حين يعتلي سدة الحكم في باكستان شيعيا تتحول العلاقة إلى رباط حميمي، وحدث ذلك حين ترأس باكستان محمد علي جناح الشيعي في بداية تأسيس الدولة فربطته علاقات وطيدة بشاه إيران محمد رضا بهلوي، الذي ربطته علاقات جيدة أيضا مع رئيس الوزراء الباكستاني الأسبق ذو الفقار
"لا يجوز لأي قوة أجنبية أن تتدخل في شؤون أفغانستان"
هكذا هدد محمد خاتمي الرئيس الإيراني الأسبق باكستان، وأضاف إنه مع تشكيل وزراء
"العصابة الحاكمة" (يقصد حكومة طالبان)، أصبح من الواضح أن توقع تغير جوهري ومنهجي
من جانبهم (طالبان) غير موجود، وقال خاتمي أنه لدعم مقاومة أفغانستان وبنجشير، يجب
أن نصبح الصوت العالي للشعب الأفغاني.
وبحسب موقع "إيران إنترناشونال" وصف خاتمي صعود طالبان إلى السلطة بأنه كابوس آخر،
المهم هو دعم مقاومة الشعب الأفغاني التي نرى تباشيرها في بنجشير بوجود رجال ونساء
تقدميين يطالبون بحقهم، ... على المجتمع الدولي، وخاصة الطيبين الباحثين عن الحرية،
الوقوف إلى جانب الشعب الأفغاني وإجبار حكوماتهم على مراعاة مصلحة الشعب الأفغاني
في تعاملاتهم ومعادلاتهم السياسية.
وكتب محمد علي أبطحي نائب الرئيس الإيراني الأسبق أن المقاومة الوطنية الأفغانية
بحاجة إلى الدعم وليس الحرب، وأبطحي هذا هو الذي سبق وأن قال منذ عشرين عاما عندما
كان في منصبه التصريح الشهير لولا دعم إيران ما سقطت كابول وبغداد.
وبالتوازي مع هذه التصريحات نظم أفغان يقيمون في طهران تظاهرة أمام السفارة
الباكستانية في طهران، وأخرى أمام قنصليتها بمدينة مشهد شمال شرق إيران، احتجاجا
على دعم إسلام آباد لحركة طالبان، ورفع المحتجون صوراً لأحمد شاه مسعود وهتفوا
بشعارات مناهضة للحكومة الباكستانية واتهامها بدعم طالبان في معركتها الأخيرة
بولاية بنجشير.
أما على صعيد الموقف الرسمي والمعلن من النظام الإيراني فقد ندد في المؤتمر الصحفي
الأسبوعي لوزارة الخارجية الإيرانية، المتحدث باسم الوزارة سعيد خطيب زاده بضربات
الطائرات المسيرة والتي يعتقد بشكل واسع أنها قادمة من باكستان، وقال ردا على سؤال
أحد الصحفيين: هجمات بانجشير مدانة بشدة ويجب التحقيق في التدخل الأجنبي في الصراع
وأضاف أن بلاده تحقق في هذه الأنباء.
هذه ليست التهديدات الإيرانية الأولى لباكستان، ففي عام 2014 لوح النظام الإيراني
على لسان نائب القائد العام لقوات الحرس الثوري الإيراني حسین سلامي بقوله إن إيران
ستتدخل في باكستان لمواجهة المجموعات المعادية، في إشارة إلى جيش العدل السني، إن
لم تقم بضبط الحدود.
