يتحجج أنصار حفتر بمواقف الدبيبة التي يزعمون أنها تلوح برفض التقارب مع حفتر، بل ويتهمه أنصار حفتر بـاستفزاز قيادة حفتر في وقت يراد منه تقريب وجهات النظر
بعد ما يقرب من عام من الانزواء عاد المشير خليفة حفتر إلى الظهور مرة أخرى.
ولا نعني بالانزواء مجرد عدم الظهور في وسائل الاعلام، ولكن نعني به انحسار دوره
وتراجع فرص انتصار مشروعه في المشهد الليبي.
فقد أفادت وكالات الأنباء بقيام مدير أمن مطار بنينا الذي تسيطر عليه قوات حفتر،
بمنع وفد من موظفي الحكومة من الدخول إلى بنغازي بعد وصولهم إلى المطار، وتزامن ذلك
مع احتشاد العشرات من أنصار حفتر داخل المطار مطالبين بـطرد الوفد، ووصفوا أعضاء
الوفد بـالمليشاويين.
وإثر ذلك قام رئيس الوزراء الليبي المؤقت الجديد عبد الحميد دبيبة بتأجيل زيارة
لشرق البلاد كانت مقررة يوم الاثنين الماضي، بهدف إظهار تقدم حكومة الوحدة نحو
إنهاء سنوات من الانقسام بين الفصائل المتناحرة.
وتأتي هذه التطورات وسط مخاوف الليبيين من أن تعود البلاد مرة أخرى إلى مربع
الخلافات والانقسامات، خصوصاً مع تعثر المسار العسكري بكل ما يتصل به من توحيد
للجيش وترحيل المرتزقة والقوات الأجنبية.
ويتحجج أنصار حفتر بمواقف الدبيبة التي يزعمون أنها تلوح برفض التقارب مع حفتر، بل
ويتهمه أنصار حفتر بـاستفزاز قيادة حفتر في وقت يراد منه تقريب وجهات النظر، ومن
بين تلك المواقف ظهور الدبيبة المتكرر في صور مع الفريق محمد الحداد لتخريج دفعات
عسكريين من دورات تدريبية لضباط أتراك في طرابلس، واصطحاب الحداد في زياراته لأنقرة
وموسكو بصفته رئيساً للأركان العامة للجيش، رغم أنه مكلف من حكومة الوفاق السابق
ومعروف بمناوأته لحفتر.
فهل تلك هذه الأسباب التي يدعيها أنصار حفتر حقيقية أم أن الأمر أعمق من ذلك؟
للإجابة على هذا السؤال يجب علينا تتبع المشروع الذي جاء حفتر به وأراد أن يفرضه
على ليبيا كلها:
في أعقاب قيام الشعب الليبي بالثورة على القذافي، رأت بعض القوى الدولية والإقليمية
أن هذه الثورات التي تشهدها المنطقة سوف توجد حالة من الفوضى الجيوسياسية الغير
مرغوبة، فعملت على ايجاد شخصية عسكرية تركب موجة الثورة، وتعيد لملمة المشهد الليبي
وتجميع خيوطه مرة أخرى في يد شخصية ديكتاتورية جديدة.
بدأت هذه الاستراتيجية باللواء عبد الفتاح يونس أحد الرفقاء والقريبين من القذافي،
والذي أعلن فجأة عصيانه له وانضمامه للثورة، ونجح برعاية إقليمية وفرنسية بقيادة
كثير من العناصر الثورية المسلحة، ولكن جماعات أخرى فطنت إلى الدور الذي يقوم به
وهو إعادة استنساخ نظام القذافي بشخوص جديدة، فقامت هذه الجماعات بتنفيذ عملية
اغتيال له وبذلك انتهى الرجل ولكن لم ينته مشروعه، إذ سارعت الجهات الإقليمية
والدولية باستنساخ شخصية جديدة.
في فبراير 2014 أعلن حفتر عن إنشاء جيشه الليبي، أملاً بأن تنضم إليه الميليشيات
المختلفة في البلاد وتساعده على تنحية أول برلمان منتخَب ديمقراطياً من السلطة، وقد
كان تنظيم الانقلاب سيئاً جداً، بحيث إن النجاح الوحيد الذي حققه حفتر في ذلك
اليوم، هو أنه أصبح أول شخص في التاريخ يشن انقلاباً بواسطة موقع يوتيوب كما يقول
أنس القماطي الباحث في مركز كارنيجي.
لتنتهي قصة حفتر تلك ولكنه يعود بعدها بشهرين، ليصُور انقلابه بأنه حرب على الإرهاب
في إطار ما أطلق عليها عملية الكرامة، وبدأت عملية الكرامة بشن هجمات جوية على
أنصار الثورة في شرق ليبيا، وعلى غرار القذافي استوعب حفتر القبائل الموالية له
ومجموعاتها المسلحة فيما أطلق عليه الجيش الوطني الليبي، وجعل منها جيشا له.
وبهذا الجيش استطاع حفتر اخضاع بنغازي بعد أن دمر أحياء كثيرة في المدينة لتخضع له،
وكرر ذلك السيناريو في مدينة درنة، فشن عملية أطلق عليها مكافحة الإرهاب، وفرض حصار
إنساني قال حفتر إنه سيؤدي إلى خنق درنة، ويُعتقد أن ربع سكان درنة كانوا قد أصبحوا
بحلول نهاية الحملة، في عداد القتلى أو المصابين أو النازحين، ولدى مغادرة درنة،
قام جيش حفتر بطمس معالم اللافتات المؤدية إلى المدينة واستبدل اسم درنة بعين مارة
الجديدة.
