يتركز الدعم الأوروبي للسلطة الفلسطينية ليس على تقوية نفوذها أو توسيعه أو دعم المفاوضات بين الطرفين، بل فقط إبقائها على قيد الحياة لأن الأوروبيين لديهم قناعات بأن انهيارها أصبح وشيكًا بسبب الصراعات الداخلية داخل منظمة التحرير وانتهاء تأثيرها السياسي، لا س
عقب حرب مايو 2021 التي شنها الجيش الصهيوني على قطاع غزة ونجحت المقاومة
الفلسطينية في ردع العدوان والصمود فيها، لاحظت القوى الغربية ممثلة بالولايات
المتحدة والكتلة الأوروبية تنامي شعبية المقاومة على حساب السلطة الفلسطينية التي
اعتاد الغرب دعمها والرهان عليها للحفاظ على مسار "السلام". هذا الحدث أجبر
الولايات المتحدة وأوروبا على النظر بقلق إزاء ضعف السلطة الفلسطينية التي تعد
الحصن الوحيد لمنع تصاعد المواجهات بين الفلسطينيين والاحتلال الصهيوني، لذلك خرجت
تصريحات داعمة للسلطة متجاهلة النهج الاستبدادي الذي تتبناه، والذي توجته بإلغاء
الرئيس الفلسطيني محمود عباس للانتخابات وقيام عناصر من جهاز الأمن الوقائي
الفلسطيني بقتل الناشط نزار بنات، وهذا الأمر يكشف وفقاً لما أكدته "مجموعة الأزمات
الدولية" أن الهدف من وجود السلطة الفلسطينية ليس ترسيخ الديمقراطية في الأراضي
الفلسطينية وحماية حقوق الإنسان بل منع التصعيد بين الفلسطينيين والصهاينة كاستحقاق
لا يمكن التنازل عنه أوروبياً للقبول بدفع المساعدات المالية لها.
تعتقد الكتلة الأوروبية أن انجراف السلطة في نهجها الاستبدادي وتجاهلها إقامة
انتخابات عامة منذ عام 2006 وعدم تنظيم انتخابات رئاسية كان يجب أن تنظم في 2009،
أمران يمكن القبول بهمها لاعتبار وحيد وهو أن البديل عن السلطة الفلسطينية سيكون
تصاعد المقاومة الفلسطينية للاحتلال الصهيوني، ورغم أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس
حمَّل الأوروبيين المسؤولية عن إلغاء الانتخابات إلا أنه كان أكثر قناعة بأن حركة
فتح لن تستطيع تجاوز هذه الانتخابات.
كذلك فإن المتغيرات التي تشهدها المنطقة خصوصاً مع الاهتمام الأقل بالملف الفلسطيني
مقابل الأزمة التي تعيشها أوروبا بسبب الحرب الأوكرانية، جعل السلطة الفلسطينية
تواجه انهيارا حقيقياً لمجموعة من الأسباب أهمها موجة التطبيع الآخذة بالتمدد منذ
صعود الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى السلطة، كذلك سياسات الحكومة
الصهيونية تجاه الفلسطينيين في الضفة وعمليات الاعتقال والاستيطان والقتل التي تتم
بصورة يومية أسقطت شعبياً المسار السياسي الذي تنتهجه السلطة، بالإضافة إلى توقف
الدعم العربي والإسلامي للسلطة الفلسطينية وعدم قدرتها على الإيفاء بالتزاماتها
المالية. والسبب الأبرز والأهم هو ضعف الاجماع السياسي الصهيوني وعدم وجود استقرار
سياسي داخل الكيان وصعود اليمين على حساب اليسار، أدى إلى فقدان السلطة لشريك سياسي
كانت تراهن عليه في الضغط على الأوروبيين لدعمها خصوصاً مع تورط الدولة العبرية في
أزمة عميقة مع الروس بسبب الحرب الأوكرانية. لذلك ينظر إلى الرئيس الفلسطيني محمود
عباس على أنه دكتاتوري قمعي لا يمكنه النجاح في الحفاظ على استقرار السلطة
الفلسطينية خصوصاً مع المقاطعة العربية الرسمية له، لذلك يتركز الدعم الأوروبي
للسلطة الفلسطينية ليس على تقوية نفوذها أو توسيعه أو دعم المفاوضات بين الطرفين،
بل فقط إبقائها على قيد الحياة لأن الأوروبيين لديهم قناعات بأن انهيارها أصبح
وشيكًا بسبب الصراعات الداخلية داخل منظمة التحرير وانتهاء تأثيرها السياسي، لا
سيما مع تصاعد الصراعات داخلها.
