تاريخيًا اعتنقت شعوب جمهوريات آسيا الوسطى الخمس الإسلام، ومثلت مدنها حواضر للإسلام، فقد أخرجت علماء ومجاهدين سطروا في التاريخ الإسلامي صفحات من نور.
يوم الجمعة الماضي الرابع عشر من سبتمبر، ولعدة أيام اندلع قتال عنيف على الحدود
بين جمهوريتي قرغيزستان وطاجيكستان، وهما من بين خمس جمهوريات يتم تصنيفهما في
الجغرافيا السياسية ضمن منطقة آسيا الوسطى، والتي تتشكل من خمس جمهوريات تضم
بالإضافة الى قرغيزستان وطاجيكستان كل من أوزباكستان وكازخستان وتركستان.
ويشير نوعية الأسلحة التي تم استخدامها في الاشتباكات بين البلدين وحجم الخسائر
التي تكبدها كل من الطرفين، إلى أنه لم يكن اشتباكًا عاديًا بل ما يمكن اعتباره
حربًا فعلية، وربما يصدق ما وصفته وسائل إعلام في قرغيزستان ما حدث بأنه غزو.
فقد استخدمت الدبابات وناقلات الجنود المدرعة وقذائف المورتر والمدفعية والطائرات
المسيرة الهجومية لاستهداف مواقع عسكرية حدودية وتجمعات سكنية قريبة، الأمر الذي
أسفر عن مقتل ما لا يقل عن مائة شخص من البلدين ما بين مدنيين وعسكريين فضلاً عن
المئات من المصابين، وأعلنت قرغيزستان إنها أجلت 137 ألفًا تقريبًا من منطقة
الصراع.
كان يمكن اعتبار هذا الصراع نزاعًا حدوديًا عاديًا كما يحدث بين الدول المتجاورة
المتداخلة الأراضي، ولكن هناك عاملان يشيران إلى أن الصراع الحالي له أبعاد أخرى
مؤثرة إقليميًا بل عالميًا.
أولى هذه العوامل أن هذه الحرب الحدودية اندلعت أثناء انعقاد قمة منظمة شنغهاي
بمدينة سمرقند في أوزبكستان، والتي تضم بالإضافة الى طاجيكستان وقيرغيستان، روسيا
والصين وكازاخستان وباكستان والهند وأوزبكستان وإيران، وأخيرًا تركيًا التي تتمتع
بقدر من التأثير على دول آسيا الوسطى الخمس المستقلة عن الاتحاد السوفياتي السابق
بحكم الامتدادات الدينية واللغوية والعرقية.
أما العامل الثاني فهو مجاورة الاشتباكات الحالية في آسيا الوسطى، للحرب المشتعلة
في أوكرانيا إثر الغزو الروسي لأراضيها واصطفاف الغرب مع أوكرانيا داعمًا لها.
ولكي نستطيع فهم ما يجري بين طاجيكستان وقيرغيزستان، وكذلك توقع ما سيؤول إليه هذا
الصراع وامتداداته المستقبلية، يجب علينا إدراك البعد المحلي والعامل الخارجي وهما
متداخلان واللذان تسببا في النزاع، ومن ثم تحليل مدى استمرارهما مستقبلاً.
البذرة الخبيثة!
بالنسبة لقيرغيزستان فإنها تقع في الجزء الشرقي من آسيا الوسطي، حيث تشترك حدودها
الشرقية مع إقليم تركستان الشرقية والذي تحتله الصين، بينما يحدها من الشمال، ومن
الجنوب الغربي والغرب، طاجكستان أي أنها تحيط بكل حدودها بلاد إسلامية.
وتبلغ مساحتها حوالي 199 ألف كم مربع، وعاصمتها هي مدينة بيشكيك، ووفقًا لتقديرات
سنة 2020، فقد بلغ عدد سكان قرغيزستان 6.5 مليون نسمة.
أما طاجيكستان فيحدها أفغانستان من الجنوب، وأوزبكستان من الغرب، وقيرغيزستان من
الشمال، والصين من الشرق، وتقع طاجيكستان أيضًا بالقرب من باكستان التي يفصلها عنها
ممر وخان الضيق.
