كيف نشأ الحرس الثوري، وما هي مهامه المكلف بها، وما هو تأثيرها في الحياة السياسية داخل إيران وخارجها؟ ولماذا صنفته الولايات المتحدة منظمة إرهابية؟
بعدما نجحت ثورة 1979 في
إيران، كان لا بد من إنشاء فصيل أمني وعسكري لحماية النظام الجديد من التهديدات
الداخلية والخارجية، فتم تأسيس فيلق الحرس الثوري الإسلامي (IRGC) كحارس
أيديولوجي للثورة الإيرانية، وسرعان ما تطور الفيلق إلى مؤسسة ذات قوة سياسية
واقتصادية وعسكرية واسعة وأصبح من أقوى المنظمات المسلحة في منطقة الشرق الأوسط،
يسيطر الحرس على شريحة ضخمة من الاقتصاد الإيراني، ويمارس دورًا كبيرًا في تنفيذ
سياسة إيران الخارجية عبر علاقاته المعقدة مع الجماعات المسلحة غير الحكومية حول
العالم، ويحظى قادته بالتبجيل والاحترام على المستوى الرسمي كما أن العديد من كبار
المسؤولين الإيرانيين قد خدموا في صفوفه خلال فترة ما من حياتهم، وفي ظل ما تمر به
إيران هذه الفترة من احتجاجات وتحديات في نقل أجندتها السياسية إلى أجيال جديدة لم
نشهد ثورة 1979م، يتعاظم نفوذ الحرس الثوري الإيراني ويزداد تأثيره.
|
أراد
الخميني أن يقوم الحرس الثوري بحماية هذا النظام الجديد من أي انقلاب، مثل
ذلك الذي أطاح بحكومة محمد مصدق المنتخبة ديمقراطيًا وأعاد الشاه إلى
السلطة في عام 1953م |
حـراس
الثورة والنظام
تأسس الحرس الثوري
الإيراني (أو باسداران باللغة الفارسية) في أعقاب سقوط الشاه محمد رضا بهلوي
مباشرة، حيث تنافس اليساريون والقوميون والإسلاميون لتحديد مسار الجمهورية الناشئة
حديثًا، وبينما كان رئيس الوزراء المؤقت يسيطر على الحكومة ومؤسسات الدولة مثل
الجيش النظامي الذي كان يُعتقد أن العديد من قادته موالون للشاه المنفي في ذلك
الحين، نظم العديد من رجال الدين وأتباع الخميني ثقل موازن لتلك المؤسسات الموروثة،
كان الحرس الثوري هو أهمها، حيث تأسس بأمر مباشر من الخميني ليكون أحد أفرع القوات
المسلحة، لكن في حين أن الجيش النظامي يقوم بالدفاع عن الحدود وحفظ النظام الداخلي
وفقًا للدستور، فإن الحرس الثوري يحمي نظام الجمهورية في الداخل والخارج ويمنع
التدخل الأجنبي أو الانقلابات العسكرية ويقاوم الحركات المنحرفة التي تضر بالنظام،
هذه الوظائف المطاطة في تفسيرها جعلت عمله خارج حدود القانون والقضاء وتجاوز هيكله
القيادي الرئيس المنتخب.
|
يرى بعض المحللين أن الحرس الثوري بمثابة دويلة داخل الدولة الإيرانية، وهو
مظهر مرئي لما يشار إليه عادة باسم "الدولة العميقة" في دول أخرى، فدور
الحرس الثوري منصوص عليه في الدستور وهو لا يخضع إلا للمرشد الأعلى |
حين أنشأ الخميني
الجمهورية الإيرانية بعد الثورة جعلها قائمة على أساس مفهوم الوصاية أو ولاية
الفقيه، كان الهدف هو جعل إيران جمهورية دستورية محاطة ببنية ثيوقراطية،
أراد الخميني أن يقوم الحرس الثوري بحماية هذا النظام الجديد من أي انقلاب، مثل ذلك
الذي أطاح بحكومة محمد مصدق المنتخبة ديمقراطيًا وأعاد الشاه إلى السلطة في عام
1953م، وعادةً ما يُنظر إلى الحرس
الثوري على أنه جيش شعبي سرعان ما تحول إلى قوة قتالية تقليدية إبان الحرب العراقية
الإيرانية (1980-1988) حيث تبنى هيكلًا قياديًا مشابهًا لهيكل الجيوش النظامية
وأصبح له طابع مؤسسي كبير مع ما يزيد عن 125 ألف جندي تحت لواءه، وفقًا لتقديرات
المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في تقرير تم نشره عام 2007م، لكن هذا العدد
دون احتساب قوات البسيج المتطوعة والتي يمكنها حشد أكثر من 600 ألف متطوع، والمثير
أن الحرس الثوري تتبعه قوات بحرية وجوية منفصلة عن الفرع البحري والجوي للجيش
الإيراني النظامي، وهذه القوات لها جنودها وعتادها وقواعدها.
