حافظت السلطة الفلسطينية على نفسها في نفس المستنقع الذي يرفضه كل فلسطيني، وهو الإستمرار في تعزيز الإنقسام ومحاصرة غزة وفرض نظرية المحاصصة على أموال الإعمار.
لم تكن الأمور في الأراضي الفلسطينية المحتلة واضحة لمن يتابع الأحداث أكثر من
الفترة الراهنة، فالصمت المطبق الذي أظهره رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس،
أثناء العدوان على القدس المحتلة وقطاع غزة أظهر أنه لا يمثل إلا نفسه، فقد بدأت
التصريحات من مسؤولي السلطة الفلسطينية تخرج عقب إنتهاء الحرب مطالبة بأن يتم إعمار
غزة من بوابتها، والغريب في الأمر أن هذه التصريحات جاءت متوافقة مع مطالب حملها
رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، أفيف كوخافي، إلى المخابرات العامة المصرية التي
تتوسط في المفاوضات بين الفصائل الفلسطينية في غزة وبين دولة الإحتلال. يعتقد الجيش
الإسرائيلي أن الأموال التي كان يحملها شهرياً السفير القطري في فلسطين، محمد
العمادي، إلى قطاع غزة، كانت حماس تستخدمها لتطوير صواريخها وطائراتها المسيرة،
لذلك وفقاً لقرارات "الكابينيت" الأخيرة يجب أن يتم استبدال الدور القطري بآخر مصري
فلسطيني تمثله السلطة الفلسطينية، وهو الأمر الذي رفضته الفصائل في غزة.
الضربة الأخيرة التي تلقتها تل ابيب، أظهرت جيداً أن القوة هي التي ينصت إليها
العالم، فبعد عقود من المفاوضات التي لم تسفر عن أي تقدم سوى إعطاء الإحتلال
الشرعية والوقت الكافي لتنفيذ مخططاته الإستيطانية، والتجاهل التام للسلطة
الفلسطينية في الضفة، أصبحت الحكومة الصهيونية والولايات المتحدة والمنظومة التي
تدعم هذا الكيان تطالب بالجلوس مع حماس للتفاوض بشأن المرحلة المقبلة واعتبر ذلك
ضربة قاسية للرئيس محمود عباس الذي لطالما حاول التقرب من الحكومة الإسرائيلية عبر
سياسات أمنية تمنع المقاومة المسلحة في الضفة المحتلة قابلها رئيس وزراء الإحتلال،
بنيامين نتنياهو، بالمزيد من الضغوط على سكان القدس والضفة. الحالة التي أوجدتها
المقاومة المسلحة هي تسليط الضوء على الدور السلبي الذي تقوم به السلطة الفلسطينية
ممثلة بمحمود عباس، فبدلاً من التصدر للمشهد السياسي والقيام بمبادرة لتخفيف العبء
عن سكان قطاع غزة أو حتى إعادة مستحقات ذوي الأسرى وعائلات الشهداء وتمثيل الشعب
الفلسطيني في هذه الأزمة التي تعد فرصة كبيرة شهدها العالم لنيل حريته، حافظت
السلطة الفلسطينية على نفسها في نفس المستنقع الذي يرفضه كل فلسطيني، وهو الإستمرار
في تعزيز الإنقسام ومحاصرة غزة وفرض نظرية المحاصصة على أموال الإعمار.
ألغى الرئيس عباس الإنتخابات الفلسطينية التي كانت مقررة قبل الحرب بأسابيع قليلة،
ووفقاً للكثير من التفسيرات فإن الخطوة التي أقدم عليها كان الهدف منها الهروب من
نتائج مخيبة للآمال بسبب دخول القيادي المفصول من حركة فتح، محمد دحلان، على خط
المنافسة مع قائمة حركة فتح، وكذلك الإنقسامات التي شهدتها الحركة وخروج قوائم تمثل
الأسير مروان البرغوثي وكذلك ناصر القدوة، لكن ما جرى مؤخراً في غزة كان بمثابة
صفعة شعبية مؤلمة موجهة للرئيس الفلسطيني الذي واجه نقداً لاذعاً حتى من بعض مؤيديه
الذين أشادوا بقوة المقاومة في غزة وطالبوا باستثمارها في المفاوضات السياسية مع
دولة الاحتلال بدلاً من التقوقع حول التنسيق الأمني.
