يوم الأربعاء الماضي أجمل وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان المطالب الغربية حينما قال: إنه يتعين على حركة طالبان التي سيطرت على أفغانستان التقيد بخمسة شروط مسبقة، لكي يحظى نظامها باعتراف المجتمع الدولي
"إذا طبقت طالبان الشريعة الإسلامية فلن نمنح أفغانستان سنتا واحدا"
هذا ما أعلنه وزير الخارجية الألماني هايكو ماس لقناة تلفزيون زد.دي.إف الألمانية
وذلك في أعقاب سيطرة حركة طالبان على العاصمة كابول، وأضاف رئيس الدبلوماسية
الألمانية: "نقدم 430 مليون يورو (وهو ما يعادل 505 ملايين دولار) كل عام ولن نمنح
منها سنتا واحدا إذا سيطرت طالبان على البلاد وطبقت الشريعة الإسلامية".
هكذا وبكل صراحة ووضوح يعلن أحد أركان الحكم في ألمانيا، عدائه بل عداء أوروبا
والغرب كله لأي نظام إسلامي، يتم تطبيقه في بلد يريد شعبه أن يتحاكم إلى ما أنزل
الله لا ما تريده الحضارة الغربية، التي تظن نفسها أنها تقدم النموذج الأصلح
للبشرية والتي ينبغي لشعوب العالم أن تسير على هديها، حتى ولو خالفت هذه المنظومة
الغربية معتقدات وحضارة هذه الشعوب.
ولعل النموذج الأفغاني قد أبان مكنونة المخططات الغربية، وكشف عن الوجه الحقيقي
والذي حاول الغرب اخفاءه، أو الظهور بمظهر المتعاطف مع هذه الشعوب.
ولكن أمام الجهاد الأفغاني الذي قادته طالبان في أفغانستان، وأمام الآلة العسكرية
لأكثر من ثمان وثلاثين دولة مزودة بأحدث المعدات العسكرية، استطاعت طالبان الصمود
وألحقت بهذه الجحافل العسكرية هزيمة كبرى اعترفت بها أجهزة الاعلام والساسة
الغربيون أنفسهم.
هنا بدأت هذه الدول حتى لا تتحول الهزيمة العسكرية إلى هزيمة فكرية وحضارية، إلى
صياغة استراتيجيات جديدة تحول دون ظهور مشروع إسلامي على يد طالبان، يلهم القوى
الحية في العالم الإسلامي ليمتد من الأراضي الأفغانية ليبسط ويبزغ شمس الإسلام من
جديد، ويقلب الصراع الممتد بين الإسلام والغرب ويمتد به إلى وجهة أخرى مغايرة لما
تريده هذه القوى.
تركزت الاستراتيجيات الغربية تلك في ممارسة الضغوط على حكومة طالبان، لكيلا تنفرد
بالحكم في أفغانستان وتطبق مشروعها، وإدخال عناصر أفغانية موالية للغرب ومتأثرة
بمشروعه التي يزعم أنها الحضارة التي تحمل الخير للعالم في منظومة الحكم، فالغرب
يريد عدم انفراد طالبان لوحدها بالحكم بل اقتسام السلطة مع آخرين ممن يلتقون مع
الغرب فكريا أو استراتيجيا.
لهذا توالت التصريحات من قادة الغرب على اختلاف مشاربهم والتي أوردنا منها تصريحات
وزير الخارجية الألماني، ومنها أيضا ما قاله وزير الخارجية الروسي أمس حينما صرح:
مستعدون لدعم الحكومة الأفغانية المرتقبة إذا كانت تمثل طيفا واسعا من المجتمع بما
فيهم طالبان وجميع العرقيات من أوزبك وطاجيك وهزارة.
ولكن التصريح الأكثر وضوحا وتطرفا جاء على لسان يبي كوفود وزير الخارجية الدنماركي
الذي قال، إن بلاده لن تعترف بأي حكومة تشكلها حركة طالبان الأفغانية، وأضاف الوزير
في حديثه مع الإذاعة الدنماركية دي آر يوم الجمعة الماضي موضحا أن قادة بلاده
يشعرون بالقلق بشأن ضمان أن التقدم الذي أحرزناه على مدار عقدين من الجهود في
أفغانستان يمكن أن يستمر، وأوضح أن الأولوية الأكثر إلحاحا هي ضمان أن يتمكن كل شخص
مدرج بقائمة الإجلاء الدنماركية من مغادرة أفغانستان بترتيب جيد.
حتى إيران التي تواجه الغرب الآن وتصارعه ليعترف بدورها كلاعب رئيس في المنطقة دخلت
هذه اللعبة أو قل المسرحية، فقد جاء في تصريح المتحدث باسم الخارجية الإيرانية،
سعيد خطيب زادة قوله نتابع عن كثب التطورات في أفغانستان، ونحن على تواصل مع مختلف
أطراف الأزمة، مطالبا بتشكيل حكومة تضم جميع المكونات الأفغانية، وأشار خطيب زادة
إلى أنه لا توجد حلول عسكرية لازمة أفغانستان، لافتا إلى أن طهران تدعم الحوار
الأفغاني لتشكيل حكومة تضم جميع الأطراف.
ويوم الأربعاء الماضي أجمل وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان المطالب الغربية
حينما قال: إنه يتعين على حركة طالبان التي سيطرت على أفغانستان التقيد بخمسة شروط
مسبقة، لكي يحظى نظامها باعتراف المجتمع الدولي: فيتعين عليهم أولا أن يسمحوا بخروج
الأفغان الذين يريدون مغادرة هذا البلد لأنهم خائفون، ثانيا عليهم أن يحولوا دون أن
يصبح بلدهم ملاذا للإرهاب ويجب عليهم أن يثبتوا ذلك بشكل ملموس للغاية، وثالثا أن
يسمحوا بوصول المساعدات الإنسانية إلى الأراضي الأفغانية، ورابعا يجب عليهم أيضا أن
يحترموا الحقوق، ولا سيما حقوق المرأة، أما الشرط الخامس والأخير حسب لودريان فهو
أن يشكلوا حكومة انتقالية.
