لماذا قتلت فرنسا مسلمي مالي؟
"فرنسا دفعت ببلادنا نحو الكارثة وتريد فرض صراع طائفي لم تعرفه مالي أبدًا"
هذا ما رددته رابطة جمعيات فاسو-كورو المالية وهي إحدى الجمعيات التي باتت تذخر بها
هذه الدولة وتناهض التدخل الفرنسي في بلادها، وتقول هذه الجمعية في بياناتها: ما
فائدة القوات الفرنسية والدولية؟ إنها هنا، لديها معسكرات، ولكنها غير قادرة على
حمايتنا. وجنودنا هم الذين يسقطون في الجبهة.
ومنذ 2017، يرفع ماليون خلال المظاهرات شعارات من قبيل فرنسا ارحلي وأصبحت هناك
أصوات قوية على شبكات التواصل الاجتماعي تدعوا إلى إنهاء التواجد الفرنسي على
أرضهم، بشكل أصبح هناك رأي عام معادي لكل ما هو فرنسي.
ولكن الذي أجج الأحداث في مالي ما حدث منذ عدة أيام.
ففي قلب الصحراء الكبرى وبعيدا عن أعين الإعلام
وفي غارة جوية يشتبه في أنها
فرنسية (اعترفت بعدها فرنسا بالغارة)
أعلنت مصادر محلية في
مالي
مقتل 100 مدني في عرس بقرية بونتي، وسط مالي.
وهنا يثار سؤال هل ما قامت به فرنسا من قتل هو قتل عمد: أي تعمدت فيه فرنسا قتل
أبرياء، أم هو قتل خطأ نتيجة قصف منطقة تواجد فيها جهاديون، تعتبرهم فرنسا إرهابيين
كانوا قد اختلطوا بالسكان المحليين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذا الصراع؟
للإجابة على هذه الأسئلة يجب تحليل الروايات الإعلامية وبعدها تتبع الأهداف
الفرنسية في مالي
واستراتيجيتها
لتحقيق تلك الأهداف.
في البداية نقلت وسائل الإعلام الفرنسية، عن قيادة أركان الجيش الفرنسي أن المسلحين
الذين تم تحييدهم في غارة جوية كانوا بمنطقة دوينتزا، وهي منطقة تقع على مسافة 90
كلم غرب بلدة هومبوري وسط مالي والتي قتل فيها في الرابع من يناير الجاري، ثلاثة
جنود فرنسيين.
وتزعم قيادة الأركان الفرنسية، أن هذه الغارة تمت بعد التحقق من صحة المعلومات،
ومراقبة وضع المشتبه بهم، مما أدى إلى انتهاء الوجود الفعلي لجماعة "إرهابية" مسلحة.
غير أن صحيفة الغارديان البريطانية، نقلت عن شهود عيان أن الهجمات استهدفت فيما
يبدو رجالا على دراجات نارية في قريتي بونتي وكيكارا، يعتقد أنهم متشددون حسب وجهة
نظر الصحيفة، لكن المدنيين حُصِروا في الهجوم، حيث تجمع الناس لحضور حفل زفاف في
اليوم الذي حصلت فيه الغارة.
وقال رجل أصيب في الغارة لوكالة أسوشيتيد برس، إن "المتطرفين" اقتربوا من مجموعة من
المدنيين كانوا يحتفلون بزفاف وطالبوا الرجال الحاضرين بالانفصال عن النساء
ويضيف
الرجل، الذي نقل إلى مركز صحي في دوينتزا، كنا بصدد تنفيذ الأوامر عندما سمعت صوت
طائرة.. وفوراً وقعت ضربة من أعلى. بعد ذلك، لم أر أي شيء لأنني كنت فاقدًا للوعي.
وأفاد قرويون آخرون في
قرية
بونتي إن طائرة هليكوبتر وحيدة فتحت النار في وضح النهار، مما بث الذعر بين حشد
متجمع لحضور حفل زفاف.
بينما أعلن رئيس بلدية بونتي لإذاعة محلية، أن أكثر من 100 مدني قتلوا في غارة جوية
استهدفت قرية بونتي.
ويصعب التثبت من صحة كل رواية، لأن المنطقة نائية وتقع في قلب الصحراء الكبرى بعيدا
عن أعين وسال الاعلام.
ولكن مما يؤكد صحة رواية قتل المدنيين المتعمد، أنها ليست هذه المرة الأولى التي
يُقتل فيها مدنيون على يد القوات الفرنسية، ما تسبب في حالات غضب وغليان في صفوف
الماليين، تجلت في المظاهرات المنددة بالتواجد العسكري الفرنسي ببلادهم، وانتقادات
دبلوماسية لممارسات هؤلاء الجنود.
وعلى سبيل المثال ففي الأول من سبتمبر الماضي، اعترف الجيش الفرنسي بقتل مدني
وإصابة اثنين آخرين كانوا في حافلة تسير بسرعة.
وبذلك يمكن من هذه الأحداث وما يقول أهل مالي استنتاج أن هناك تربص فرنسي بهم وهذا
يدفعنا إلى محاولة فهم أهداف فرنسا من تدخلها في مالي.