وقد خلفت الهجمات التي يشنها مسلحو جيش العدل في إقليم سيستان وبلوشستان المضطرب
والواقع بين إيران وباكستان في مصرع 8 حرس حدود إيرانيين، وكانت الحركة السنية
البلوشية قد تبنت مقتل 4 ضباط تابعين لشرطة الحدود الإيرانية في بلوشستان، ومحاولة
اغتيال أخرى ضد قائم مقام مدينة بيرانشهر المحاذية للحدود الباكستانية قبلها بأسبوع
تقريبا، وفي أعقاب تلك التهديدات عبر ما يقرب من 30 جنديا من القوات الأمنية
الإيرانية الحدود لملاحقة الجماعات المسلحة المناهضة لإيران، مما أدى لمقتل جندي من
قوات حرس الحدود الباكستانية، حينها تبادلت القوات الباكستانية والقوات الإيرانية
إطلاق قذائف الهاون على الحدود بين البلدين في إقليم بلوشستان، وصرح بعدها مسؤول
باكستاني إن الجانب الإيراني أطلق ست قذائف هاون سقطت قرب بلدة مشكايل الباكستانية
الحدودية مما أدى إلى مصرع أحد الجنود الباكستانيين، فردت القوات الباكستانية
بدورها.
ومنذ عامين في عام 2019، هدد رئيس أركان الجيش الإيراني اللواء محمد باقري بالتدخل
العسكري في باكستان لمواجهة ما وصفها بـ "جماعات إرهابية" تستهدف إيران، وكان ذلك
في أعقاب التفجير الذي استهدف عناصر الحرس الثوري حينها، وأسفر عن سقوط 27 قتيلا،
وتوعدت إيران بالانتقام من جميع المسؤولين عن الهجوم، واتهمت إيران باكستان بإنشاء
قواعد سرية وشبه سرية لجماعات عسكرية، وجري تدريبها وتجهيزها وتنظيمها بمساعدة
خليجية لخلق حالة من عدم الأمن والاستقرار داخل إيران على حد مزاعمه.
على ما يبدو فإن هناك توترا مباشرا بين باكستان وإيران وهو توتر متصاعد...
ولكن إلى أي مدى سيصل النزاع بينهما؟ ...هل هو أزمة عابرة أم هو صراع ممتد بين
البلدين؟
لمعرفة مستقبل التوتر الايراني الباكستاني يجب علينا في البداية إدراك محددات هذه
العلاقة تاريخيا وجغرافيا وديمغرافيا.
باكستان تمتد كمنطقة وسيطة بين الهضبة الإيرانية وشبه القارة الهندية، لذلك تمثل
باكستان بالنسبة لإيران المعبر لشبه القارة الهندية ولغرب آسيا عموما، ولكن النظرة
الباكستانية مرتابة في أنها واقعة بين فكي كماشة، أحدهما يمثل العدو التاريخي
لباكستان وهي الهند، أما فك الكماشة الآخر فهي إيران صاحبة المشروع الطائفي الرافضي
والذي يريد الهيمنة على العالم الإسلامي.
يبلغ طول الحدود الباكستانية الإيرانية ما يقرب من ألف كيلومتر، وبالتحديد 959
كيلومترا، وهذه الحدود تقع في منطقة صحراوية تفصل بين اقليمي بلوشستان في باكستان
وسيستان بلوشستان في إيران، ومنذ حوالي عام 2007، بدأت إيران في بناء حاجز حدودي
كبديل لسياج حدودي متقطع وممزق، ويمتد هذا الجدار الخرساني بسمك 3 أقدام (91.4 سم)
وارتفاعه 10 أقدام (3.05 م)، وهو محصن بقضبان فولاذية، على طول 700 كم من الحدود
الممتدة من تفتان إلى ماند، ويشمل المشروع إقامة سدود ترابية وحجرية كبيرة وخنادق
عميقة، مع العلم بأن المنطقة الحدودية مليئة بالفعل بأبراج المراقبة التابعة للشرطة
وحاميات القوات على غرار الحصون، وبالرغم من أن وزارة الخارجية الباكستانية قد سبق
وأن أصدرت بيانا قالت فيه إن باكستان ليس لديها تحفظ لأن إيران تبني السياج على
أراضيها، ولكن هذا الجدار يعكس بشكل كبير أجواء التوتر بين البلدين، كما أنه أثار
البلوش لأنه يكرس القطيعة بين شعوب البلوش على جانبي الحدود، حتى أن أحد زعماءهم
وهو كشكول علي طالب بوقف بناء الجدار على الفور، وناشد المجتمع الدولي مساعدة
البلوش.