فقبل فترة أصدر الرئيس الفلسطيني قراراً بإقالة القيادي في حركة فتح توفيق الطيراوي
من رئاسة مجلس أمناء جامعة الاستقلال الأمنية، على خلفية تسريب صوتي للطيراوي يهاجم
فيه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطيني حسين الشيخ، وأهم عراب
للتنسيق الأمني مع الجيش الصهيوني، وتم سحب الحراسة الأمنية من محيط منزل الطيراوي.
وكان الرئيس عباس أقال الطيراوي من رئاسة جهاز الاستخبارات العامة في 2008 بعد نحو
عام ونصف العام على تعيينه قبل أن ينتخب في عضوية اللجنة المركزية لحركة "فتح".
وتختص جامعة الاستقلال بالتعليم العالي في العلوم الأمنية والعسكرية والشرطية،
وتشكل الرافد الأساس للأجهزة الأمنية الفلسطينية. ويعد الشيخ أحد أهم المقربين
لمحمود عباس وينظر إليه على أنه أحد خلفائه المحتملين.
لذلك تتناقض السياسيات الأوروبية في المنطقة بحسب المصالح والمنافع، فالخوف من
المجهول الذي سيأتي بعد انهيار السلطة هو أهم محرك لبقاء الدعم للسلطة الفلسطينية
رغم نهجها القمعي، لذلك تركز الكتلة الغربية على بقائها على قيد الحياة والحفاظ على
الدور الأمني الذي تقوم به في الضفة المحتلة. يقول أحد المسؤولين الأوروبيين: إن
إصلاح السلطة من الداخل سيؤدي إلى انهيارها وهذه خسارة لا نستطيع تحملها اليوم.
كذلك فإن ازدواجية المعايير التي يمارسها الغرب تتطلب انعدام الجرأة في الطلب من
السلطة باتخاذ خطوات ملموسة لتثبيت أدوات الديمقراطية، لأنه لن يستطيع أن يملي على
الدولة العبرية تلك الإملاءات.
الأمر الآخر الذي أضعف التأثير الأوروبي على السلطة الفلسطينية هو الانقسامات
الداخلية التي يشهدها الاتحاد الأوروبي، وهي حالة أدت إلى عدم وجود إجماع أوروبي
بالنسبة للملف الفلسطيني، وهذا الأمر أسس لسياسات تركز على إرضاء الاحتلال الصهيوني
على حساب الفلسطينيين، لذلك في عام 2018 خفض البرلمان الأوروبي التمويل المقدم
للسلطة الفلسطينية بذريعة وجود فساد داخل مؤسسات السلطة، فبعض الدول الأوربية مثل
فرنسا وإيرلندا تخشى من أن فتح ملف الفساد الداخل السلطة الفلسطينية قد يؤدي إلى
انهيارها.
لذلك خلال زيارة فلسطين المحتلة في يونيو الماضي، أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية
أورسولا فون دير لاين استئناف تمويل الاتحاد الأوروبي لعام 2021 (214 مليون يورو).
وهذا الأمر يدفع إلى القول إن الاتحاد الأوروبي يستخدم المال كأداة لدعم العلاقة
الثنائية بين الدولة العبرية والاحتلال، وبدلاً من دعم حل الدولتين اتجهت بروكسيل
إلى تبني نهج موازٍ لاتفاقات التطبيع يتعلق بالضغط على السلطة لتغيير المناهج
الدراسية وكذلك تغيير بعض القوانين الخاصة بالأسرة في مسار هدفه إلغاء الهوية
الدينية للمجتمع الفلسطيني ودفعه باتجاه التطبيع. من جانبها تنظر قيادة السلطة إلى
الدعم الأوروبي المقدم لها على أنه مقرون بخدمة والتزام السياسي في إطار "أوسلو".