هناك ثلاثة أنواع من المؤسسات موجودة داخل نظام ما بعد الثورة: مؤسسات مستحدثة بعد الثورة بالكامل ومؤسسات معدلة من النظام السابق ومؤسسات موروثة من عهد الشاه.
ما كشفه وزير المخابرات الإيراني محمود علوي، من أن الشخص الذي قدم الدعم اللوجستي
لاغتيال العالم النووي محسن فخري زاده، كان عنصرا في القوات المسلحة الإيرانية،
وأنهم علموا بالعملية قبل 5 أيام من تنفيذها يثير كثيرا من الاندهاش والاستغراب،
فضلا عن الأسئلة المطروحة والمرتبطة بطبيعة النظام الإيراني ومؤسساته والعلاقات
بينها.
فعقب شهرين على عملية الاغتيال، قال رئيس المخابرات في لقاء نقلته وكالات الإعلام
الإيرانية، إن المخابرات كانت قد حذرت قبل شهرين من أماكن تجمع فيها معلومات لتنفيذ
العملية، وقال المسئول الاستخبارات الإيراني بالحرف: قبل خمسة أيام حذرنا من أن
الاغتيال سيجري في هذه النقطة "أبسرد بدماوند" التي جرى فيها فعليا.
ويبرر وزير المخابرات ذلك بأنه بسبب عدم السماح لوزارة المخابرات بإجراء عمل
استخباري داخل القوات المسلحة، وقال: طلبنا منهم تعيين ممثل للتعاون في إيقاف
التنفيذ، لكن تم الاغتيال قبل تقديمه.
وتعد هذه التصريحات استمرارا للروايات المتضاربة بشأن تفاصيل عملية الاغتيال، حيث
ادعى بعض المسؤولين الإيرانيين أن قرابة 12 شخصا شاركوا في تنفيذها، في حين قال
آخرون إن أسلحة موجهة بالأقمار الصناعية استخدمت لاغتياله دون تدخل بشري مباشر،
بينما يعكس نجل محسن فخري زاده هذه الحيرة حيث يتحدث عن وجود ما أطلق عليه "الكثير
من الالتباسات" في قضية مقتل والده، قائلًا إن "هناك الكثير من الالتباسات والموضوع
أعقد بكثير" مما قيل حتى الآن ويقول إن مقتل والده لم يكن بسيطاً بعدة طلقات بل
كانت له أبعاد معقدة للغاية.
ولكن تصريح وزير الاستخبارات يكشف عن شيء مهم تتصف به مؤسسات الحكم في إيران
وبالذات المؤسسات الأمنية، ألا وهو الخلل نتيجة التضارب في الاختصاصات والتنافس
بينها والناتج عن رغبة مرشد الثورة أن تظل تلك المؤسسات واقعة تحت سيطرته، ويظل هو
المتحكم فيها والموجه الأوحد لها.
النظام الإيراني الموجود حاليا تم إنشاؤه مع الثورة الإيرانية عام 1979، كانت السمة
الأبرز فيه تعدد مؤسساته سواء على المستوى السياسي أو حتى العسكري والأمني، كذلك
كانت أكبر سماته ما بدا أنه منغلق على نفسه وأن المعلومات المتوفرة على التفاعلات
داخل أركانه سواء من داخله أو من خارجه مشوشة، إما بمحاولة تصوير نفسه بالمثالية
والقدرات الفائقة، أو من جانب منتقديه بالهجوم عليه وانتقاده بعاطفية ضده دون
مراعاة العلمية أو الموضوعية في تقويمه.
ولذلك فإن محاولة تقويم أداءه مرتبط دائما بتحري المعلومات والأخبار الصحيحة
المنقولة من عدة طرق، ومنها الاستعانة بالمصادر الرسمية الايرانية قدر المستطاع أو
من جانب الخارج المنتقد لأدائه، مع ايراد الرأيين المتضادين في اي معلومة ان وجدت
ثم محاولة تحليلها في ميزان التحليل السياسي والمقارنات العلمية للوصول إلى ما هو
أقرب للحقيقة.
أهم التساؤلات المطروحة والمرتبطة بالاعتراف بالمعرفة بالاغتيال:
هل هناك تنافس بين المؤسسات الأمنية الإيرانية، وعلى فرض وجوده هل وصل هذا التنافس
حدا إلى أن تكيد هذه المؤسسات لبعضها على حساب الأمن القومي الإيراني؟
وللإجابة على هذا التساؤل يلزمنا معرفة واقع المؤسسات الأمنية في إيران:
أن النظام الإيراني منذ تكون الدولة الإيرانية لم يعرف المؤسساتية إلا منذ مجيء
الشاه رضا بهلوي، ولكن مؤسسات الدولة لم تبلغ درجة التعقيد سواء في الهيكلية أو
تعدد الوظائف إلا بعد مجيء الخميني وثورته.
هناك ثلاثة أنواع من المؤسسات موجودة داخل نظام ما بعد الثورة: مؤسسات مستحدثة بعد
الثورة بالكامل ومؤسسات معدلة من النظام السابق ومؤسسات موروثة من عهد الشاه.
وتنتظم الأجهزة الأمنية والعسكرية داخل ما يعرف بالمجلس الأعلى للأمن القومي، ومن
بين أعضائه وزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس الأركان ووزير كل من الداخلية
والمخابرات ويرأسه رئيس الجمهورية المنتخب، وبالطبع يؤثر عليه ويلتزم بالتوجيهات
الصادرة عن المرشد الإيراني علي خامنئي، ويحدد الدستور أهداف هذا المجلس في ثلاثة
مسئوليات:
تحديد سياسات الدفاع والأمن القومي للبلاد في إطار السياسات العامة التي يحددها
القائد، وتنسيق الأنشطة السياسية والمخابراتية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية
المتعلقة بالسياسات العامة للدفاع والأمن القومي، ثم استغلال الموارد المادية
والفكرية للبلاد لمواجهة التهديدات الداخلية والخارجية.
