هناك من يعتقد أن الانحياز الأمريكي لإسرائيل نابع من مصلحة أمريكية في علاقتها الخاصة بإسرائيل، ولا شك أنه يحقق لها مصالح كثيرة، ويبقي على أطماعها في المنطقة ولكن الدافع العقيدي له أثره وخطورته.
"هناك تحول جذري ومزلزل في الموقف الأمريكي"
هذا ما لاحظه الأمريكي ذو الأصول العربية جون زغبي، وهو مؤسس والرئيس التنفيذي
لشركة زغبي العالمية المشهورة باستطلاعات الرأي، ويضيف زغبي في تصريحات نقلتها هيئة
البي بي سي البريطانية: داخل الولايات المتحدة أصبح هناك تعاطف من الأجيال الأصغر
مع الفلسطينيين، وهذه الهوة العمرية أصبحت واضحة تماما داخل الحزب الديمقراطي.
وعند التأمل بالفعل في الموقف الأمريكي خلال العشرة أيام الحرب الدائرة في غزة، نجد
أنه قد جرت أربع مكالمات هاتفية بين نتانياهو وبايدن؛ قبل أن يعلن البيت الأبيض أن
الرئيس جو بايدن حث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على وقف التصعيد في
غزة، وتدرج موقف الرئيس بايدن، فخلال الأيام التسعة الأولى من العدوان وفي أول
مكالمتين أعطى بايدن إسرائيل دعما غير محدود، مما اعتبره المعلقون وقتا كافيا للجيش
الإسرائيلي لإحداث أكبر ضرر ممكن بالمقاومة، ولكن بدأ الموقف يتغير مع المكالمة
الثالثة حيث أعرب بايدن عن دعمه لوقف إطلاق النار وذلك دون أن يوضح آلياته، وتضمن
البيان كذلك تأكيدا على ما تراه إدارة بايدن حقا إسرائيليا في الدفاع عن نفسها، وفي
المكالمة الرابعة كان الطلب صريحا وكانت اللهجة أشد حزما بوقف التصعيد العسكري
الإسرائيلي تمهيدا لوقف اطلاق النار.
فهناك بالفعل تذبذب في لهجة البيت الأبيض ما بين التأييد لاستمرار العدوان على غزة
عبر الحديث عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وما بين الدعوة والضغط لوقف إطلاق
النار.
ولكن هل هذا يرقى إلى درجة تحول جذري ومزلزل لأمريكا تجاه إسرائيل كما يتحدث زغبي؟
يلزمنا للإجابة على هذا السؤال تحليل عنصرين هامين:
1.
دوافع العلاقات الأمريكية الإسرائيلية وهل هي مصلحية فقط أم لها دوافع أيديولوجية؟
2.
ما هو تأثير تغير الادارات الأمريكية المختلفة سواء كانت من الحزب الجمهوري أو
الديمقراطي على موقف الإدارة من هذه المواجهات؟
أولا/ دوافع العلاقات الأمريكية الإسرائيلية:
" إن الرؤساء الأمريكيين ومعاونيهم ينحنون أمام الصهاينة كما ينحني العابد أمام قبر
مقدّس"، لقد لخص الكاتب اليهودي الأمريكي جون بيتر بهذه الكلمات المعبرة عن واقع
أمريكا سابقاً ولاحقاً، ولعل الصور الملتقطة لمعظم الرؤساء الأمريكان وهم واقفون في
خشوع يصلون أمام ما يسميه اليهود بحائط المبكى في القدس، لأكبر دليل على صدق هذه
العبارة وعلى مدى العلاقة العقيدية بين اليهود والأمريكيين؛ خاصة أن هذه العلاقة
أضحت حلفاً غير مقدس ضد كل من يحاول المساس به.
وهناك من يعتقد أن الانحياز الأمريكي لإسرائيل نابع من مصلحة أمريكية في علاقتها
الخاصة بإسرائيل، ولا شك أنه يحقق لها مصالح كثيرة، ويبقي على أطماعها في المنطقة
ولكن الدافع العقيدي له أثره وخطورته.
فالعلاقة بين أمريكا وإسرائيل مستمدة من العلاقة بين البروتستانتية واليهودية؛ حيث
يستمد التراث الديني في أمريكا أصوله من المذهب البروتستانتي في إنجلترا؛ والذي نشأ
مع حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر في القرن السادس عشر ضد الكنيسة
الكاثوليكية في روما. إن أهمية الأفكار التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني
على يد لوثر تعود إلى أنها مهدت الطريق أمام الأفكار التي نادت بها الحركة
الصهيونية في القرن التاسع عشر، فهذه الأفكار التي أكدتها البروتستانتية لا تختلف
كثيراً عن اليهودية التي تنطوي في جوهرها على دعوة اليهود للعودة إلى صهيون؛ أي إلى
أرض إسرائيل بحدودها التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة لدى اليهود، وهكذا تحولت
فلسطين في الضمير البروتستانتي من الأرض المقدسة للنصارى إلى أرض الشعب المختار،
ومن الملاحظ أن بعض البروتستانت قد آمن بضرورة اعتناق اليهود للنصرانية تمهيداً
لقدوم المسيح، وآمن بعضهم بإمكان تحولهم هذا بعد قدومه، لذلك يعتقد الأمريكان أن
الله اختار العنصر الأنجلو سكسوني البروتستانتي الأبيض لقيادة العالم، كما جعل الله
اليهود شعبه المختار.