المفاوضات عبر الصواريخ هي النظرية الأكثر حداثة التي أنتجت الواقع السياسي
الفلسطيني الجديد، هذا الأمر أكده الصحفي الإسرائيلي، غال بيرغر، فقد وصف اللحظات
الأخيرة التي سبقت إعلان التهدئة بأنها الحاسمة وهي التي أرغمت الجيش الإسرائيلي
على وقف الحرب، فقد أبلغ الجيش مُلاك ثلاثة أبراج سكينة في غزة بإخلائها تمهيداً
لقصفها، لكن في اللحظات الأخيرة أرسلت حماس عبر الوسيط المصري المسؤول في
المخابرات، أحمد عبد الخالق، رسالة واضحة باستعدادها لقصف "إيلات" و "حيفا" في حال
تمت عملية القصف، هذه الخطوة أربكت الجيش وأجبرته على التراجع والقبول بوقف إطلاق
النار.
مجلة فورين بوليسي في مقال بعنوان "عبث عباس" تقول إن المواجهة الأخيرة لم تحقق
لدولة الإحتلال الكثير ولم تردع حماس عن إطلاق الصواريخ مرة أخرى، لكنها بكل تأكيد
أدت إلى إضعاف الرئيس الفلسطيني محمود عباس الشخص الأكثر براغماتية إتجاه
"إسرائيل".
كان الدعم الأمريكي والإسرائيلي لإختيار عباس عام2004 رئيساً للسلطة الفلسطينية،
بعد إغتيال ياسر عرفات، لإعتبارات تتعلق بشخصيته الداعمة لتصفية المقاومة المسلحة،
ودوره في هندسة مشروع "أوسلو"، والقبول الواسع الذي يحظى به في المجتمع الدولي
والإقليمي لكونه الأكثر قرباً من العقلية الأمريكية، لكن رغم كل ذلك فقد حولته
الإدارة الأمريكية السابقة إلى مجرد منسق أمني لخدمة الإستيطان الإسرائيلي في الضفة
المحتلة، عقب إعلان نقل السفارة الأمريكية في الكيان الصهيوني إلى القدس عام 2018.
يقول علي الجرباوي، وزير سابق في السلطة الفلسطينية، إن اليأس من المفاوضات سيدفع
الناس إلى دعم حماس والمقاومة المسلحة فقد أظهر الواقع السياسي الذي مررنا به في
السنوات الماضية أن الإحتلال لا يحترم سوى القوة، لأن السياسيين مثل عباس ليس لديهم
شركاء في الجانب الإسرائيلي على طاولة المفاوضات.
عباس الذي تجاوزت 85 عاماً من عمره يمارس دوره السياسي منذ عام 1994، وبقدر ما كان
صادقاً مع الصهاينة في تطويع الحالة الفلسطينية لتقبل الواقع الإستيطاني الذي فرضته
سلطات الإحتلال، إلا أنه أصاب شعبه بخيبات أمل متوصلة، فقد أنكر عليهم البرنامج
الذي كان يتبناه زعيم فتح السابق ياسر عرفات ولم يطالب يوماً بإخراج أمين سر حركة
فتح بالضفة المحتلة مروان البرغوثي من السجن لإعتبارات تتعلق بتبني الأخير نفس
النهج الذي كان يتبناه عرفات، كما فرض عقوبات قاسية على قطاع غزة تتعلق بضخ الاموال
وإحالة الآلاف من الموظفين إلى التقاعد وفرض الكثير من العقوبات على المؤسسات
الخدمية مثل وزارة الصحة والطاقة وغيرها.
ما يمكن التأكيد عليه هنا هو أن الرئيس عباس لم يعد يمتلك شيئاً يواصل به نهجه الذي
رفضه الإحتلال، لكن لأهمية دوره في التنسيق الأمني ومنع المقاومة المسلحة في الضفة
ومحاصرتها في غزة فإن الإدارة الأمريكية ستحافظ على وجوده عبر ملف الإعمار الذي
اشترطت أن تكون سلطة رام الله هي التي تديره، لكن لا يخفى على أحد أن الإنعاش
الأمريكي لعباس قد لا يصمد طويلاً مع إستمرار حدوث إرتدادات الصدمة الأخيرة التي
أحدثتها غزة ليس بين الفلسطينيين فقط بل في العالم بأسره، فدائرة الإنقسامات في فتح
توسعت كثيراً وهذا الأمر كان قبل الإنتخابات ولايعرف حتى الآن إلى أي مرحلة ستصل
فتح من الإنقسام والتمزق، لكن هناك دور جديد للمقاومة المسلحة أصبح أكثر وضوحاً
سيطغى سياسياً على الدور الذي حافظت عليه السلطة الفلسطينية منذ توقيع "أوسلو".