نجح حفتر في جذب باشا أغا وزير الداخلية في حكومة السراج السابقة ومنسق المدافعين عن العاصمة من هجوم حفتر، فاستغل تطلعه للسلطة ليقوم برلمان طبرق المسيطر عليه من قبل حفتر بانتخاب باشا أغا رئيسا لحكومة جديدة
منذ منتصف ليل أمس وتدوي اشتباكات عنيفة في شوارع طرابلس، والتي أسفرت في آخر تحديث
عن سقوط 23 قتيلا و140 جريحا بحسب وزارة الصحة الليبية، وقد يرتفع العدد نظرا لوجود
إصابات حرجة في حالة الخطر.
كما توقفت الحياة في شوارع العاصمة الليبية، وأعلنت وزارة التعليم الليبية توقف
الامتحانات والدراسة في المدارس وللجامعات، مما يشير إلى أن المسئولين الليبيين
يتوقعون استمرار القتال لفترة طويلة من الوقت.
هذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها اقتتال بين الجماعات المسلحة في طرابلس، فقد
خاضت هذه الميليشيات أو الجماعات العسكرية قتالا لمرات عديدة، ولكن كانت تنتهي في
المرات السابقة في فترة وجيزة، ولكن شكل هذا القتال هذه المرة غير ما سبق في عدة
أمور: استمرار القتال لمدة طويلة ويبدو أنه سيمتد لعدة أيام، كما أسفر القتال هذه
المرة عن أعداد الضحايا من الجرحى والقتلى يفوق كل جولة سابقة، ويمتد القتال أيضا
على مساحة كبيرة تمتد عبر عدة أحياء في طرابلس.
ولكن الاختلاف الأكبر أن ما حدث في هذا الصراع الجديد ليس ناتجا عن حادث أو عراك
فردي بين مقاتلين من الجماعات سرعان ما يتم تداركه بين القيادات بعد تدخل
السياسيين، بل لأول مرة ينتج عن الاقتتال بين الميليشيات الطرابلسية، أن تتعرض
المدينة لغزو تحرك على ثلاثة محاور نحو قلب العاصمة، فعلى المحور الجنوبي، اقتربت
القوات التابعة لأسامة الجويلي التي حاولت السيطرة على مطار طرابلس الدولي ومحيطه،
فيما تحركت قوات تابعة لسالم الجحا من مدينة مصراتة إلى مدينة زليتن، ثم إلى طرابلس
عبر المحور الشرقي، فيما تسعى قوات علي بوزريبة ومعمر الضاوي إلى التقدم من جهة
الغرب وحتى جسر 17 جنزور وهذه القوات قادمة من مدينة الزاوية.
وتم إيقاف تلك المجموعات الغازية الثلاثة عن طريق المسيرات التركية والتي اشتركت
لأول مرة في مثل هذه الاشتباكات، كل هذه التطورات توحي أنه ثمة أمر تم ترتيبه بليل
ومخطط ليخدم هدفا أو أهداف لدى ذلك الطرف، وهذا ما سنحاول فك شفرته ورموزه.
الجماعات المسلحة في طرابلس
قبل سبر غور القتال الأخير في طرابلس ومعرفة خلفياته ودوافعه، يلزمنا معرفة أطرافه
وحقيقة تلك الجماعات التي تتواجد في طرابلس: متى نشأت؟ ومما تتكون وأعدادها
وتسليحها ومصادر تمويلها، وهل هي مجموعات لها أيديولوجية فكرية، وما هي ولاءها أو
بالأحرى من تمثل وتعبر عنه.
وعلى العموم يتفق كثير من الباحثين على أن الميلشيات سواء في طرابلس أو في أي مدينة
ليبية أخرى بعد الثورة الليبية عام 2011، يمكن تقسيمها على أسس ثلاث:
على أساس مناطقي وقبلي: حيث ظهرت مئات الميليشيات المسلحة التي تنسب لمختلف المدن
الليبي، ومجالس عسكرية محلية. هذه الميلشيات تستند إلى العصبية القبلية أو
المناطقية أو عرقية في تشكيلها.