بعدها بالإضافة إلى القبائل البدوية بدأ حفتر يدعم جيشه بالمرتزقة من تشاد
والسودان:
مثل الحركة من أجل الديمقراطية والعدالة وجبهة الوفاق من أجل التغيير في تشاد، أما
من المجموعات السودانية التي تقاتل مع حفتر، فمنها حركة العدل والمساواة السودانية
المتمردة في دارفور التي تتمركز في منطقة الجفرة وسط ليبيا، كذلك يلاحظ وجود مكون
سلفي في قوات حفتر من مما يعرف بالسلفية المدخلية، فهؤلاء السلفيون الذين كانوا
يحظون بدعم معمر القذافي خلال سنوات اضمحلال حكمه، كانوا متواجدين في صفوف القوات
الأمنية للنظام السابق وهم يعادون عقائدياً الإسلاميين السياسيين الذين كان حفتر
يحاربهم، وعلى غرار القذافي أيضا، تم تسليم ولدي حفتر خالد وصدام مراكز قيادية.
ولكن هناك عدة عوامل أدت إلى تراجع مشروع حفتر:
أولها، عجزه عن دخول طرابلس واحتلالها بهذا الكوكتيل من الميلشيات التي ذكرناها في
السابق.
ثانيها، ونتيجة لذلك تم ادخال قوات الفاغنر الروسية للاستعانة بخدماتها وهي قوات
مرتزقة تتبع شركة خاصة ولكنها في حقيقتها تأتمر بالاستراتيجية الروسية وتخدمها.
ثالثا، أدى التدخل الروسي إلى الغضب الأمريكي ومن ثم إعطاء الضوء الأخضر للأتراك
للتدخل العسكري والحيلولة دون سقوط طرابلس ومن ثم وقف الزحف الروسي في ليبيا.
وأدى توقف الحرب بين الطرفين الليبيين إلى ايجاد نوع من التوافق بين أكبر داعمين
للطرفين الليبيين المتقاتلين وهما الروس والأتراك، مما أدى إلى تفاهمات بين
الدولتين على غرار التفاهم التركي الروسي في سوريا.
وهذا أدى إلى ازدياد القلق الأمريكي وخشيتها من اقتسام الروس والأتراك الكعكة
الليبية، ودفع هذا القلق الأمريكي إلى ظهور استراتيجية أمريكية جديدة ألقت أمريكا
بثقلها لتطبيقها على الأرض.
تهدف هذه الاستراتيجية إلى اخراج جميع القوات والمرتزقة الأجانب من ليبيا، بإحياء
نظام سياسي منتخب من الشعب الليبي تكون له شرعية أممية ودولية يساندها مجلس الأمن
الدولي ويستطيع النظام الجديد اخراج كافة القوى الأجنبية.
ولذلك ضغطت الولايات المتحدة على القوى الإقليمية المساندة لأطراف الصراع الليبي
لتطبيق هذا المشروع، ونجحت بالفعل في تشكيل حكومة وحدة وطنية تمثل عموم ليبيا لتقوم
بإنجاز الانتخابات.
وبالطبع هذه الانتخابات سينتج عنها في النهاية تراجع وانهاء مشروع حفتر وتقليص دوره
تدريجيا، وهذا ما تم بالفعل وأدى اختفاء حفتر من واجهة المشهد بالرغم من أنه استمرت
مناوراته في الخفاء.
ومما ساهم بشكل أساسي في تقليص دور حفتر، تراجع مصر عن دعمه وتفضيلها إيجاد تفاهم
مع الأتراك للوصول إلى صيغة تحقق المصالح التركية والمصرية في ليبيا.
ولكن ما هو الجديد الذي جعل حفتر يطفو مرة أخرى في المشهد، مظهرا محاولة لتعطيل
التوافق الليبي الممهد لإجراء انتخابات جديدة؟
هناك عاملان مهمان في هذا الصدد أدى إلى العودة بحفتر إلى المشهد مرة أخرى:
اغتيال الرئيس التشادي إدريس ديبي، والضغوط الامارتية على مصر لاستعادة مكانة حفتر.
بالنسبة لاغتيال ادريس ديبي، فقد ذكرت صحيفة لوموند الفرنسية أمس إن المنطقة التي
انطلق منها هجوم المتمردين التشاديين الذي أودى بحياة الرئيس التشادي إدريس ديبي،
هي جنوب ليبيا في منطقة خاضعة لقوات حفتر، وقالت الصحيفة إن المجموعة المتمردة التي
وجهت الضربة القاتلة للرئيس ديبي هي جبهة التناوب والوفاق التشادية، كانت من ضمن
التحالف العسكري غير المتجانس الذي يحيط بحفتر.
وهذا معناه أن حفتر قد أعطى الضوء الأخضر لتنفيذ تلك العملية، وربما أعطاها ليضغط
على فرنسا ويقول إنه لا يزال قادرا في التأثير على المصالح الفرنسية في أفريقيا
والتي تعتبر تشاد مدخلا حيويا لها.
أما العامل الثاني فيتمثل في الضغوط الامارتية على مصر من أجل إحياء مساندتها
لمشروع حفتر في مقابل مساندة مصر في ملف سد النهضة ومشاريع إيجاد بدائل لقناة
السويس والذي يقال إن هناك اتفاق إسرائيلي امارات لتنفيذه، خاصة أن المصادر الصحفية
أجمعت أن موضوع ليبيا كان متصدرا في أجندة الاجتماع المصري الامارتي في القاهرة
الأسبوع الماضي إثر زيارة الشيخ محمد بن زايد إليها.
يتبقى الآن الموقف الأمريكي غامضا من إعادة احياء دور حفتر، وهل ستساير هذا التوجه
أم ستقف ضده؟