يعدّ
المرشد الأعلى هو قلب وعقل النظام وأعلى سلطة فيه، فيما يمثل الحرس الثوري عضلاته،
لذا فإن الحرس المدافع عن النظام يدافع تلقائيًا عن المرشد وأولوية حكمه، لكن هذه
التعريفات الضيقة لوظيفة الحرس ما هي إلا الشجرة التي تخفي الغابة، فمن الخميني إلى
خليفته خامنئي.. استفاد المرشدان من دعم الحرس الثوري، لقد ضمنت القوة القسرية
للحرس الثوري السياسات المحلية والطموحات الخارجية لمكتب المرشد، لكن على عكس
الخميني الذي كان لديه عدد كبير من الأتباع قبل الثورة، كان خامنئي يفتقر إلى جمهور
طبيعي عندما تولى السلطة، ملأ الحرس الثوري الإيراني هذا الفراغ وأقام علاقة
تكافلية وطيدة مع المرشد الجديد، لقد دعم الحرس بقوة سياسات خامنئي، وفي المقابل
ضمن خامنئي للحرس الثوري مكانة فريدة.
دويلة داخل
الدولة
يرى بعض المحللين أن الحرس الثوري بمثابة دويلة داخل الدولة الإيرانية، وهو مظهر
مرئي لما يشار إليه عادة باسم "الدولة العميقة" في دول أخرى، فدور الحرس الثوري
منصوص عليه في الدستور وهو لا يخضع إلا للمرشد الأعلى،
وهو ما يمنحه بطبيعة الحال مجموعة هائلة من السلطات القانونية والسياسية والدينية
أيضًا، تصل قاعدة قوة الحرس الثوري إلى أبعد أركان الدولة الإيرانية من خلال شبكة
قوية تابعة له تدير بفعالية المجمعات العسكرية والاستخباراتية، إذ يشرف على برنامج
الصواريخ الباليستية الإيراني وأجرى عدة تجارب على صواريخ يمكن أن يصل مداها إلى كل
دول المنطقة، ويعتقد بعض المحللين أن نفوذ الحرس الثوري في الساحة السياسية يصل إلى
حد لا رجوع فيه، ويتمتع بقاعدة انتخابية في مناطق واسعة من إيران، لا سيما في
المحافظات الريفية حيث تمنح مشاريع البنية التحتية التي ينفذها وعمليات التوظيف
لأبناء تلك المحافظات في فرق الباسيج شبه العسكرية درجة أعلى من الدعم والتأييد.
|
لا يتوقف نشاط الحرس الثوري عند حدود إيران بل يتجاوزها إلى آفاق بعيدة،
فعندما انتشر لأول مرة في الخارج إبان الحرب الإيرانية العراقية، بدأ في
رعاية الجماعات المسلحة غير الحكومية في المنطقة |
للحرس الثوري حصة كبيرة في
الاقتصاد سواء في الكيانات القانونية أو غيرها، وبالرغم من أن هذه الحصة من
المستحيل قياسها إلا أن التقديرات تقول إنه ما بين ثلث إلى ما يقرب من ثلثي الناتج
المحلي الإجمالي لإيران، حيث يمتلك الحرس نفوذًا واسعًا في العديد من الصناعات
والبنوك وقطاع الشحن والواردات الاستهلاكية وذلك من خلال الشركات القابضة وبعض
المؤسسات الخيرية، كما يعتبر لاعبًا كبيرًا في أعمال البناء والنفط والغاز
والاتصالات، كما تتعاقد شركاته من الباطن مع الشركات الأجنبية، وتحصل أيضًا على
عقود ضخمة من الدولة بدون مناقصات في قطاع النفط وتطوير البنية التحتية، على سبيل
المثال حصلت الشركة الهندسية "خاتم الأنبياء" التابعة للحرس الثوري على أكثر من 750
عقدًا حكوميًا لمشاريع البنية التحتية والنفط والغاز، وهي عقود تقدر قيمتها
بمليارات الدولارات وقد حصلت عليها بالأمر المباشر بدون مناقصات، ويُضاف إلى كل ذلك
سيطرة الحرس على سلسلة من الأرصفة البحرية على طول ساحل الخليج، وكذلك محطات الشحن
في معظم المطارات الإيرانية، كما أن الحرس الثوري متورط في عمليات تهريب واسعة عبر
الحدود، حيث يشارك بشكل مطرد في الأسواق السوداء لا سيّما بعد موجة العقوبات
الأمريكية التي أدت إلى انقطاع الشركات الإيرانية عن أسواق التجارة، إذ كانت
العقوبات فرصة ذهبية للحرس الثوري لترسيخ نفوذه في مجال تهريب المنتجات سواء
بالتصدير أو الاستيراد، ونظرًا للنفوذ الاقتصادي المتوسع الذي يحظى به الحرس فشل
الرئيس الإصلاحي حسن روحاني في مساعيه للحد من هذا النفوذ كجزء من الإصلاحات
الاقتصادية.
