بعودة روسيا للدين بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الشيوعي، عادت روسيا مرة أخرى ليرتكز صعودها العالمي على وضعها الأرثوذكسي الجيوسياسي.
وعمد بوتين إلى تجذير الدين الأرثوذكسي في نفسية الروس ليعود لهم الدور الحضاري كما يتخيله دوغين.
"هناك حملة صليبية لاستعادة الأراضي الأرثوذكسية المقدسة من الهراطقة الغربيين"
هذا ما تذهب إليه المؤرخة الأمريكية البارزة ديانا باتلر باس، المختصة بتأريخ
المسيحية في مقال نشرته قبل أيام تصف به الغزو الروسي لأوكرانيا.
وتؤكد المؤرخة الأمريكية، إن هذه الحرب ليست إلا فصلاً جديداً من حكاية قديمة،
ستكون نهايتها السعيدة من وجهة نظر بوتين، الاحتفال بقداس الفصح في كييف.
وما تقوله المؤرخة الأمريكية يلقي الضوء على بعد وهدف من أهداف الحرب الجارية الآن
في أوكرانيا، وهو الدافع الديني من ذلك القتال.
وتتعدد المشاهد التي تحمل طابع الصراع الديني في الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا
والصادرة من كل من طرفي الحرب، ولا يتسع المقال لإحصائها كلها ولكن سنأخذ بعض
المشاهد.
فقد انتشرت على الشبكات الاجتماعية صورة محورة ساخرة تبدو فيها مريم المجدلية، وهي
قديسة رمزية في الكنيسة الأرثوذكسية تحمل قاذفة أحد الصواريخ من طراز جافلين
الأمريكية والتي اشتهر بها الجنود أوكرانيين الذين يحملون هذا الطراز على أكتافهم
تحت هالة بالأصفر والأزرق وهما لونا علم أوكرانيا، وأطلق على الصورة الرمزية تلك
القديسة جافلين، وسرعان ما جمعت هذه الصورة ملايين الدولارات التي أرسلت لدعم
القتال ضد الروس في أوكرانيا.
وهناك صور عديدة لدبابات روسية في أوكرانيا ترفع صورة ما يزعمون أنه المسيح.
بينما يظهر في أحد المشاهد والتي تتعمد القيادة الروسية نشره، ويظهر فيه الرئيس
الروسي فلاديمير بوتين في أول يوم من الغزو الروسي، وهو يغتسل في بركة مياه مقدسة
وحوله القساوسة الروس يباركونه، في إشارة تحمل الكثير من المعاني.
وقد شوهدت خلال العمليات الأخيرة في أوكرانيا تسجيلات لكنائس متنقلة، ترافق الوحدات
العسكرية الروسية، إذ يبارك كاهن الأسلحة أحياناً في ساحات القتال، ويقيم الصلاة مع
الجنود.
والكل يتساءل لماذا يحارب المسيحيون بعضهم البعض بالرغم من انتماء كلا الفريقين الى
المسيحية بل من نفس المذهب وهو المذهب الأرثوذكسي، ما جذور ذلك العداء؟ وما هي
امتداداته الحالية؟
ولكن لابد من معرفة في البداية كيف نشأ المذهب الأرثوذكسي في المسيحية؟
في القرن الخامس الميلادي حدث ما أطلق عليه تاريخيا الانشقاق الكبير بين الكنيستين
الشرقية والغربية بسبب مجمع خلقيدونيا (عام 451 ميلادية)، فأصبحت كنائس الشرق تحت
قيادة كنيسة الإسكندرية تُعرَف بالكنائس الأرثوذكسية، وكنائس الغرب تحت قيادة كنيسة
روما وسميت بالكنائس الكاثوليكية.
وفي القرن السادس عشر (سنة 1529) قام مارتن لوثر بثورة ضد الكنيسة الكاثوليكية أطلق
عليها ثورة الإصلاح. اعترض فيها على بعض التعاليم، وأطلقوا على أتباعه لقب المحتجين
(البروتستانت).
ولكن حتى داخل الكنيسة الأرثوذكسية لم تسلم هي أيضا من الانقسام، ففي القرن الحادي
عشر الميلادي انفصلت كنائس القسطنطينية واليونانية وشقيقاتها عن كنيسة الإسكندرية،
وأصبحت هي الأخرى تعرف بالكنيسة الأرثوذكسية.
