قد شنت الولايات المتحدة طوال عشرين عاما في أفغانستان حربا موازية لحربها العسكرية، أطلقت عليها حرب الأفكار، أي فرض نموذجها الفكري على الشعب الأفغاني
"مشروع دمقرطة الشرق الأوسط انهزم في أفغانستان"
هذا ما ذكرته وكالة الأنباء سبوتنيك الروسية
في تحليل لها على تداعيات الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وتأثيره على العالم.
وأضافت وكالة الأنباء الروسية إن دمقرطة الشرق الأوسط باعتبارها أساس أيديولوجي
للتدخلات السياسية، والاستخباراتية، والعسكرية لأميركا وأوروبا في المنطقة
وباعتبارها غطاء للمصالح الاقتصادية والجيوسياسية الأميركية، قد انهزمت في
أفغانستان.
ولكن ما حقيقة المشروع الأمريكي العالمي للديمقراطية؟ وما هي عناصره وأبعاده؟
وكيف أسقطه الأفغان؟
لكي نفهم من أين أتى هذا المشروع الأمريكي فيلزم تتبع جذوره التاريخية:
فقد مرت السياسة الأمريكية تجاه العالم بعدة مراحل، رسمت فيها عدة قواعد كانت علامة
مميزة لكل حقبة أو مرحلة تاريخية:
كانت البداية ما عرف في أدبيات السياسة الخارجية الأمريكية بمبدأ مونرو وأحيانا
أطلق عليه عقيدة مونرو، نسبة إلى الرئيس الأمريكي جيمس مونرو والذي وضع هذا المبدأ
معبرا عنه في خطابه السنوي أمام الكونغرس في عام 1823م.
استند مبدأ مونرو والذي صاغه وزير الخارجية الأمريكية حينها جون كوينسي آدمز على
فكرتين أساسيتين مزدوجتين: وقف الأطماع الأوروبية تجاه الأراضي المستكشفة في
الأميركتين، وفي نفس الوقت النأي بأمريكا عن مساندة أوروبا في حروبها ومشاكلها
العالمية.
كان هذا المبدأ يعني في حقيقته: العزلة عن المشاكل العالمية إلا ما يمس الأمن
القومي القريب.
ثم جاءت مبادئ ويلسون عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى، وهي عبارة عن 14 مبدأ
أرسلت من قبل الرئيس الأمريكي توماس ويلسون إلى الكونغرس في عام 1918، وعرفت أيضا
بوثيقة الاستقلال أو حق تقرير المصير للشعوب، ولكن هذه المبادئ كانت مثالية ولم
تأخذ شكل استراتيجية قابلة للتطبيق.
ثم جاء التدخل الأمريكي في العالم ومحاولة الاستحواذ أو تسيد النظام الدولي أثناء
الحرب العالمية الثانية، لتبدأ مرحلة دولية جديدة، هيمنت فيها الولايات المتحدة على
النظام الدولي، وأصبح نموذج الديمقراطية الأمريكية المثال الذي يجب أن ينتشر حتى لو
تطلب الأمر استخدام الآلة العسكرية.
تصاعد الخطاب الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية وتمحور حول نشر النموذج الأمريكي
باعتباره أعلى ما وصلت إليه الإنسانية وروجت الآلة الإعلامية الأمريكية الرهيبة
لتلك المزاعم.
ثم أتت الحرب على ما أطلقت عليه أمريكا مسمى الحرب على الإرهاب، وتبدل الرؤساء
الأمريكان وكل واحد منهم يزعم أنه يريد هزيمة الإرهاب الذي يمنع ويعادي القيم
الأمريكية من ديمقراطية وحربة وعدالة كما يزعمون، وانتهى المطاف بالرئيس الأمريكي
الحالي جو بايدن والذي أراد أن يكون مغايرا لسلفه الوقح الصريح ترامب، والذي كشف
الوجه الحقيقي للسياسة الأمريكية والتي تفتقر إلى المبادئ أساسا.. فماذا فعل بايدن؟
رفع بايدن مرة أخرى لواء أمريكا زعيمة العالم الحر، وأن الهدف الأساسي لها هو
الحفاظ على حقوق الانسان ونشر الديمقراطية، وقد أطلق البعض على ذلك مبدأ بايدن،
وملخصه عودة الارتباط بين الديمقراطية والسياسة الخارجية الأمريكية.
وتعهد بايدن أثناء حملته الانتخابية بإقامة مؤتمر عالمي لدعم الديمقراطية في
العالم، وقد تم الإعلان عنه بالفعل في الحادي عشر أغسطس الماضي، حيث أعلنت الإدارة
الأمريكية عن عقد قمة افتراضية حول الديمقراطية في 10 و11 ديسمبر القادم، وتستهدف
القمة كما تزعم أمريكا تعزيز ثلاثة مبادئ أساسية وهي: مكافحة الاستبداد، ومحاربة
الفساد، وتعزيز احترام حقوق الانسان حول العالم.
ولكن لم تمر سوى أربعة أيام بعد هذا الإعلان حتى فوجئ العالم كله بأن الانسحاب
الأمريكي من أفغانستان والذي شارف على الانتهاء، قد أسفر عن انهيار النظام
الديمقراطي المنشود لأفغانستان والذي عملت أمريكا على ترسيخه طوال عشرين عاما لتقدم
أنموذجا لديمقراطيتها ومشروعها في العالم، وانهار هذا كله عندما سارعت أكثر
الولايات الأفغانية وأهل الحل والعقد فيها لإعلان ولاءها لحركة طالبان، والتي دخلت
القصر الرئاسي في كابول وسط ذهول العالم.