وتبلغ مساحتها حوالي 143 ألف كم مربع، وعاصمتها دوشنبه، ويبلغ عدد سكانها 9.75
مليون نسمة.
قديمًا كان يطلق على منطقة آسيا الوسطى تركستان الغربية، وبعد أن ورث السوفييتُ
القياصرةَ أصبحت تسمى تركستان السوفييتية، إذ يوجد أيضاً تركستان الشرقية التي
احتلتها الصين وصار يطلق عليها تركستان الصينية وتعرف أيضاً باسم مقاطعة شينغ يانغ
التي يتعرض فيها المسلمون للاضطهاد، ثم هناك تركستان الجنوبية التي يطلق عليها اسم
تركستان الأفغانية، وهي حاليًا منطقة في شمال أفغانستان، على الحدود مع جمهوريات
آسيا الوسطى (تركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان)، وظلت حتى القرن التاسع عشر يطلق
عليها مقاطعة تركستان، وكان مركزها مزاري شريف وتضم حالياً معها بلخ وقندوز
وجوزجان.
وعموماً تركستان مصطلح تاريخي يتكون من مقطعين، ترك وستان ويعني أرض الترك، وهي
الأرض التي بدأ توافد قبائل الترك عليها مطلع القرن الخامس الميلادي حتى شكلت تلك
القبائل تدريجياً غالبية السكان بنهاية القرن السادس الميلادي، ثم انطلقت بعض هذه
القبائل إلى المناطق الأخرى فاستوطنوا الأناضول وغيرها، وهذا يفسر الروابط العاطفية
التي تجمع بين شعوب تركستان عموماً بالدولة التركية الحالية التي تتربع على هضبة
الأناضول.
وتاريخيًا اعتنقت شعوب جمهوريات آسيا الوسطى الخمس الإسلام، ومثلت مدنها حواضر
للإسلام، فقد أخرجت علماء ومجاهدين سطروا في التاريخ الإسلامي صفحات من نور.
لكن في نفس الوقت تعدُّ آسيا الوسطى الحدود الجنوبية لروسيا، فكانت تاريخياً تمثل
مع منطقة القوقاز المنطقة الفاصلة بين الدولة الروسية والعالم الإسلامي، فشهدت
المنطقة صداماً مستمراً بين القوى المهيمنة على روسيا والدول الإسلامية المتاخمة
لهذه المنطقة كدولة المغول المسلمة في الهند، أو الدولة العثمانية في الأناضول
والقوقاز، وفي القرن التاسع عشر مع ضعف الكيانات الإسلامية تطور الصدام الروسي مع
القوى الاستعمارية الصاعدة التي هيمنت على تلك المناطق مثل بريطانيا والصين، فالصين
قد أحكمت سيطرتها على أراضي تركستان الشرقية، وبريطانيا قد استولت على كشمير وشمال
الهند، في حين تمدد الروس إلى تركستان الغربية، فتصادمت القوى الثلاث في تقاطع آسيا
الوسطى مع جنوب آسيا مع شرق آسيا، في منطقة جبال البامير التي يتم وصفها بسقف آسيا
وأحياناً أخرى بسقف العالم حيث ارتفاع الجبال الأعلى في الأرض، وانتهت عام 1897م
بسيطرة كاملة لروسيا القيصرية على منطقة آسيا الوسطى.
وفي القرن العشرين ورث الشيوعيون في روسيا تلك المنطقة، ولكنهم رأوا أن هناك ثلاثة
تهديدات رئيسية تحول دون سيطرتهم الدائمة عليها وهي: الإسلام، وسيادة العرق التركي،
وأخيراً الرغبة في الاستقلال ورفض الهيمنة الروسية.
لذلك لإحكام السيطرة على آسيا الوسطى ارتكزت الاستراتيجية السوفييتية وتمحورت حول
تغيير الهوية لأبناء المنطقة، وتستبدل بها هوية مصطنعة قَبَلية وعرقية وعلمانية.
