في دولة يحظى فيها كبار الرهبان باحترام مبالغ فيه، يصبح مجرد التشكيك في سلطتهم أو أقوالهم المتطرفة أمرًا مستحيلًا، ويبرر البعض بأن ما يفعلونه هو ناجم عن شعورهم بالحاجة إلى حماية عقيدتهم الوضعية
بالرغم من أن المبدأ الأكثر رسوخًا في تعاليم الديانة الوضعية البوذية ـ بحسب ما
يزعم أتباعها ـ هو عدم المبادرة بالعنف وقتل النفس أو إيذاء الآخر، إلا أن أفعال
معظم الرهبان البوذيين في ميانمار (بورما) تُبرز خلاف ذلك تماما، حيث يلجأ الرهبان
هناك إلى استخدام العنصرية وخطاب الكراهية ضد المسلمين الروهينجا، ويحرضون بشكل فجّ
ومباشر على القتل والتعذيب لكل ما هو غير بوذي، بل إنهم يشاركون بأنفسهم ضمن جماعات
مسلحة من أجل إحراق المنازل وتهجير سكانها، لقد صار الرهبان هناك يشكّلون ظاهرة
إجرام شاذّة وفظيعة في هذه البقعة من العالم، إنهم شياطين في زيّ رجال دين، فهم
يشبهون السفاحين والقتلة، لكن بدلًا من أن يمسكوا بالبنادق في أيديهم، يمسكون
بالنصوص البوذية، وبدلًا من إطلاق الرصاص، يطلقون خطابات تحريضية، تحض على القتل
والكراهية والتخريب.
بالرغم من عدم وجود دين رسمي في دستور الدولة في ميانمار، إلا أن المجتمع هناك
متأثر بشدة بالبوذية، وهناك ما يقرب من 90% من السكان ملتزمون بهذه الديانة، ويقدر
عدد الرهبان البوذيين بأكثر من نصف مليون راهب، جميعهم يحظون بمكانة اجتماعية
مرموقة تصل إلى حد التبجيل والقداسة، أما المعابد والأديرة فتحظى برعاية حكومية لا
محدودة، وتمتلك مساحات شاسعة من الأراضي والمباني الفارهة، وفي ظل هذه الرغبة
المتبادلة بين حكام الدولة وحكام المعابد في السيطرة على الشعب، توطدت العلاقة
بينهما، فلجأ الرهبان البوذيون للجنرالات، من اجل الحصول على الدعم والتأييد الذي
لا يستطيع سواهم تقديمه لهم، في حين لجأ الجنرالات الى الرهبان، من أجل إصباغ صفة
الشرعية الشعبية والدينية لحكمهم، والتي لا تمنحها إياهم سوى هذه الرؤية الأخلاقية
لهذه الديانة الوضّعية.
"لآشين ويراثو" .. شيطان في زيّ راهب
على مدار سنوات؛ منحت السلطات الحاكمة في ميانمار حماية ورعاية خاصة للرهبان
البوذيين مهما كانت أفعالهم أو تصريحاتهم، أبرز هؤلاء الرهبان كان "لآشين ويراثو"،
الذي يعدّ أكثرهم إثارةً للجدل، لأنه يمثّل حالة خاصة من العنصرية المقيتة التي لا
يمكن تصورها، فـ"ويراثو" الذي تم اعتقاله في عام 2003، بعد شنّه حملة واسعة لمقاطعة
الأعمال التجارية التي يمتلكها المسلمون في ميانمار، حُكِمَ عليه بالسجن لمدة 25
عامًا، لكنه سرعان ما حصل على عفو رئاسي، وعاد بعدها إلى استكمال خطاباته التحريضية
ضد الأقليات المسلمة، ويبدو أن السنوات التي قضاها في السجن لم تحد من عدائه الشديد
للمسلمين الروهينجا، إذ خرج ليصف المساجد بأنها قواعد للعدو، ويشير إلى المسلمين
على أنهم "كلاب مجنونة"، بل ويتهمهم بـ"خطف واغتصاب النساء البورميات"، وقد وصل
الأمر إلى حد أنه في بعض خُطبه المشحونة بجرعات كبيرة من النزعة القومية
والتحريضية، قد اتهم المسلمين بأنهم يتكاثرون بسرعة فائقة، وكأن الإنجاب قد بات
جريمة!، فقد استغل هذه الكذبة التي روّجها عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي
لنشر رسالة مفادها أن الثقافة البوذية في البلاد ستنقرض وتختفي مع زيادة أعداد
المسلمين.