ثانيا/ تأثير مواقف الحزب الجمهوري أو الديمقراطي على الموقف الأمريكي:
تاريخيا كان الحزب الجمهوري يمثل بصفة عام اليمين الأمريكي، وازداد هذا التأثير في
العقدين الأخيرين حيث تمتعت التيارات الأصولية البروتستانتية بنفوذ كبير داخل الحزب
وبسبب تنظيمها فهي قادرة على ترجيح كفة الرؤساء في أي انتخابات إلى حد كبير، وهذه
التيارات كما تحدثنا سابقا هي مؤيدة عقيديا لإسرائيل فطبيعي أن نرى الجمهوريين
ينحازون إلى إسرائيل.
في المقابل نرى أن الحزب الديمقراطي تاريخيا كان ملاذا للأقليات في أمريكا
المعارضين لسيطرة البيض البروتستانت على المجتمع الأمريكي، واليهود كانوا من ضمن
هذه الأقليات المسيطرة على الحزب الديمقراطي فكان الحزب مؤيدا لإسرائيل، ولكن في
السنوات القليلة الماضية تصاعد دور الاتجاهات اليسارية الليبرالية داخل الحزب
الديمقراطي، بعد أن نظمت الأقليات العربية واللاتينية والليبرالية حركتها لتصبح قوة
فاعلة داخل الحزب خاصة بعد وصول ترامب إلى الرئاسة مستندا لليمين الأمريكي المتعصب،
وهؤلاء يريدون أن تأخذ أمريكا موقفا أكثر اتزانا وعدلا بين الطرفين الفلسطيني
والإسرائيلي ويرون ذلك من زاوية نظر حركة الحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية
الأميركية.
لقد تصاعد انتقادات التيار اليساري في الحزب الديمقراطي لانحياز إدارة بايدن إلى
إسرائيل ضد الفلسطينيين، وهو ما أنذر بحدوث انقسام في الأغلبية الضئيلة للحزب في
مجلسي النواب والشيوخ على نحو قد يعطل أجندة بايدن الأخرى؛ إذ يملك الديمقراطيون
أغلبية 6 أصوات فقط في مجلس النواب، في حين يقتسمون مقاعد مجلس الشيوخ مناصفة مع
الحزب الجمهوري.
وكشف استطلاع رأي أجري مؤخرا أن 38.5 في المئة من الديمقراطيين يحملون إسرائيل
مسؤولية التصعيد الأخير، مقابل 15.5 في المئة يلومون حماس، علما أن 27.4 في المئة
من الأميركيين عموما يحملون إسرائيل مسؤولية التصعيد، بينما تنخفض النسبة إلى 12.5
في المئة فقط يرى فيها الجمهوريون ذلك.
وصعد النواب الديمقراطيون ضغطهم على الرئيس لدرجة أن وقع أكثر من عشرين عضوا
ديمقراطيا في مجلس الشيوخ، بيانا دعوا فيه إلى وقف إطلاق النار، ولكن لا تزال توجد
أغلبية مؤيدة لإسرائيل داخل الحزب الديمقراطي وأقلية ولكنها مؤثرة ومتزايدة وغاضبة
ضد اسرائيل.
الآن بالنظرة إلى الكونغرس كمقياس لتحديد هذا التغير في الموقف الأمريكي، نجد أن
السيناتور الديمقراطي البارز بوب مينيندز عضو مجلس الشيوخ الأمريكي عن الحزب
الديمقراطي لمقاطعة نيوجيرسي، والذي يعد من أبرز النواب المؤيدين والمدافعين بشدة
عن إسرائيل، انتقد علانية الاعتداءات الإسرائيلية في قطاع غزة، وأيضا السيناتور شاك
شومر زعيم كتلة الأغلبية بمجلس الشيوخ وواحد من أبرز المدافعين التاريخيين عن
إسرائيل يصرح علانية بضرورة وقف إطلاق النار من قبل أن يدعو الرئيس جو بايدن لذلك.
ولكن الانطباع النهائي عن الموقف الأمريكي أن بايدن قد أعطى لإسرائيل فرصة زمنية
لضرب حماس والمقاومة الفلسطينية وتحقيق الأهداف الإسرائيلية بتحييد سلاح المقاومة
وضرب أنفاقها واغتيال القيادات
حتى أنه عرقل اتجاهات دولية أرادت العمل على وقف إطلاق النار.
وعندما لم تحقق إسرائيل النتيجة المرجوة وبدأت بالقصف العشوائي للمدنيين، حتى قصف
البرج الذي يحوي المكاتب الإعلامية الأجنبية ومنها مكاتب أمريكية في مشهد
دراماتيكي، لم يستطع حينها بايدن تحمل مزيدا من الضغوط داخل حزبه فضغط بشدة ومن
وراء الكواليس على نتانياهو لكي يوقف المعركة التي بدت خاسرة للكيان الصهيوني.
يعني أن موقف بايدن المؤيد ثم المعارض ينبع من حقيقتين:
الأولى انقاذ إسرائيل من موقف بدت فيه عاجزة عن تحقيق أهدافها بتحطيم المقاومة،
واستمرار المعركة يلحق الضرر بإسرائيل.
أما الحقيقة الثانية فهو الضغوط المتوالية من جانب المعارضين للحرب داخل الحزب
الديمقراطي وبالرغم من أنهم قلة ولكنهم قد يؤثرون على تمرير أجندته داخل الكونجرس
والذي يتمتع فيه الحزب بغالبية ضئيلة.