كانت الصدمة عنيفة فما الذي حدث؟
لقد شنت الولايات المتحدة طوال عشرين عاما في أفغانستان حربا موازية لحربها
العسكرية، أطلقت عليها حرب الأفكار، أي فرض نموذجها الفكري على الشعب الأفغاني.
كان من بين مفردات حرب الأفكار تلك؛ ما قال عنه الكـاتب الأمريكي الشهير (توماس
فريدمان) إنشاء المدارس العلمانية. ويعـرف فريدمان مصطلح المدارس العلمانية بأنها:
تلك المدارس التي أقامها الأمريكيون في كل أفغانستان وباكستان. وكان ذلك عند حضـوره
حفل افتتاح لأحد رجال الأعمال الأمريكيين ويدعى (غريغ مورتنسون) لمدرسته لتعليم
الفتيات في قرية نائية في جبال هندوكوش في أفغانستان عام 2009، ويعلق فريدمان على
هذه المدرسة قائلا: أجـد لزاما علي أن أقول: إنني بعد مشاهدة البهجة على وجوه
الفتيات الأفغانيات الصغيرات اللاتي جلسن في انتظار الدرس أجد صعوبة في المطالبة
برحيل قواتنا من هناك.
ويربط فريدمان بين هذه المدارس والحرب على الأفكار فيقول بالنص: إن جهود مورتنستون
تذكرنا بماهية جوهر الحرب على الإرهاب، إنها حرب الأفكار داخل الإسلام، حرب بين
متشددين إسلاميين يمجدون الاستشهاد ويرغبون في عزل الإسلام عن المدنية والأديان
الأخرى وعدم تمكين النساء من تبوؤ مناصب، وبين من يرغبـون في اللحاق بركب الحـداثة
وانفتاح الإسلام على الأفكار الجديدة، ومنها مساواة المرأة بالرجل في تبوؤ المناصب
شأنها في ذلك شأن الرجل.
مع العلم بأن الاهتمام بهذا الأمر لم يقتصر على فريدمان بل إن الأمـر في الأساس
يتعلـق باهتمـام رسمي أمريكي بهذا الأمر، وبأنه مرتبط بنجاح الخطط العسكرية حتى أن
الجنرال (مايك مولن) رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي قطع مسافة نصف يوم
كي يصل إلى مدرسة مورتنستون الجديدة، ليقص شريط افتتاحها ووزع بنفسه الكراسات على
الطلاب في هذه المدرسة.
وينقل فريدمان عن مورتنستون السبب وراء تكريس حياته لبناء 131 مدرسة علمانية
للفتيات في باكستان و48 في أفغانستان فيقول: إذا أُنفِقَت النقود بصورة جيدة فهذه
المدارس ستخرج جيلا جديداً من الأولاد يحملون وجهة نظر أوسع عن العالم، ونحن نركز
على المناطق المحرومة من التعليم؛ فالمتشددون الدينيون ينشؤون في المناطق المنعزلة
ووسط مناطق الصراع وعندما تتعلم الفتاة وتصير أما ستصبح أقل رغبة في أن يصبح ابنها
مقاتلا أو متمردا، وستنجب أطفالا أقل، وعندما تتعلم البنت القراءة والكتابة يكون
أول ما تقوم به تعليم أمها القراءة والكتابة، ستحضر الفتيات إلى المنزل اللحم
والخضراوات ملفوفة في أوراق الصحف وسوف تطلب الأم من ابنتها قراءة الصحيفة لها
وستتعلم الأم عن السياسة والنساء اللاتي يتم استغلالهن.
ولكن ما نتائج معركة الأفكار تلك، وهل أثرت بالفعل على الشعب الأفغاني؟
في تقرير نشرته صحيفة الغارديان البريطانية نقلا عن تقرير وزعته المخابرات
الأمريكية سرا عام 2007م بعنوان (كيف تخسر الولايات المتحدة المعركة من أجل القلوب
والعقول؟)، كشف عن ردود أفعال القرويين الأفغان غير المتحمسين لمحاولات الجيش
الأمريكي بناء جسور الثقة معه لا أحد يريد أن يفعل أي شيء معنا، يقول واضع تقرير
المهمـة بحـزن، لكن قادته الأعلى كانوا يكتبون غير ذلك، ويتحدثون عن نجاحات منقطعة
النظير في التعاون مع الشعب الأفغاني اعتمادا على تجمعات خادعة كان ينظمها متعاقدون
محليون يقبضون كثيرا من المال مقابلها، بينما التقرير (الحقيقي) كان يصف زيارة
الجنـود الأمريكيين لقرية أفغانية نائية بأنها أشبه بالوقوع في كمين، فأبواب البيوت
ونوافذها أغلقت ولا أحد يقبل الحديث إلينا.
على ما يبدو فإن التقرير المخابراتي الأمريكي الذي نشرته الغارديان البريطانية
يتحدث عن منطقة القبائل التي يسكنها الباشتون الذين يمثلون ما يقرب من 65% من الشعب
الأفغاني وهم الأقل تأثرا بهذه المعركة، بينما في المناطق العرقية الأخرى كانوا
أكثر تأثرا بالأفكار الغربية نظرا لعداوة بعضهم مع طالبان وهذا ما تنقله وسائل
الإعلام الغربية، ولكن لا توجد أرقام أو استطلاعات توضح أثر حرب الأفكار تلك على
هذه المناطق.
إن ما قدمه الشعب الأفغاني للأمة الإسلامية ليس فقط بداية كسر شوكة الهجمة الغربية
العسكرية، ولكن الحيلولة دوت فرض أفكار الغرب على الأمة وتغيير هويتها وعقيدتها.