تاريخيا ومنذ قيام باكستان تذبذبت العلاقات بين البلدين وسادتها الاضطراب، فحين
يعتلي سدة الحكم في باكستان شيعيا تتحول العلاقة إلى رباط حميمي، وحدث ذلك حين ترأس
باكستان محمد علي جناح الشيعي في بداية تأسيس الدولة فربطته علاقات وطيدة بشاه
إيران محمد رضا بهلوي، الذي ربطته علاقات جيدة أيضا مع رئيس الوزراء الباكستاني
الأسبق ذو الفقار على بوتو الشيعي.
ولكن مع سيطرة الضباط الباكستانيين على السلطة وتوجهاتها، فقد نحوا بالبلاد منحى
إسلاميا ليتجنبوا تفتيت البلاد تحت وطأة الصراعات العرقية بين أهل السند والبنجاب
والبلوش والبشتون، ومن الطبيعي حين تغلب المشاعر الإسلامية أن ينظر الناس إلى
الأطماع الدولية من حولهم بمقاييس عقدية، فتصاعد التوتر تدريجيا مع إيران خاصة مع
صعود الطائفية السياسية في الخطاب والتوجهات الإيرانية مع نجاح ثورة الآيات في
طهران.
ومع صعود نجم المخابرات الباكستانية واستخدامها للجماعات الجهادية كأداة للحفاظ على
الأمن القومي الباكستاني، كما ظهر بعد ذلك في أفغانستان وكشمير ثم أيضا في إيران
التي تحولت إلى خنجر وأداة سرية للتوجهات الهندية والأمريكية المعادية لباكستان
وقصقصة أجنحتها، والتي عبرت عن نفسها عمليا في مساندة إيران للتحالف الغربي الذي
ضرب أفغانستان وأسقط حكومة طالبان الموالية لباكستان، كما تساند إيران الجماعات
المسلحة في بلوشستان والتي تريد الانفصال عن باكستان.
ومن هنا بدأت باكستان في مساندة الجماعات السنية والتي تقاتل في جزء بلوشستان
الإيراني، ومن أهمها جيش العدل.
جيش العدل جماعة عرقية سنية من قبائل البلوش، والتي انطلقت في ولاية سيستان
بلوشستان الذي أهملته إيران لأسباب طائفية نظرا لغالبيته السنية ليصبح أحد أكثر
الأقاليم فقرا في إيران.
ويعتقد على نطاق واسع أن هذا التنظيم هو خليفة جماعة جند الله، وهي مجموعة مسلحة
إيرانية أخرى من البلوش، صنفتها الولايات المتحدة منظمة إرهابية في عام 2010.
وظهر تنظيم جند الله على الساحة حوالي عام 2003، وكان مسؤولا عن هجمات دموية ضد
أهداف حكومية إيرانية، من بينها محاولة اغتيال الرئيس السابق أحمدي نجاد، وكانت
أكبر هجمات التنظيم في 18 أكتوبر 2009 على مدينة بيشين الحدودية.
ولكن وبحسب تقرير لوكالة أسوشيتد برس الأمريكية، فإن جماعة العدل بدأت نشاطها ضد
النظام الإيراني بعد أشهر من إعدام عبد المالك ريغي زعيم حركة جند الله البلوشية في
يونيو 2010، بعد اعتقاله خلال محاولته السفر إلى قرغيزستان عبر إرغام الطائرة التي
كانت تقله على الهبوط في بندر عباس جنوبي إيران.
ولقد اتسعت أهداف جماعة جيش العدل وعدلت توجهاتها من توجهات عرقية خاصة بالبلوش إلى
توجهات مناصرة لقضية أهل السنة في إيران، حيث يقول بيان للحركة: "إنها تقاتل القوات
الإيرانية لاستعادة حقوق أهل السنة في البلد وتتهم السلطات الإيرانية بممارسة
مخططات طائفية في الإقليم وباقي المناطق التي يقطنها السنة."
ونظرا لمساندة باكستان لهذه الجماعة المؤثرة ولطالبان، تبدو العلاقات الباكستانية
الإيرانية مرشحة لمزيد من التصعيد.