تقيدت تركيا بدور نشط دبلوماسياً وحاولت تصفير مشاكلها مع جيرانها كأحد أهم مبادئ السياسية الخارجية للبلاد تحت قيادة حزب العدالة والتنمية
شكلت عضوية الجمهورية التركية في الناتو صوتاً بارزاً ومؤثراً لسياستها الخارجية
وأكسبت الرئيس التركي رجيب طيب أردوغان الكثير من الحزم في طبيعة تعامله مع المحيط
الإقليمي لبلاده في السنوات الأخيرة، كما دفعت تركيا للتدخل عسكرياً في ليبيا
وسوريا انطلاقاً من مبررات قلقها من التواجد الدولي على حدودها البحرية والبرية.
هذا الأمر جعلها تواجه ضغوطاً أوروبية وأمريكية كبيرة ودفعها لإيجاد حاضنة
دبلوماسية تجمعها بخصومها مثل روسيا وإيران في سبيل التخفيف من الضغوط الغربية
وإيجاد طرق للمناورة للتغلب على أزماتها الاقتصادية والأمنية.
|
فبموجب اتفاقية مونترو عام 1936 تتحكم أنقرة بالمرور عبر المضائق التركية
وهي البسفور ومرمرة والدردنيل، التي تعد من أهم الممرات المائية التي تربط
بين البحر الأسود وبحر إيجة |
إن تركيا الحديثة هي الميراث الحقيقي لانهيار الإمبراطورية العثمانية التي حكمت
العالم الإسلامي ومساحات واسعة من أوروبا لستمائة عام، وشكلت آخر جبهات القتال ضد
الصليبية في الحضارة الإسلامية، وهذا الأمر منحها هوية وطنية فريدة هي مزيج بين
الخطاب القومي التركي المشبع بالهوية الإسلامية وبين تيار علماني ورث الأتاتوركية
التي أنتجها خضوع تركيا للقوى الأوروبية وطموحها العاجز بالاندماج مع الكتلة
الأوروبية.
بخلاف قوتها الاقتصادية التي يعد الإنتاج القومي رأس حربتها وقد بلغ 720 مليار
دولار في عام 2020، فإن موقعها الممتد بين آسيا وأوروبا يجعل تأثيرها كبير على
القوقاز وآسيا والوسطى
والكتلة الأوروبية والبحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط. فبموجب اتفاقية مونترو عام
1936 تتحكم أنقرة بالمرور عبر المضائق التركية وهي البسفور ومرمرة والدردنيل، التي
تعد من أهم الممرات المائية التي تربط بين البحر الأسود وبحر إيجة لكونها
مناطق عبور لمئات الملايين من الأطنان من البضائع سنوياً، ويزيد من أهميتها
تأثيرها الكبير على أوروبا وحدودها البحرية لذلك تتمركز على أراضيها قاعدة إنجرليك
الجوية التي تحتوي على أسلحة نووية أمريكية، وفي أزمة أوكرانيا التي زادت من حجم
التصارع الأمريكي الروسي فإن تركيا اتخذت موقفاً يبرز قوتها الدبلوماسية وفاعلية
موقعها الجغرافي ودورها السياسي في أزمات أوروبا وزاد من جرأتها في هذا الملف ضعف
الموقف الأمريكي وتراجعه خصوصاً بعد الانسحاب من أفغانستان.
لقد تقيدت تركيا بدور نشط دبلوماسياً وحاولت تصفير مشاكلها مع جيرانها كأحد أهم
مبادئ السياسية الخارجية للبلاد تحت قيادة حزب العدالة والتنمية، لذلك نجحت بأن
يكون لديها سجل دبلوماسي حافل خصوصاً مع الناتو والاتحاد الأوروبي والولايات
المتحدة وبلدان الشرق الأوسط وإيران، وكانت استراتيجية نشاطها الدبلوماسي قائمة على
تطوير العلاقات التجارية والتقارب الأيديولوجي والقضايا الحدودية والملفات
الإقليمية. لكن رغم كثافة النشاط الدبلوماسي التركي مع بعض الأطراف مثل الولايات
المتحدة وروسيا إلا أن ذلك لا يعبر عن حالة تعافٍ في العلاقة لأن واشنطن التي تعتبر
تركيا "شريك استراتيجي" وفق وصف وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، تحاول
الضغط على تركيا ومعاقبتها إقتصادياً وعسكرياً بسبب شرائها لمنظومة (اس_400)
الروسية، والخلاف الأمريكي التركي بشأن طبيعة تعامل تركيا مع المعارضة العلمانية
والتيار الذي يحاول الاعتراض على الهوية الدينية التي يتبنها نظام الحكم الحالي،
فالمصالحة الأمريكية التركية تلتقي وفق مسارات محدده أبرزها العلاقات التجارية
والصراع بين القوى الإقليمية، وكذلك طبيعة الدور التركي كجزء من العلاقات الأمريكية
مع منطقة الشرق الأوسط. كذلك الأمر بالنسبة للمسار الدبلوماسي الذي تسلكه أنقرة في
طريقة تعاملها مع موسكو، فرغم الخلافات العميقة بين الطرفين في سوريا وليبيا
وأذربيجان إلا أن الدبلوماسية التي سلكتها تركيا في الأزمة الأوكرانية استطاعت من
خلالها كسب ثقة موسكو حتى وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره التركي بأنه "شخص
يمكن الوثوق به"، وما سبق لا يعني عدم محاولات تركيا التوغل في عمقها العرقي
والديني في آسيا والوسطى والقوقاز وهي منطقة تنازع بين إيران وروسيا وتركيا. كذلك
سلكت تركياً طريقاً وعراً لزيادة تأثيرها في منظمة التعاون الإسلامي بهدف التأكيد
على هويتها الدينية وفتح مسارات للتدخل في القضايا المصيرية التي تمس العالم
الإسلامي وتقدمت خطوات في جوانب إنسانية مثل الصومال وميانمار وفلسطين، كما زادت من
حراكها الدبلوماسي في أمريكا اللاتينية وركزت على تجارة الذهب مع فنزويلا وضخت
مساعدات في السلفادور، وواصلت وساطتها في الصراعات بين الصرب ومسلمي البوسنة،
وحافظت على تأثيرها في الملف السوري من خلال سلسلة محادثات "أستانا" التي استمرت في
الانعقاد بمشاركة روسيا وإيران بهدف استمرار تأثيرها داخل العمق السوري وعدم السماح
للتحالف الداعم للأسد بالتوسع شمالاً. لقد بنا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ
صعوده للسلطة عام 2002 مساراً واضحة للسياسة التركية الداخلية والخارجية قائم على
توسيع نفوذ أنقرة في عمقها الإسلامي وزيادة قوتها الصناعية والعسكرية والقضاء على
صراع الهوية داخل البلاد.