أما بالنسبة للولايات المتحدة فقد لخصت مطالبها بشرطين جاءا على لسان المتحدث باسم
وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس، للصحافيين غداة سقوط أفغانستان بأيدي الحركة،
حين ذكر إنّه في ما يتعلق بموقفنا من أي حكومة مقبلة في أفغانستان، فإنه رهن بسلوك
هذه الحكومة. إنه رهن بسلوك طالبان، وأضاف أن الولايات المتحدة تشترط للتعامل مع
الحكومة الأفغانية المقبلة أن تحافظ هذه الحكومة على الحقوق الأساسية لشعبها بمن
فيهم نصف شعبها أي الزوجات والبنات، وأن لا توفر ملاذا للإرهابيين.
وأمس لخص الرئيس الأمريكي بايدن في إجابة سريعة للصحفيين عندما سألوه عن الاعتراف
بطالبان بعد تشكيل الحكومة المؤقتة فقال: "الطريق بعيد إلى ذلك. الطريق بعيد".
اذن هذه هي شروط الغرب وإيران وروسيا للاعتراف بحكومة طالبان، فماذا كان الرد
الطالباني؟
وبأحرى ما هي استراتيجيات طالبان للتعامل مع هذا الوضع؟
تحاول طالبان في استراتيجيتها أن تظهر بوجه جديد أمام العالم بحيث تغير الصورة التي
كانت عليها في فترة حكمها الأولى قبل عشرين سنة، والتي رآها البعض بأنها كانت سياسة
متشددة داخليا سواء في اختيار الآراء الفقهية المختلف عليها وإلزام الناس بها أو في
عدم مراعاة حقيقة التمكين والتطبيق التدريجي الذي يراعي الظرف الداخلي والخارجي
المحيط.
لذلك تحاول طالبان اتباع استراتيجية إعلامية، تقوم على تغيير الصورة النمطية
المأخوذة عليها والظهور بمظهر المنفتح على التيارات الفكرية المختلفة، مع التأكيد
على التزامها بالشريعة الإسلامية، لذلك انتشر المتحدثين باسمها سواء ذبيح الله
مجاهد أو الدكتور محمد نعيم أو غيرهم يفندون الشائعات حول الحركة، والتأكيد أن
طالبان قد تغيرت وستعطي صورة أكثر انفتاحا سياسيا واجتماعيا ودينيا.
أما في المجال السياسي، فداخليا دخلت الحركة في مفاوضات مع ممثلي القوى السياسية
الأفغانية لتشكيل حكومة موسعة، ولكنها فضلت في النهاية الإعلان عن حكومة مؤقتة تحت
دعوى أن هذه كانت من بين الشروط الأوروبية الخمسة، ولكنها اقتصرت على زعماء الحركة
وقادتها وفي نفس الوقت حرصت على حصول قياداتها من الطوائف الأخرى غير الباشتون على
مناصب مؤثرةـ، مثل اسناد منصب نائب رئيس الوزراء لقيادي ينتمي إلى طالبان من
الأوزبك، كذلك قائد أركان الجيش الأفغاني من الطاجيك.
وفي مجال الضغوط الاقتصادية والحصار الدولي، فالحركة أدركت أن سيف الاعتراف المرفوع
في وجهها من قبل الغرب يعتمد على الحصار الاقتصادي ولا سيما أن الاقتصاد الأفغاني
يعاني التدمير.
ولكن الحركة تلوح بما لديها من موارد في باطن الأرض من ثروات تتمثل في ٦٠ مليون طن
نحاس، وما يقرب من ملياري طن من خام الحديد، بالإضافة إلى مليون ونصف طن من العناصر
النادرة كالذهب والفضة والزنك والزئبق والليثيوم تقدرها المصادر الأمريكية ب٩٠٨
مليار دولار، بينما تقدرها الحكومة الأفغانية السابقة بثلاثة تريليون دولار أي
ثلاثة ألاف مليار.
بالإضافة إلى هذه الثروات فهناك الجغرافيا الاستراتيجية لأفغانستان والتي تتحكم في
منطقة آسيا الوسطى حيث تتنافس الدول الكبرى على النفوذ والهيمنة فيها بدء من روسيا
والصين وأمريكا وتركيا وإيران.
وطالبان تدرك أهمية ذلك الموقع حتى أن المتحدث باسمها ذبيح الله مجاهد صرح بأنه
يطلب مشاركة أفغانستان في مبادرة حزام الطريق الصينية.
فطالبان تلوح للغرب بأنها في إمكانها أن تهمل الضغوط الغربية والمشروطة بالتعامل مع
الصين وباكستان وروسيا وتركيا، حيث أن هذه الدول تسعى للهيمنة سواء استراتيجيا أو
اقتصاديا.
ولكن استراتيجية طالبان تلك تواجهها صعوبات، أهمها أن هذه الدول (الصين وباكستان
وروسيا وتركيا) لديهم مصالح ضخمة مع الغرب وأمريكا ولا يريدون التضحية بهذه
المصالح، ولذلك سيحاولون الموازنة بين تعاملهم مع طالبان ولن يندفعوا في هذه الخطوة
كما تريده طالبان.
طالبان بعد أن أنهت معركتها العسكرية بصبر ونجاح أذهل العالم كله، قادرة بإذن الله
على الانتصار في المعركة الأصعب...معركة بناء الدولة والاعتراف الدولي.