على أرض الواقع يعدّ الحرس
الثوري هو المنظمة الأكثر أهمية في البلاد، وإلى جانب نفوذه العسكري والاقتصادي
لديه نفوذ سياسي ملحوظ على الحياة السياسية بدأت ملامحه في أعقاب نهاية عهد الرئيس
الإصلاحي محمد خاتمي، فمنذ أن تولى محمود أحمدي نجاد مقاليد السلطة ازداد عدد رجال
الحرس السابقين في الحياة السياسية، تم تعيينهم كسفراء، ورؤساء بلديات، ووكلاء
وزراء، وحكام مقاطعات، وكان منهم 14 وزيرًا من أصل 21 في الحكومة، كل ذلك إلى جانب
ظهورهم المكثف في البرلمان، وهو ما جعل للحرس قدرة كبيرة على المساهمة في صنع
القرار السياسي للبلاد، أو توجيهه بالعنف والتزوير وكان هذا لافتًا في عام 2009م
حينما انتشرت تقارير تتحدث عن تزوير الحرس الثوري للانتخابات الرئاسية لصالح أحمدي
نجاد، وساعدت قوات الباسيج على دحر المظاهرات الحاشدة الرافضة للنتائج، كما تدخل
الحرس مرة أخرى في توجيه الانتخابات الرئاسية من خلال الضغط على مجلس صيانة الدستور
الذي يفحص المرشحين من حيث ملاءمتهم الأيديولوجية، وذلك لإبعاد المرشحين الذين
يعتبرهم غير مقبولين، وكان من أشهر المستبعدين "أكبر هاشمي رفسنجاني".
جـنود بـلا
حـدود
لا
يتوقف نشاط الحرس الثوري عند حدود إيران بل يتجاوزها إلى آفاق بعيدة، فعندما انتشر
لأول مرة في الخارج إبان الحرب الإيرانية العراقية، بدأ في رعاية الجماعات المسلحة
غير الحكومية في المنطقة،
وقد أنشأ المرشد علي خامنئي، الذي خلف الخميني في عام 1989م، فيلق القدس كوحدة
تابعة للحرس الثوري مسؤولة عن عملياتها الخارجية، طوّر الفيلق علاقات مع جماعات
مسلحة في أفغانستان والعراق ولبنان واليمن وأماكن أخرى، حيث قدم لهم التدريب
والمشورة العسكرية لإبراز قوته في الخارج، سعت إيران من خلال هذا الفيلق لتصدير
ثورتها واغتيال معارضي النظام، ويتم تعريفه أحيانًا بخليفة الحرس الإمبراطوري
للشاه، ويقدر قوام قوته بما يتراوح بين 2000 و5000 فرد، وفي بعض الأحيان يعمل
الفيلق كوزارة خارجية موازية لوزارة الخارجية الإيرانية الرسمية، وكان الجنرال قاسم
سليماني من أبرز قادة الفيلق، وقد تم اغتياله باستخدام طائرةٍ أمريكية مسيّرة في 3
يناير 2020م بعدما وصل إلى درجة رفيعة من النفوذ.