في عام 2011؛ كان "ويراثو" ملء السمع والبصر في ميانمار، لا سيّما بعد أن شن حملة
عنصرية أخرى من أجل سنّ قانون لحظر زواج المسلمين من البوذيات، وبالرغم من أن حزب
"الرابطة الوطنية للديمقراطية" الذي كان يحكم البلاد قبل الانقلاب العسكري مؤخرًا،
كان يمارس نفس الأفعال المتطرفة التي ينادي بها "ويراثو"، بل ويدافع الحزب عنها في
المحافل الدولية أيضا، إلا أن "ويراثو" اتهم هذا الحزب بأنه يتبع أجندة إسلامية
سرية، وبفضل هذا الكم الكبير من الكراهية والعنصرية التي يتصف بها "ويراثو" فقد تم
إدراجه ضمن القائمة السوداء على العديد من مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك بسبب
منشوراته المتطرفة التي تستهدف أقلية الروهينجا، إلا أنه أعلن عن عدم اهتمامه بذلك،
وأنه سيستخدم وسائل إعلامية بديلة لنشر خطاباته التي يعتبرها جزءًا من عمله القومي،
لقد ارتبط اسم "ويراثو" في بداياته باسم منظمة تدعى حركة "969" المعروفة بحملتها
المعادية للمسلمين والتي كانت تتلقى دعمًا من الحكومة في بداياتها، وفي عام 2013
قال ثين سين، رئيس ميانمار حينها، علنًا إنه يدعم هذه الحركة، كما وصف ويراثو بأنه
"ابن بوذا"، لكن المؤسف أكثر أنه بالرغم من كل ما تم توثيقه من جرائم لهذه الحركة،
إلا أنها لم يتم إدراجها في قائمة المنظمات الإرهابية في العالم حتى الآن.
"سيتاجو سايادو" .. عرّاب الجنرالات
راهب آخر من رهبان العنف المتسترين تحت رداء البوذية، إنه "سيتاجو سايادو"، وهو
الراهب الأكثر نفوذا وتأثيرًا في ميانمار، حيث يبجّله قادة الانقلاب العسكري،
ويعتبرونه أكبر رجل دين في البلاد، كما يحظى "سايادو" بتقدير كبير بين الناس بسبب
أعماله الخيرية وأنشطته التبشيرية ومساعدته للفقراء، إذ يثق كثيرون من مواطنيه في
تفسيراته للتعاليم البوذية ويطلبون منه الشفاعة، وبالرغم من الشهرة الدولية التي
يحظها بها بفضل الفروع التبشيرية لجمعيته في الولايات المتحدة ومناطق أخرى حول
العالم، إلى جانب كونه عضوا في مجالس الأديان العالمية، إلا أنه في نفس الوقت يعدّ
أحد أبرز أصحاب خطاب الكراهية هناك، وهو من المحرضين على نبذ كل ما هو غير بوذي،
فكثيرًا ما تحدث عن الإسلام كدين عنف وعن مسلمي ميانمار من الروهينجا على أنهم
أجانب وليس لهم حق العيش في هذا البلد، كما يرفض أي اعتراف بهم، ويهاجم كل
الانتقادات الدولية لما يحدث للروهينجا، بل إنه ينتقد المؤسسات الدولية لإدانتها
تلك الجرائم، وقد صرّح يومًا وسط مواطنيه من المدنيين والعسكريين خلال أحد التجمعات
الكبرى، صارخًا فيهم: "إن المسلمين اشتروا الأمم المتحدة"، حيث تتلاقى كلماته مع ما
يصبو إليه جنرالات الجيش البورمي من أجل السيطرة والنفوذ، إذ يعطى "سايادو" غطاءًا
للجنود يشجع عقلياتهم العسكرية على مزيد من القسوة والعنف، ويعفي كل من شارك منهم
في القتل ضد الروهينجا من أي ذنب بحسب عقيدتهم البوذية، بل إنه برّر لهم أي
انتهاكات تقع في المستقبل طالما أنها تأتي في إطار ما يصفها بالحرب المقدسة لحماية
البوذية.