فتم أولاً تقسيمها إلى خمس جمهوريات منفصلة بحدود مصطنعة وتثار بينها دائماً
النزاعات؛ فقبائل الطاجيك أُلْحقوا في دولة أطلقوا عليها طاجيكستان، والأوزبك صنعوا
لهم كيان أوزباكستان، والتركمان رسموا لهم حدود تركمانستان، وعرق القيرغيز تم
تجميعهم في دولة قيرغيزستان، وأخيراً قبائل الكاراخ صنعت لهم دولة كازاخستان.
وتبع تقسيم الروس لآسيا الوسطى إلى خمس جمهوريات اشتعال الصراع بين هذه الدول على
الحدود، وخير مثال على هذه المشكلة هو الصراع على تبعية وادي فرغانة، فقد نتج عن
النزاع حولها أنها قُسِّمت بين ثلاث جمهوريات: أوزبكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان.
كذلك عمل الروس على نشر الثقافة العلمانية بين أبناء المنطقة، ثم جاء تهجير الروس
إليها وتهجير المسلمين منها بحيث أصبحت نِسَب الروس المنتشرين في منطقة آسيا الوسطى
كالتالي: (37.8%) من عدد سكان كازاخستان، و (21%) من سكان قيرغيزستان، و (9%) من
سكان تركمانستان، و (8%) من سكان أوزبكستان، و (8%) من سكان طاجيكستان.
ولكن كيف بدأ الصراع بين الدولتين؟
السبب المحلي الأصلي الذي يتسبب في النزاع، أن أكثر من ثلث الحدود بين البلدين
والبالغة 972 كيلومترًا لم يتم ترسيمها بعد، الأمر الذي أدى إلى وقوع ما يقرب من
تسعة اشتباكات كبرى منذ عام 2004 وما يقرب من 70 حادثًا حدوديًا.
تعود جذور هذا الصراع المباشر إلى سببين مترتبين على الحدود المتداخلة:
السبب الأول هو الخلاف على المراعي، فنظرًا لأن الماشية الطاجيكية بالمنطقة
الحدودية محدودة المراعي، اعتمدت طاجيكستان على موارد المراعي الموجودة بقرغيزستان.
أم السبب الثاني، فهو وادي فرغانة، الذي يقع في أراضي قيرغيزستان وأوزبكستان
وطاجيكستان، يمثل منطقة نزاعات حدودية، حيث تعتبر الأراضي الخصبة في هذه المنطقة
ذات أهمية كبيرة لبلدان آسيا الوسطى، وهي دول زراعية. لذلك، لا أحد على استعداد
لتقديم تنازلات.
حرب أوكرانيا والتأثير
تثار أسئلة عديدة حول أسباب تجدد الحرب هذه الأيام والتي تتزامن مع اندلاع الحرب في
أوكرانيا عقب الغزو الروسي لأراضيها:
هل كانت حرب أوكرانيا إحدى دوافع الاشتباك الحدودي الأكبر في تاريخ البلدين، والذي
أسفر عن مائة قتيل؟ هل هناك طرف يريد استغلال التراجع الروسي في الأيام الماضية
أمام الهجوم الأوكراني المضاد المدعوم بالآلة العسكرية الغربية ليفرض أجندته كما
حدث بين أذربيجان وأرمينيا مؤخرا؟
وهنا نستقصي كيف بدأت الحرب؟ وكالعادة يحاول كل طرف الصاق التهم ببعضهما البعض،
ويريد أن يصور نفسه كرد فعل على هجوم الاخر.
وبصرف النظر عن دوافع القتال الأخير وهل هي مرتبطة بتوترات دورية تحدث كل فترة بين
البلدين، أو تتعلق باستغلال المأزق الروسي في أوكرانيا، فإن المسارعة الروسية
لتهدئة الأوضاع بين الدولتين يوحي بخطورة الأوضاع ليس في آسيا الوسطى فقط بل في
جميع المناطق التي تتدخل فيها روسيا وتعتبرها مصلحة حيوية لها.