تم نشر فيلق القدس في
لبنان عام 1982م، حيث ساعد في نشأة حزب الله، وكان له دور كبير في شحن الأسلحة إلى
حزب الله والميليشيات الشيعية في العراق، وبمجرد اندلاع الثورة السورية في عام
2011م انتشر فيلق القدس في سوريا، ادعى قادته في البداية أن أفراده كانوا ينفذون
مهمة محدودة للدفاع عن الأضرحة الشيعية، لكن في وقت لاحق كشف تقارير أن فيلق القدس
كان يساعد الرئيس السوري بشار الأسد في قمع الشعب السوري، وقام بطرد أهل السنة من
مناطقهم وقام بقتلهم وتشريدهم في خطة ممنهجة لتهجير السنة واستيطان الجماعات
الشيعية مكانهم، ولعل توابيت الجنود الإيرانيين وبعض الجنرالات البارزين العائدة من
سوريا كانت خير شاهد على تلك المشاركة، هذا بخلاف أن كثيرين ممن قاتلوا مع فيلق
القدس في سوريا لم يكونوا إيرانيين، بل مسلحين من حزب الله اللبناني أو لاجئون
أفغان جندهم الحرس الثوري.
مع صعود تنظيم الدولة
(داعش) في سوريا والعراق، وسعت إيران من تواجد الحرس الثوري في كلا البلدين، في
العراق سرعان ما طغت التعبئة الشعبية لعشرات الآلاف من أفراد الميليشيات الشيعية
على الجيش الوطني العراقي، الذي كان أداءه ضعيفًا للغاية وسط التقدم السريع لداعش
في عام 2014م، تعهدت هذه الميليشيات بالولاء للمرشد الأعلى في إيران وكان يقودها
عمليًا قادة خدموا فيلق القدس، مثل أبو مهدي المهندس، وهو مواطن إيراني عراقي سبق
وأن عمل ضابطا بالفيلق.
منظمـة
إرهـابيـة
في عام 2007م، صنّفت وزارة
الخزانة الأمريكية فيلق القدس على أنه داعم للإرهاب، وفرضت مزيدًا من العقوبات على
مسؤولي الفيلق في عام 2011م وذلك بعد محاولة اغتيال فاشلة للسفير السعودي في
الولايات المتحدة، وفي أبريل 2019م أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن
الولايات المتحدة عن تصنيف الحرس الثوري رسميًا كمنظمة إرهابية، كانت هذه هي المرة
الأولى التي تضع فيها حكومة الولايات المتحدة على القائمة السوداء جزءًا من جيش
دولة ما كمنظمة إرهابية، حينها قال وزير الخارجية مايك بومبيو: "لا يمكن أن يكون
لديك سلام أو استقرار أو أمن في الشرق الأوسط دون إضعاف الحرس الثوري الإيراني"،
وأدى القرار منذ ذلك الحين إلى توقف المفاوضات مع إيران لإحياء الاتفاق النووي لعام
2015، وقالت طهران إنها لن تعود إلى طاولة المفاوضات حتى يتم إلغاء هذا التصنيف،
لكن إدارة جو بايدن رفضت ذلك الطلب.
طموحـات
وأهـداف
يحرص الحرس الثوري على
تعزيز قوته الناعمة في المؤسسات التعليمية والثقافية والإنسانية، مثل مؤسسة الإمام
الخميني للإغاثة وجمعية الهلال الأحمر الإيرانية وجامعة المصطفى الدولية، وهو ما
يضمن بقاء الأفكار والرؤية المتوافقة مع أيديولوجية النظام الشيعي داخل صفوفه على
المدى الطويل، لكن بالرغم من ترسيخ الأفكار إلا أن منظمة الحرس الثوري اليوم باتت
مفرطة في الانقسام وتتكون من تيارات متنافسة مدفوعة بشكل مكثف من الشخصيات
المعروفة، والاختلافات السياسية التي تتداخل مع الهياكل الرسمية، بعض التقارير تشير
إلى أن قادة الحرس يتصرفون بخطى ثابتة لتأكيد أنفسهم كلاعبين سياسيين رئيسيين
يمكنهم تولي كل المناصب، حتى ولو كان منصب المرشد الأعلى.
على مدى العقود الماضية،
قامت الجمهورية الإيرانية على تحالف أساسي بين رجال الدين والحرس الثوري، حيث كان
رجال الدين يحكمون البلاد، فيما يقوم الحرس الثوري بحراسة النظام، لا أحد يعلم متى
يمكن أن تتغير هذه الديناميكية إلى حيث يصبح الحرس الثوري في الحكم والحراسة معا،
حينها سيؤسس قادة الحرس الثوري ديكتاتورية عسكرية تستخدم الدين كقشرة أيديولوجية،
وسيديرون مجمع اقتصادي مختبئين خلف واجهة مدنية.