فظهرت كنيسة الإسكندرية والتي يتبعها ما عرفوا لاحقا باسم الأقباط في مصر وأثيوبيا،
كما ظهرت ما يعرف بالكنيسة الشرقية ومقرها القسطنطينية في الجزء الشرقي من
الامبراطورية الرومانية والناطق باليونانية، والذي استمر لاحقاً تحت اسم
الامبراطورية البيزنطية، وأطلق عليهم المسيحيون الروم الأرثوذوكس، وامتدت في شرق
أوروبا واليونان والقوقاز، بالإضافة لجاليات أصغر في المناطق البيزنطية السابقة في
الشام، ويوجد في مصر فرع لهذه الكنيسة لتضم الروم الأرثوذكس، وهم غير الأقباط
الأرثوذكس الذين يشكلون غالبية نصارى مصر.
والأرثوذكسية كلمة يونانية تعني الرأي الحق أو الرأي المستقيم، أما الكاثوليكية فهي
كلمة يونانية تعني عام أو عالمي أو جامعة لأنها جمعت كل الكنائس الغربية، أما مصطلح
البروتستانتية فمعناه الاحتجاج أو المعارضة.
وتختلف تلك الكنائس في نظرة كل منها تجاه بعض المسائل العقدية المتعلقة بالمسيح
والثالوث وغيرها.
اما الفرع الثاني للأرثوذكس والذي عرف بالكنيسة الشرقية والمتواجد في القسطنطينية
فقد أصابته أيضا حمى الانقسامات، وحين سقطت الإمبراطورية البيزنطية عام 1453م على
يد السلطان العثماني محمد الفاتح؛ انقسم العالم الأرثوذكسي إلى قسمين انطويا على
خلافات عميقة، القسم الأول منهما أصبح تحت سيطرة الدولة العثمانية، وهم أرثوذكس
اليونان والصرب والألبان والبلغار، ويقودهم بطريرك القسطنطينية، والقسم الثاني ظل
يتمتع بالاستقلال السياسي والعسكري في روسيا ومحيطها الجيوسياسي.
بموجب هذا الانقسام، أصبحت روسيا محصورة بين تكتلين معاديين لها؛ هما الكاثوليك
والأتراك المسلمون، وهذا الوضع جعل أشبه بمسؤولية تاريخية تلقى على كاهل القياصرة
الروس والكنيسة الروسية والشعب الروسي.
وعلى هذا الأساس يعتبر المفكر الروسي ألكسندر دوغين والذي يعتبره الغرب العقل
الاستراتيجي المفكر لبوتين، أن هناك معضلة في الجغرافيا السياسية الأرثوذكسية على
حد وصفه.
ويقول دوغين إن تشكل روسيا الجيوسياسي قام على أساس فريد بخلاف الأسس التي قامت
عليها الدول الأوروبية، فهي كما يقول: ليست دولة وحيدة الإثنية، وليست دولة-أمة.
فمنذ البدايات الأولى كانت صورة الدولة الإمبراطورية كامنة، بداية من توحد القبائل
السلافية-الأوغرية-الفنلندية، وحتى في ظل الاتحاد السوفيتي، كان الشعب الروسي سائرا
دون توقف نحو بناء الإمبراطورية والتوسع الحضاري، وأنه لم يكن على الإطلاق توسعا
مصلحيا يسيره السعي وراء المستعمرات أو الصراع المرضي في سبيل المجال الحيوي، فلا
الافتقار إلى هذا المجال الحيوي، ولا الضرورة الاقتصادية هي ما دفع الشعب الروسي
إلى توسيع حدوده شيئا فشيئا نحو الشرق والجنوب والشمال والغرب.
فما الذي جعل روسيا تتوسع إذن أو بعبارة أخرى، كيف نفهم المعنى الحضاري الذي سعت
ولا تزال تسعى روسيا إلى تحقيقه؟
يعود دوغين ليجيب فيقول إن توسع الروس بوصفهم حاملي رسالة خاصة شكَل التمهيد
الجيوسياسي لتوحد الأراضي هائلة المساحات في الأوراسية القارية، وأن حتمية التكامل
السياسي للأراضي الأوراسية هي ما يمنح التوسع الروسي معنى مستقلا تماما، ويجعلهم
يشعرون بالمسؤولية أمام هذه الأراضي.