حقيقة الأهداف الفرنسية في مالي
هناك ثلاثة أهداف تدور حولها الدوافع الفرنسية من تواجدها في مالي:
الأول الإرث الاستعماري: حيث تمثل أقطار الساحل الإفريقي اهتماما تاريخيا لفرنسا
يعود إلى الحقبة الاستعمارية، فقد احتلت فرنسا السنغال وموريتانيا ومالي وبوركينا
فاسو والنيجر.
الدافع الثاني يتعلق بالاقتصاد: فهناك استثمارات سياحية ودبلوماسية واقتصادية
فرنسية تقدرها بعض المصادر بقيمة 750 مليون يورو.
أما الدافع الثالث فيتعلق بشماعة الإرهاب، وتحاول فرنسا تصوير تدخلها في المنطقة
بسبب أن الارهاب الإسلامي في غرب أفريقيا يهدد أوروبا وخاصة جنوبها.
الاستراتيجية الفرنسية في مالي
كان التدخل العسكري هو الاستراتيجية المثلى للحكومات الفرنسية المتعاقبة لتطبيق هذه
الأهداف وخاصة في السنوات القليلة الماضية.
ففي يوم السابع عشر من يناير عام 2012، أعلنت مجموعات جهادية على صلة بتنظيم
القاعدة وقبائل الطوارق من الحركة الوطنية لتحرير أزواد تمردا على السلطات، وشنت
عدة هجمات مسلحة متزامنة أدت إلى سيطرتهم على شمال مالي، إثر وقوع انقلاب عسكري في
العاصمة باماكو جنوبي البلاد، وتمكنت الجماعات المسلحة من هزيمة الجيش المالي في
شمال البلاد، وبعد عام من ذلك التاريخ، وتحديدًا في الحادي عشر من يناير 2013،
أطلقت فرنسا عملية عسكرية تحت اسم سرفال بهدف وقف تقدم الجهاديين في المدن الكبرى
الواقعة شمالي مالي.
هكذا بدأت الاستراتيجية العسكرية الفرنسية لإعادة السيطرة على مالي، وفي 31 يوليو
2014 حلت محل سرفال عملية برخان بتكليف مباشر من الرئاسة الفرنسية بمحاربة المسلحين
الإسلاميين هناك، وفيها نشرت فرنسا 3 آلاف جندي من الجيش الفرنسي في البداية، إلا
أنها لم تحقق أي تقدم، فرفعت باريس العدد إلى 4500 عسكري، غالبيتهم في قاعدة غاو
(1700 عسكري) مع قاعدتين في كيدال وتيساليت في الشمال الشرقي على بعد 120 كم من
الحدود الجزائرية، إضافة إلى قاعدتين في ميناكا وجوسي.
ولا يقتصر مسرح عمليات حملة برخان على المستعمرة الفرنسية السابقة فقط، بل يشمل خمس
دول في منطقة الساحل هي: النيجر وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا، فضلًا عن مالي، إذ
يتسم الوضع السياسي في منطقة الساحل عامة بالهشاشة وتمتد صحاريها من موريتانيا
غربًا إلى السودان شرقًا، وهو ما ساعد الجماعات الجهادية على أن تتخذ منها قاعدة
تحرك لها، بينما يصعّب على القوات الفرنسية والدولية أن تتعامل معهم في تلك
التضاريس.
وبذلك سارت الرياح بما لا تشتهي السفن.
فتقول صحيفة لاكروا الفرنسية في تقرير لها إن الجيش الفرنسي ورط نفسه في مستنقع
مالي وبات غارقا في حرب مستمرة منذ سبع سنوات ولا يعرف كيف يخرج منها حتى الآن.
ومن هنا جاء تصريح رئيس أركان الجيش الفرنسي، أعادت صحيفة لاكروا التذكير به، فقد
قال فرانسوا ليكوينتر: كنا متفائلين تفاؤلا مفرطًا، إذ تصورنا في عام 2013 أن كل
شيء سيجري حله، وأن النصر على الجهاديين سيكون سريعا، وسوف يترجم على الفور إلى
نجاح سياسي، أما اليوم فالمنطقة كلها باتت مفتقدة إلى الاستقرار.
ومنذ تدخل فرنسا في مالي في عام 2013، قتل 41 جنديًا فرنسيًا على الأقل، بينهم 17
في عام 2019، لتتكبد فرنسا بذلك ثاني أكبر خسارة بشرية لها منذ حرب الجزائر
ولكن وبالرغم من ذلك، وفي تصريحات حديثة له في إذاعة
آر إف
الفرنسية قال ليكوينتر أن فرنسا لا تنوي الانسحاب من مالي، لكنها تحتاج إلى مزيد من
دعم حلفائها؛ لأن استقرار الأمن في هذه المنطقة ينعكس على أمن فرنسا وأوروبا.
ماذا تعني هذه التصريحات؟
تعني ببساطة أن فرنسا تواجه مشكلات على الصعيد العسكري لتنفيذ أهدافها في مالي
ولكنها بالرغم من ذلك لا تنوي التخلي عن تلك المقاربة العسكرية لتنفيذ أهدافها.