يملك
"سايادو" خطابين مختلفين؛ خطاب بالإنجليزية يُلقي به على مسامع الحاضرين لتجمعاته
وندواته الداعية للسلام والمحبة وذلك خلال جولاته خارج ميانمار، وخطاب آخر محلي على
النقيض تماما من ذلك، حيث تحمل كلماته باللغة البورمية حضّا على القتل والكراهية ضد
باقي الأديان عمومًا، وقد تسببت خطاباته المعادية للأقليات في صراع اجتماعي عميق
يعرقل جهود فرض سيادة القانون أو نبذ العنف، فالعديد من خطاباته التي ألقاها أمام
أفراد الجيش قدّمَ خلالها لهم تبريرًا دينيًا للقتل الجماعي لغير البوذيين، وله
عبارة شهيرة يقول فيها "إن الجيش والرهبنة لا ينفصلان"، كما أنه ذكر في أكثر من
مناسبة أمام عناصر الجيش أن "أولئك الذين يقتلونهم من المسلمين ليسوا بشرًا
بالكامل"، في حين أنه دائما ما يصف جنود وجنرالات الجيش البورمي بأنهم "جيش من
الجنود الروحيين من أجل القضية الوطنية للأمة".
القتل باسم البوذية
في دولة يحظى فيها كبار الرهبان باحترام مبالغ فيه، يصبح مجرد التشكيك في سلطتهم أو
أقوالهم المتطرفة أمرًا مستحيلًا، ويبرر البعض بأن ما يفعلونه هو ناجم عن شعورهم
بالحاجة إلى حماية عقيدتهم الوضعية، فالأديرة لم تعد جذابة بقدر المراكز التجارية،
والناس بدأوا ينشغلون بالحياة المادية، وفي ظل ذلك قد ينجذبون بسهولة إلى أديان
أخرى، مثل الإسلام، وهو ما دفع رؤساء الأديرة المتشددين والرهبان المؤثرين إلى
تأسيس العديد من المنظمات الدينية القومية المتطرفة، التي عادةً ما تأخذ شكل جمعيات
خيرية أو منظمات مجتمع مدني لمساعدة الناس، مثل مؤسسة بوذا داما الخيرية ولجنة
حماية القومية والدين (ما با ثا) وتجمع الرهبان القوميين، وهذه المنظمات في واقعها
تعمل بنشاط على تأجيج الانقسام الديني والكراهية في ميانمار والتشجيع على العنف
وتنشر القتل.
يبرر الرهبان البوذيون أعمال العنف بأنها ضرورية باسم المصلحة العليا والخير الأسمى
وما يصفونه بالعقيدة البوذية الحقيقية، وفي سبيل تحقيق مصالحهم تتغير القيم
الإنسانية، ويصبح القتل وسيلة يتقاطع فيها العرقي بالديني من أجل غاية مقدسة في
شريعتهم البائسة، والمؤسف أكثر في ظل ما يحدث هى كون التغطية الإعلامية لهذه
المجازر بحق الروهينجا ضعيفة ونسبية بصورة مرعبة، فما زالت هذه المنطقة معزولة
إعلاميًا، بلا شبكات هواتف متطورة، أو شبكة إنترنت، أو حرية للصحفيين لنقل حقيقة ما
يحدث، صحيح أن التغطيات الإعلامية المكثفة لم تستطع يومًا منع وقوع المجازر في أي
مكان بالعالم، لكنها على الأقل تكشف الحقائق وتفضح من يستهين بأرواح الآلاف من
البشر. لقد كان من اللافت أن قفز الرهبان إلى قطار الإنقلاب العسكري حين عرفوا أنه
يغادر معهم أو بدونهم، فهم يعلمون جيدًا أن جنرالات الجيش البورمي بغطرستهم لا
يأبهون لهواجس الإعلام أو الدول الغربية بشأن حقوق الإنسان والديمقراطية والانتقال
السياسي السلمي للسلطة، وهذه الغطرسة تتماهى مع رغبات الرهبان الذين باتوا يعشقون
الدم والقتل، ففي بداية انتماءهم للبوذية يقضي الكثير منهم معظم أوقاتهم في
الغابات، التي تعتبر بالنسبة لهم مكانًا مميزًا للتأمل، ويبدو أن هذا التقليد يجعل
الصفات الحيوانية لمفترسات الغابة تنتقل إلى الرهبان بشكلٍ أو بآخر، فيتخلّى
الرهبان عن إنسانيتهم، ويصبحون أكثر إفتراسًا وفتكًا بالبشر من الضواري.