ولم يكن دوغين الروسي من قال ذلك فقط، فقد اعتبر عالم الجغرافية السياسية الأشهر
البريطاني هالفورد ماكيندر روسيا الدولة التي ترث رسالة روما الجيوسياسية،
وإمبراطورية الإسكندر الأكبر، وجنكيز خان في الوقت نفسه.
وبعودة روسيا للدين بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الشيوعي، عادت روسيا مرة أخرى
ليرتكز صعودها العالمي على وضعها الأرثوذكسي الجيوسياسي.
وعمد بوتين إلى تجذير الدين الأرثوذكسي في نفسية الروس ليعود لهم الدور الحضاري كما
يتخيله دوغين.
ففي فبراير من عام 2012 نشرت العديد من وكالات الأنباء الروسية والعالمية خبرا بأن
بوتين وعد خلال لقائه مع قادة الكنيسة الأرثوذكسية بالدفاع عن المسيحيين الذين
يتعرضون للظلم في كل أنحاء العالم، وجعل هذا من مهام السياسة الخارجية الروسية. كما
أكد بوتين في لقاء آخر مع قادة الكنائس المحلية في 2013 أن العلاقة بين الدولة
والكنيسة بلغت مستويات متقدمة، وقال: علينا أن نعمل كشركاء حقيقيين لمعالجة القضايا
الداخلية والدولية الأكثر إلحاحا وتطوير مبادرات مشتركة لصالح وطننا وشعبنا.
ويكاد يجمع المراقبون على أن أحد العوامل الممهدة للغزو الروسي الراهن لأوكرانيا،
كان انفصال الكنيسة الأوكرانية عن الكنيسة الروسية عام 2018، إذ كانت جزءاً منها
منذ عام 1686.
وعند إعلان الانفصال قبل سنوات، وصفه الرئيس الأوكراني السابق بترو بوروشينكو بأنه
انتصار للشعب المؤمن في أوكرانيا على شياطين موسكو. فيما لام بوتين السياسيين
الأوكرانيين على التدخل في شؤون الكنيسة، وأكد على حق بلاده في حماية حرية العبادة.
ويؤكد على هذا المعنى الكاتب مايكل خوداركوفسكي في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية
موضحا، إن إعلان الكنيسة الأوكرانية انفصالها عن الكنيسة الروسية، شكل ضربة خطيرة
لطموحات بوتين والكنيسة الروسية على مستويات عدة، إذ يمثل الأوكرانيون الأرثوذكس 30
بالمئة من مجمل المسيحيين التابعين لبطريرك موسكو. ويعني الانفصال، خسارة ملايين
الأتباع، وملايين الدولارات من أملاك الكنيسة.
وهذا ما رصدته أيضا دورية فورين أفير الأمريكية، في مقال تحليلي وضعته تحت عنوان
"المزيج الروسي المنذر بالخطر يجمع بين الدين والأسلحة النووية".
وتؤكد فورين أفير على أن بوتين يمزج بشكل مستمر التهديدات النووية بالخطاب الديني.
وترصد الدورية تعاظم دور الكنيسة الأرثوذكسية الروسية إلى حد كبير، في الهوية
الروسية والسياسات الداخلية والأمن القومي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
وتقول إن بوتين أدخل النزعة المحافظة الدينية في الأيديولوجية القومية لروسيا
واستخدم القياسات الدينية لمناقشة القضايا الأمنية. لقد صاغ هذه الحرب من منظور
تاريخي يفوق حدود الخيال. كما تظهر الصلة بين الدولة والكنيسة في روسيا بدرجة أوضح
في الجيش، لاسيما داخل مجمع الأسلحة النووية على حد تعبير المقال.
هكذا يلعب الدين دورا أساسيا في الصراع الدولي، بينما العلمانيون في منطقتنا يريدون
ابعاد الإسلام عن أي دور سياسي له ليظل المسلمون في ذيل القافلة.