: الحج نيابة عمن قضوا
أثناء الثورة ممن استباح القذافي وعصابته دماءهم..
مشهد مؤثر جداً حين تسمع من يقول:
أخي قتلوه بعد أن عذبوه وجئت لأحج عنه، وطاعن في السن يسأل وعينه تدمع يريد الحج
عن ولده وثمرة فؤاده المقتول، ولفت انتباهنا فتى يقارب العشرين لا تفارقه
الابتسامة جاء يحج عن أبيه المقتول الذي خلف زوجة وثمانية أولاد، وكأن زميلي تنبه
إلى أنهم قد يكونون محتاجين بموت عائلهم فأراد أن يساعده بشيء فانتهره الفتى،
وأقسم أنهم بخير وغنى..
هذا الفتى جاء يسأل عن أمر آخر
عجبت منه جداً.. ذكر أنهم قتلوا والده فلزمت أمه المنزل حداداً عليه حتى قُصف
المنزل وسقط، فخرجوا منه إلى آخر، فلما احتل مرتزقة القذافي بلدتهم خافوا على
أعراضهم وصبيانهم فنزوحوا إلى بلدة أخرى، ثم لما احتلت انتقلوا إلى ثالثة وهكذا،
وسؤاله: هل على أمه ذنب حين فارقت بيت الزوجية وهي محادة؟ وهل من كفارة لذلك؟
وماذا يلزمها؟
يا لهذا الدين العظيم حين يخلى
بينه وبين الشعوب، لا يلبث حتى يستقر في شغاف القلوب.. هذا الأسئلة تدل على ورع
وتوقي وخوف من الله تعالى، وسررت كثيرا حين علمت أن البلاء الذي أصابهم علقهم
بالله تعالى، فأكثروا الصيام وقيام الليل وحافظوا على النوافل بعد الفرائض، حتى إن
كثيرا من الشباب قضوا في المعارك وهم صائمون..
ورأينا -خلافاً للسنوات الماضية-
كثرة الملتحين، والنساء محجبات وأكثرهن يغطين وجوههن، وسألناهم عن مظاهر السنة
التي فيهم فقالوا: كنا مقموعين.. وما إن سقط حكم الطاغوت عدنا إلى ديننا وأعفينا
لحانا..
كنا نراهم في حج السنوات الماضية
فيجتنبون الكلام معنا، أو الاستماع لنا، وفي وجوههم خوف من بطش المجرم القذافي
وزبانيته، وفي هذا العام رأيناهم أعزة متبسطين، ينصتون بشغف واهتمام، ويسألون عن
أمور دينهم، ثبتنا الله تعالى وإياهم على الحق على الممات.
هذه العزة والأنفة ومتانة الدين
عادت لهذا الشعب الأبي أثناء الثورة كما كانت قبل حكم القذافي -لا رحمه الله
تعالى-، ولم تغيرها سنوات القهر والإذلال والتعذيب، وقد ذكرتنا بحال أجدادهم حين
كان يقودهم الأسد المغوار عمر المختار الذي جاهد الاستعمار الإيطالي قريبا من
ثلاثين سنة رحمه الله تعالى.
كم هو مؤثر هذا الوفاء لآبائهم
وإخوانهم وأبنائهم فجاءوا لأجل الحج عنهم! وكم كان بعضهم من شدة وفائه يتحسر حين
يعلم أنه لا يجوز أن ينوب عن أحد حتى يحج عن نفسه، فإذا علموا الحكم الشرعي رضوا
واستسلموا.
وبهذه النفوس المؤمنة، والشعوب
الموقنة؛ فإن الأمة الإسلامية مقبلة على خير كثير، وعز للدين وأهله بإذن الله
تعالى، وما ذلك على الله بعزيز.