على أساس إيديولوجي: وهي ميليشيات ذات توجهات إسلامية في معظمها سواء كانت سلفية،
إخوانية وجهادية.
على أساس يجمع بين المناطقية والايديولوجية: هذه الكتائب وهي كثيرة الحضور في
المشهد الليبي، حيث تجتمع الجماعات المسلحة على أساس فكري، ولكن داخل منطقة أو جهة
أو مدينة.
وعلى هذا المنهج يمكن تقسيم التجمعات المسلحة في طرابلس، التي تضم ما يقرب من 30
مجموعة مسلحة، وقد تسمت بعضها بأسماء رسمية عندما حاولت أجهزة الحكومة في طرابلس
ادماجها في الأجهزة الأمنية، ولكن واقع الحال أنها تظل ميليشيا وذراع لهذا الطرف
السياسي سواء داخل طرابلس أو خارجها حيث تعتمد عليه في مصادر تمويلها ودفع مرتبات
منتسبيها، وكمصدر أيضا للسلاح، ولكن ما لا يختلف عليه أحد أن هذه التجمعات العسكرية
المتنافسة قد صمدت أمام هجمات حفتر والفاجنر (المرتزقة الروس) على الأقل حتى جاء
التدخل التركي.
ويمكن اختصار المجموعات المسلحة في طرابلس الى أربع مجموعات رئيسة:
تعد مليشيا الردع أبرز مليشيات طرابلس، ولكن لم يرد ذكرها خلال الأحداث الأخيرة
وربما تكون قد ظلت محايدة، وهي مجموعة مسلحة يتراوح عدد أعضائها من بين 2000 و2500
فرد، وتحمل توجها سلفيا مدخليا. وتتولى مهام أقرب إلى الشرطة ووحدات الأمن الداخلي،
وتتمركز بصورة أساسية وسط العاصمة حيث تسيطر على أكبر قاعدة عسكرية جوية بالمنطقة
الغربية وهي معيتيقة، بجانب منطقة سوق الجمعة، ويقودها الشيخ السلفي (عبد الرؤوف
كارة).
وقد تحول اسم تلك المليشيا إلى جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والتطرف، بعد أن
قام المجلس الرئاسي السابق برئاسة فايز السراج، بحلها وضم أفرادها إلى القوات
التابعة لوزارة الداخلية.
كما يأتي في مقدمة المليشيات ذات التأثير في طرابلس، ميليشيا النواصي المعروفة باسم
القوة الثامنة، ويصل تعداد أعضائها لنحو 1000 مقاتل، وتتمركز بشكل أساسي وسط
العاصمة، وهي مجموعات مسلحة تأخذ طابعا قبليا أو عائليا، حيث تتشكل بالأساس من
تحالف لثلاث عائلات كبيرة تقطن في منطقة سوق الجمعة شمالي عين زارة ومناطق الأبراج
السكنية الكبرى، وهي قدورة والزقوزي وأبو ذراع، وتشرف مليشيا النواصي على تأمين
مصارف طرابلس ومينائها وقاعدة أبو ستة البحرية، ويقودها مصطفى قدور الذي يشغل أيضا
منصب نائب رئيس جهاز المخابرات الليبية.
وقد جاءت الأنباء أن هذه الميليشيا قد تم استهدافها في معركة طرابلس الأخيرة، حيث
اعتبرتها التجمعات المسلحة الموالية لرئيس حكومة الوحدة الوطنية الدبيبة أنها
موالية لباشا أغا.
ومن أهم المجموعات المسلحة في طرابلس مجموعة عبد الغني الككلي الشهير بغينوة وقد
أطلقت عليها حكومة الدبيبة مؤخرا ما يعرف بجهاز دعم الاستقرار وهو جهاز أمني تأسس
بقرار من المجلس الرئاسي في يناير 2021، ومهمته حماية مؤسسات الدولة والمقرات
والمسئولين، ويتكون من تجمع 9 مليشيات، ويتولى رئاسته غنيوة، والذي يدعم رئيس حكومة
الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، وهو الذي على ما يبدو قد بدأ القتال الأخير،
فكان بمثابة رأس الحرب لمخطط الدبية الذي تم لتصفية ميليشيات طرابلس المناوئة
والمدعومة من باشا أغا.