|
لقد
برزت قوة تركيا الدبلوماسية داخل التكتل الغربي انطلاقًا من ضخامة قوتها
العسكرية فقد كان الإنفاق الدفاعي في عام 2021 عاشر أعلى إنفاق بين أعضاء
الناتو، وتعد القوات التركية ثاني أكبر قوة بعد الولايات المتحدة في الناتو |
ومن الملفات التي برع في التعاطي معها أردوغان هو الملف الكردي الذي لطالما شكل
هاجساً أمنياً وسياسياً للحكومات التركية المتعاقبة، لاسيما وأن الأكراد يشكلون خمس
سكان البلاد ويطالبون بالحكم الذاتي وتم استخدام قضيتهم في تقويض منظومة الأمن
التركي من خلال حزب العمال الكردستاني الذي دعمته بعض الأطراف الإقليمية والدولية
مثل الكتلة الأوروبية و الولايات المتحدة التي شكلت ودعم قوات سوريا الديمقراطية
وهي مليشيات كردية بالإضافة إلى الدولة العبرية بهدف استنزاف تركيا امنياً وسياسياً
واحتواء محاولاتها في الحفاظ على سيادتها . فقد قامت الدولة التركية بمنح الأكراد
المزيد من الحقوق الاجتماعية والسياسية وبالمقابل قامت بملاحقة المتطرفين والعناصر
المسلحة وملاحقتهم في جبال قنديل شمال العراق.
ولم تغفل تركيا في الأعوام الأخيرة مسألة تسوية خلافاتها مع جيرانها العرب وقامت
بمعالجة مشكلة وجود الجماعات السياسية المعارضة، بطرق استخبارية وسياسية تجنباً
لتحويل مدنها لمناطق تصفية حسابات لا سيما بعد أن استهدفتها مجموعة هجمات وتفجيرات
من قبل تنظيم "داعش"، بالإضافة إلى الهجمات المتبادلة بين الحرس الثوري الإيراني
والموساد الصهيوني، واستغلت أنقرة الانشغال الأوروبي في محاولة التصدي للضغوط
الامريكية وقامت بفرض سياسية الأمر الواقع في مياه شرق المتوسط من خلال اتفاقيات
مشتركة مع الحكومة الليبية سواء كانت هذه الاتفاقيات تتعلق بالغاز أو تطوير البنية
العسكرية وسلاح الجو ، فإن الهدف منها تحجيم الحركة البحرية الأوروبية في مياه
المتوسط وإفشال تحالف منتدى شرق المتوسط الذي أنشأتها الدولة العبرية واليونان
ومصر.
لقد برزت قوة تركيا الدبلوماسية داخل التكتل الغربي انطلاقًا من ضخامة قوتها
العسكرية فقد كان الإنفاق الدفاعي في عام 2021 عاشر أعلى إنفاق بين أعضاء الناتو،
وتعد القوات التركية ثاني أكبر قوة بعد الولايات المتحدة في الناتو.
لذلك سعت في الحرب الأوكرانية إلى تحقيق توازن في علاقتها بين البلدين، فقد زودت
أوكرانيا بالطائرات بدون طيار، وصوتت في الأمم المتحدة لإدانة الهجوم الروسي، وقامت
بحظر دخول السفن الحربية في المضائق التركية، كما منعت الطائرات العسكرية الروسية
المتوجهة إلى سوريا من استخدام المجال الجوي التركي، وعارضت كذلك العقوبات الغربية
على روسيا بسبب احتياجها للطاقة، ومارست دوراً رئيسياً في الوساطة في صفقة الحبوب.
تقول أسلي آيدينتاسباس من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، "السياسية التركية
الجديدة ليس هدفها الإنجراف نحو روسيا أو الصين، بل إنها تعبر عن رغبة تركيا في
الحفاظ على قدم في كل معسكر وإدارة التنافس بين القوى الكبرى"، ولا يوجد شك في أن
استثمار تركيا في علاقتها مع الكتلة الغربية رغم التنازع المستمر هو جزء من
استراتيجيتها لكي تصبح قوة عالمية.
مع اقتراب الانتخابات المقررة في عام 2023 يتوقع الكثير من المراقبين أن يكون هدف
الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية التركيز على الهوية الدينية لتحفيز قاعدته
الشعبية، وزيادة قوة تركيا كممثل عن العالم الإسلامي في الصراعات العالمية.