رأت إيران في العراق ثلاثة أهداف كبرى: فهو بمثابة بوابة مهمة لتحقيق الحلم الفارسي بإقامة إمبراطورية شيعية في العالم الإسلامي، والعراق يمثل عمق استراتيجي طبيعي لإيران وخط دفاع أول ضد اجتياحها أو احتوائها ومحاولة تغيير نظامها، كما أنه أيضًا ورقة ضغط على القو
لا تزال الأجوبة عن دور مقتدى الصدر في العراق يبدو محيرا للمطلعين على الشأن
العراقي، وكذلك للراغبين في عودة العراق مرة أخرى ليتبوأ مكانته في الأمة بثرواته
ومياهه وجغرافيته، والمتطلعين لمساهمة الشعب العراقي وعودته إلى استئناف دوره في
نهضة الأمة المرتقبة وهو المعروف بطبيعته الأبية المعتزة بنفسها.
والمتأمل لظاهرة مقتدى الصدر منذ عودته إلى العراق بعد الاحتلال الأمريكي لأرض
الرافدين، يلاحظ أنه في خمس مرات تقريبًا يهم الصدر بثورة وصدام مع النظام العراقي،
ثم يعود ليتراجع.
وأخر هذه المرات منذ أسابيع قليلة، عندما أعلن مقتدى الصدر انسحابه نهائيًا (على حد
وصفه) من السياسة بعد أشهر من الانسداد السياسي الذي أعقب الانتخابات البرلمانية
العام الماضي.
وبدلاً من أن تكون دعوته إشارة عن الخروج من السياسة، فقد كانت بمثابة الإشارة
لأتباعه لكي يخرجوا إلى الشوارع. وسيطر المحتجون على البرلمان، ثم تدفقوا نحو
المنطقة الخضراء، وهو المربع الدولي المحصن وسط بغداد، وفيه مقرات الحكومة.
وهاجم أنصار الصدر مكاتب الحكومة، وسبحوا في مسابح المنطقة الفخمة، بل مزقوا الصور
والملصقات التي تحمل صورًا للجماعات الشيعية الأخرى، أو ما يعرف بالإطار التنسيقي،
بما فيها صور الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الذي اغتالته أمريكا في عام
2020.
واندلع العنف عندما حاول أنصار الصدر السير نحو بيت نوري المالكي وهو أحد قادة
الإطار التنسيقي وهو تجمع شيعي عسكري، وعند تلك النقطة قامت المليشيات الموالية
للإطار التنسيقي بإطلاق النار، بشكل دفع أنصار الصدر لإرسال ميليشياته هو الآخر
والمعروفة باسم سرايا السلام، التي وصل رجالها مسلحين بالمقذوفات الصاروخية. وتبع
ذلك معارك حول المنطقة الخضراء خلفت أكثر من 30 قتيلاً ومئات الجرحى.
وبعد غيبة يومين، ظهر الصدر على منصات التواصل الاجتماعي، وطلب من أنصاره الانسحاب
من المنطقة الدولية، ومقابل ذلك، حصل على تأكيد من الإطار التنسيقي على رئيس وزراء
يفضله، حسبما يشك البعض.
هنا تثار العديد من الأسئلة:
ما حقيقة أهداف الصدر الحقيقية؟
هل هو مجرد تابع للأجندة الإيرانية في العراق منفذًا لاستراتيجيتها، وورقة لها من
بين أوراق عديدة لديها في العراق؟
أم هو طامح لحكم العراق منفردًا ويتعاطى مع إيران سياسيًا باعتبارها اللاعب الأكبر
وصاحبة النفوذ الواسع على أرضه؟
وهذه الأسئلة يسبقها سؤال يتعلق بطبيعة شخص مقتدى الصدر وزعامته، وهل الحشود
الملتفة حوله والتي تأتمر به ترتبط بطبيعة شخصيته المتدينة كما يزعم؟ أم أن هناك
وسائل أخرى تجعل هؤلاء الناس يلتفون حوله؟
ولنبدأ بالعنصر الأخير وهو طبيعة شخصية مقتدى لأنه سيفسر لنا كثيرًا من الأمور التي
تحدث في العراق.
الصدر بين الالتزام الديني والانفلات
تشير كثير من الدلائل أن مقتدى الصدر شخص غير ملتزم بسمت رجال الدين الشيعة، أو حتى
التي يحاولون التظاهر بها.
تصف وكالة رويترز عن أشخاص التقوا بالصدر بعد الأزمة الأخيرة، بأن الصدر كان محبطاً
بشكل واضح بسبب تصاعد التوتر، بل إنه عاد للتدخين، وهي عادة قديمة كان قد أقلع عنها
ولم يمارسها قط في الأماكن العامة
حتى مرجعية الصدر في إيران والمفترض به أن يكون ما يعرف بأنه آية الله كاظم
الحائري، يحذر أثناء الأزمة الأخيرة للصدر دون أن يسميه، قائلاً: إن البعض قد يفتقر
إلى المؤهلات الدينية اللازمة، وكأنه يطالب أتباعه بالانفضاض من حوله.
ومما يدل على أنه يقصد مقتدى الصدر بكلامه، هو رد الصدر نفسه على الحائري، ففي
تغريدة له على حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي تويتر: يظن الكثيرون بمن فيهم
السيد الحائري أن هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم، كلا، إن ذلك بفضل ربي أولاً
ومن فضل والدي محمد صادق الصدر الذي لم يتخل عن العراق وشعبه.