تنقسم الأجهزة المخابراتية الإيرانية إلى أربع أجهزة:
الجهاز الأول هو وزارة الاستخبارات والأمن الوطني أو تسمى وزارة الاستخبارات والأمن
القومي لجمهورية إيران الإسلامية، وهي بمثابة الشرطة السرية وجهاز المخابرات
الرئيسي في إيران، واشتهرت زمن الشاه بقمعها ودمويتها وكانت تعرف حينها باسم
السافاك، وبعد مجيئ الخميني كانت مسؤولة عن عمليات القتل المتسلسلة الشهيرة أو ما
يسمى بسلسلة الاغتيالات في إيران التي طالت العديد من الكتاب والمثقفين المعارضين،
بما في ذلك اغتيال المعارضين السياسيين الإيرانيين داخل وخارج البلاد، وكان لها دور
مهم وكبير وفعال في زرع خلايا التجسس في شتى أنحاء العالم.
أما الجهاز الثاني فهو مخابرات جيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهي وكالة
مخابرات عسكرية تهدف إلى إجراء التدابير اللازمة لمكافحة التجسس داخل الجيش، وأيضا
من أجل اكتشاف ومنع عمليات التخريب المتعمد والانقلابات.
والجهاز الثالث هو مخابرات الحرس الثوري الإيراني، وهي وكالة من وكالات الاستخبارات
الإيرانية تابعة للحرس الثوري الإيراني وأيضا تعتبر جزءًا من مجلس التنسيق
المخابراتي الإيراني. يتعاون مع هذه المؤسسة المخابراتية مجموعة واسعة من الأشخاص.
وأخيرا الجهاز الرابع، وهو جهاز حماية المخابرات الحرس الثوري الإسلامي الإيراني:
وهي وكالة استخبارات إيرانية كانت من ضمن جهاز المخابرات التابع للحرس الثوري
الإسلامي، وقد انفصلت الوكالة عن وحدة المخابرات التابعة للحرس الثوري الإيراني في
عام 1984، وفي عام 1991، أعيد تشكيل هذه الوكالة باعتبارها منظمة مستقلة وتتبع
المرشد الأعلى لإيران، وهي مكلفة أساسا بمراقبة ومكافحة التجسس داخل فيلق الحرس
الثوري الإسلامي، وقد امتد دور هذا الجهاز ليكون من بين مهامه الأساسية الإشراف على
الجهاز الدبلوماسي وكبار المسؤولين في الحكومة، والأهم من ذلك حماية المرشد نفسه.
كان من المفترض أن يكون الجهاز الأول الذي رئيسه برتبة وزير أن يكون له الكلمة
العليا في الأجهزة الاستخباراتية الإيرانية، ولكن بنمو دور الحرس الثوري الإيراني
وخاصة في العقد الأخير، وتعاظم دوره في الحياة السياسية الإيرانية وفي رسم
استراتيجيات الأمن القومي الإيراني، وبالتالي انسحب هذا الدور على جهازه
الاستخباراتي.
ومنذ عشر سنوات بات جهاز استخبارات الحرس الثوري وكالة المخابرات المركزية في
إيران، حيث يتمتع بسلطات واسعة ومؤثرة ونفوذ متزايد، وبذلك نشأت ازدواجية داخل
المخابرات الإيرانية، وهي سمة بارزة متعمدة داخل النظام الإيراني يفتعلها المرشد
الأعلى ليس في المؤسسات الاستخبارية فقط بل في جميع مؤسسات الدولة، ليبقى صاحب
النفوذ الأكبر داخل النظام الإيراني والممسك بأوراق اللعب والنفوذ داخله ولا يخرج
أحد عن أوامره ورغباته.
ونظرا لطبيعة عمل المخابرات والتي تتسم دائما بالسرية فإن ظهور الخلافات لا يظهر
للعلن إلا في حالات نادرة.
ففي عام 2017، ظهر الصراع الخفي بين أجهزة الاستخبارات الإيرانية إلى العلن لأول
مرة، بعد تلاسن وزارة المخابرات ومخابرات الحرس الثوري، عندما تناقلت وسائل إعلام
مقربة من حكومة روحاني تصريحات قيادي في وزارة المخابرات نفى فيها معلومات سابقة
وردت على لسان نائب قائد مخابرات الحرس الثوري اللواء حسين نجات، ونفى المتحدث باسم
وزارة المخابرات دور جهاز مخابرات الحرس الثوري في ثلاث عمليات، قال نجات إنها نفذت
على يد مخابرات الحرس الثوري، كما نفى القيادي في وزارة المخابرات أي دور للحرس
الثوري في اعتقال خلية من 8 أجانب، قيل أنها كانت تخطط لعمليات تخريبية تستهدف
مظاهرة ذكرى الثورة الخمينية.
هذا التنافس المحموم والمسئول عنه مرشد الجمهورية علي خامنئي هو الذي تسبب في
الثغرة المعلوماتية بين جهاز المخابرات الإيراني وجهاز استخبارات الحرس الثوري
المسئول مباشرة عن حماية المسئولين الإيرانيين، وبالطبع في مقدمتهم مهندس المشروع
النووي الإيراني محسن زادة.
والمرشد يعيش في حيرة بين بقاء نظامه الذي تم تأسيسه على قاعدة تنافس الأجهزة، وبين
فاعلية هذه الأجهزة وفي مقدمتها الـأجهزة الاستخباراتية، والتي باتت هذه الخلافات
تؤثر على فعاليتها وحفاظها على أمن النظام.