وأما المجموعة المسلحة الرابعة فهي جماعة هيثم التاجوري، وكانت تعرف سابقا باسم
كتيبة ثوار طرابلس سابقا، وقد تم ضمها الى قوات دعم الاستقرار في وزارة الداخلية
الليبية تحت مسمى اللواء 777، ولكنها جاهرت بالولاء لباشا أغا، فكانت أول
المستهدفين بالهجوم الذي حدث في طرابلس.
الوضع السياسي المأزوم
بعد أن فشلت قوات حفتر المدعومة إماراتيا ومصريا وروسيا في الاستيلاء على طرابلس
وانهاء الثورة الليبية، وإعادة ليبيا مرة أخرى الى حكم ديكتاتوري شبيه بحكم القذافي
السابق، وتحقق ذلك الأمر بعاملين: التدخل التركي واستبسال المجموعات المسلحة
والمدافعة عن طرابلس، سارع حفتر وبتخطيط من الدول الراعية له الى انتهاك استراتيجية
جديدة تقوم على أساس إذا عجزت عن ضرب العدو من الخارج فاخترقه من الداخل.
ونجح حفتر في جذب باشا أغا وزير الداخلية في حكومة السراج السابقة ومنسق المدافعين
عن العاصمة من هجوم حفتر، فاستغل تطلعه للسلطة ليقوم برلمان طبرق المسيطر عليه من
قبل حفتر بانتخاب باشا أغا رئيسا لحكومة جديدة، كما استغل حفتر باشا أغا ليكون مخلب
له للوصول الى بعض الميليشيات المتواجدة في طرابلس لتغير ولاءها بالمال من الدبيبة
اليه، وهو ما نجح فيه باشا أغا فاستقطب مجموعتين وهما كتيبة النواصي ومجموعة هيثم
التاجوري، ليتم الاعداد لهجوم منسق مع قوات آتية من محاور ثلاثة من الشرق والغرب
والجنوب، أي من مصراته والزاوية والزنتان.
هذا بالنسبة لميليشيات طرابلس، وفي نفس الوقت الذي قامت الامارات والتي أرجعت
علاقتها بتركيا بالوساطة بين حفتر وتركيا، عبر إعطاءها مشروعات في الشرق الليبي
الذي يسيطر عليه حفتر، والحديث عن اعتراف الشرق الليبي باتفاقية الحدود البحرية
الموقعة بين السراج وتركيا والتي تمكن تركيا من الحصول على حصتها من غاز المتوسط.
ويبدو أن تركيا قد انتبهت لهذا المخطط، فمنذ عدة أيام زار نائب رئيس المخابرات
التركية طرابلس والتقى بقادة المجموعات المسلحة، وأصدر تحذيرا علنيا لأي مجموعات
مسلحة تحاول حل مشاكل ليبيا عن طريق السلاح.
ويبدو أن تركيا المعروفة باستراتيجيتها الاستباقية، لم تترك طرابلس للهجوم الخارجي
ذي الثلاث محاور والمدعوم من الجماعات المسلحة الطرابلسية، بل استبقته بأن نسقت
هجوم الجماعات المسلحة التابعة لحكومة الوحدة الوطنية على نظيرتهالموالية لباشا
أغا، في حين قامت المسيرات التركية بمساعدة الكتائب الليبية الموالية للدبية في وقف
تقدم القوات الآتية من خارج طرابلس والموالية لباشا أغا، وكالعادة دخلت قناة
الجزيرة على الخط كطرف داعم اعلامي، فقامت بتغطية لحظية مباشرة للأحداث طوال يوم
الهجوم، والتي كانت على ما يبدو على علم بهذا الهجوم المنسق.
وعلى الأرض يبدو أن الأمور تشير الى نجاح الخطة التركية والتي تمكنت فيها حكومة
الدبيبة من تصفية المجموعات المسلحة داخل طرابلس الموالية لباشا أغا، ووقف التقدم
الخارجي نحوها.
ولكن يظل السؤال مطروحا متى يترك الخارج الليبيين ليقرروا مصيرهم بأنفسهم؟