ولكن مدير مكتب المرجع الحائري، كاظم العبادي صرح، إن بيان الحائري لم يكن لمهاجمة
الصدر، لأن الأخير لا يزال يتبع الحائري وفقاً لوصية والده المرجع الراحل محمد محمد
صادق الصدر.
وتشرح مجلة ناشيونال إنترست الأمريكية في تقرير لها منذ أسبوعين طبيعة شخصية الصدر
والتزامه الديني، تقول: إن مقتدى لم يرث من هذه العائلة المعروفة بورعها سوى الاسم.
كان الصدر خطيبًا موهوبًا، لكنه اعتبر مقارنة بأقرانه ضعيفًا في علم اللاهوت. وقد
شطبه والده قبل وفاته بوقت طويل من سجل العائلة.
وتذكر المجلة الأمريكية، أن الصدر يصور نفسه كمدافع حقيقي عن السيادة العراقية، حتى
عندما باع البلاد لإيران المجاورة.. كما وجدت شعبويته أرضًا خصبة في الأحياء
الفقيرة في بغداد، واكتسب قوة سياسية نافذة. حتى عندما احتقرته الحوزة، شاركه
السياسيون العراقيون. ورغم اختلاف فصيلهم، كان منطقهم متشابهًا: ألهم الصدر
الجماهير، لكنه لم يستطع السيطرة عليهم. وكان فصيله منقسمًا. وعن طريق تصنع
الاحترام، تمكن المنافسون من إخماد غروره بينما أبعدوا مؤيديه.
فالمجلة الأمريكية مترددة في الحكم على مقتدى الصدر، هل هو سياسي له طموح، أم هو
تاجر فاسد يجمع المال بأي وسيلة ويستخدم السياسة لهذا الغرض؟
ولكن كيف تنظر إيران إلى الصدر؟
الصدر في الاستراتيجية الإيرانية
قبل ما يقرب من 35 عامًا أذعن الخميني للهزيمة في الحرب العراقية الإيرانية التي
استمرت ثمانية أعوام وبعد مقتل ما يقرب من مليون إنسان من كلا الجانبين وقد قابل
الخميني الهزيمة بإعلانه أنه تجرع السم لإصداره أمرًا بإيقاف الحرب مجبرًا، ومات
الرجل في السنة التالية.
ولكن صبر نظام الآيات حتى مر 15 عامًا وتغيرت الظروف، وجاء الاحتلال الأمريكي
للعراق ولم يستطع السيطرة عليه فتركه للنفوذ الإيراني والهيمنة الشيعية.
رأت إيران في العراق ثلاثة أهداف كبرى: فهو بمثابة بوابة مهمة لتحقيق الحلم الفارسي
بإقامة إمبراطورية شيعية في العالم الإسلامي، والعراق يمثل عمق استراتيجي طبيعي
لإيران وخط دفاع أول ضد اجتياحها أو احتوائها ومحاولة تغيير نظامها، كما أنه أيضًا
ورقة ضغط على القوى الكبرى وخاصة أمريكا لكي تمرر هيمنتها على المنطقة.
اتبعت إيران استراتيجية للحفاظ على نفوذها في أرض الرافدين تتمثل في احتواء شيعة
العراق، سواء الشخصيات السياسية أو المرجعيات الدينية أو الحركات الشيعية المتنافسة
: ويسيطر على الشارع الشيعي في العراق عدة مرجعيات وتيارات أهمها : مرجعية علي
السيستاني، وتيار الصدر الذي يقوده مقتدى الصدر، و جماعة المجلس الأعلى للثورة
الإسلامية بزعامة آل الحكيم، وبدرجة أقل حزب الدعوة بفروعه المختلفة، وهناك تيار
آخر مدعوم من إيران يعمل بصمت داخل مدن الجنوب وبعيدا عن الضجة الإعلامية كما
يمارسها الآخرون وهو تيار المرجع (المدرِّسي) الذي يقود ما يعرف بمنظمة العمل
الإسلامي.
وسياسة الاحتواء الإيرانية تلك لكل فصيل وشخصية قيادية تبرز على الساحة لحصد أي
نجاح يحققه أي طرف شيعي. ويبقى التعامل مع هذا الفصيل أو ذاك مرتبطاً إلى حد بعيد
بالتداخلات المختلفة داخل الساحة الإيرانية والخلافات بين المحافظين والإصلاحيين،
وبقدرة هذا الفصيل على تحقيق الهدف الشيعي بهيمنتهم على أوضاع العراق. ولعل موقف
إيران من مقتدى الصدر وحركته يوضح لنا جانباً كبيراً من طبيعة الدور الذي تقوم به
إيران في احتواء الشيعة العراقيين؛ فهناك تياران داخل القيادة الإيرانية حول الموقف
من الصدر: الأول يدعم مقتدى الصدر، وهناك تيار آخر يرفض التعامل والتعاون مع مقتدى
الصدر إلى حد أن تم رفض استقباله لدى زيارته إلى طهران.
ولكن في النهاية تدرك القيادة أن الصدر لديه إمكانيات وخطاب قومي عراقي استطاع به
جذب قطاعات كبيرة من الشيعة، والتي تضررت من النفوذ الإيراني ورأت فيه خطرًا على
مصالحها في العراق.
ومن ثم فإن الاحتواء الايراني للصدر ومحاولة ضبطه بعد اختراق المخابرات الإيرانية
لجماعته، يمكنها من الحفاظ على نفوذها في العراق خاصة لدى الكتل العراقية الكارهة
والمتضررة من النفوذ الإيراني في أرض الرافدين.