مائة عام على ظهور لبنان الكبير
ظل جبل لبنان منطقة معزولة جغرافيا وثقافيا على مدى ألف ومائتي عام من تاريخ الإسلام، وكانت تأوي إليه الأقليات الدينية والطائفية، بسبب معتقدها المحرّف المنبوذ، أو بسبب تاريخها الأسود، وموالاتها لكل غازٍ للمسلمين، وبخاصة زمن الحروب الصليبية (1097- 1299)، وليس بسبب اضطهاد الحكام المسلمين لها، كما يزعم المنتسبون إليها اليوم. وكان الموارنة والدروز، هم أهم تلك الطوائف.
ومع بداية عصر الامتيازات الأجنبية والاصلاحات الداخلية، في الدولة العثمانية، في العقد الرابع من القرن التاسع عشر، ومن ثم، انتشار النفوذ الأوروبي في صفوف الأقليات الطائفية والدينية، في بلاد الشام، والمراهنة عليها، من قبل الأوروبيين، لإحداث خلخلة في المجتمعات الإسلامية، وتفكيك دولة الخلافة العثمانية وإضعافها، وتحديدا خلال الفترة بين عامي 1840- 1850، والتي صاحبها تدفق السلع الصناعية، من المصانع الغربية، على مدن المنطقة العربية وعلى جميع مدن السلطنة العثمانية.
أقول مع بداية هذه الحقبة التاريخية، بدأت البرجوازية المارونية في جبل لبنان، والتي استفادت من الوكالات التجارية الأجنبية، وتصريف السلع الأوروبية، والتي كانت مقصورة عليها وحدها، إذ ذاك، بدأت تتضخم وتنتفخ، على حساب جيرانها الدروز، ومن ثم، أخذ أبناء هذه الطائفة المارونية يتمددون ويتوسعون جنوبا، نحو المناطق التابعة للطائفة الدرزية، ونتيجة لذلك فقد بدأت الاحتكاكات والتوترات تعملان عملهما بين هاتين الأقليتين المتجاورتين، ونتج عن ذلك في بداية الأمر، اشتباكات متقطعة، ومناوشات متتالية، والتي توجت باندلاع الحرب الشاملة والطاحنة، بينهما في عام 1860.
وفي ذلك الوقت، كان التنافس الاستعماري على النفوذ على أشده وبخاصة بين إمبراطوريتي فرنسا، وبريطانيا، لذلك، فقد سارعت كل من فرنسا الكاثوليكية، والبابوية بالتدخل في تلك الحرب، لصالح النصارى الموارنة، بينما سارع الانجليز البروتستانت، بالتدخل لصالح الدروز واتخاذهم حلفاء لهم، نكاية بخصومهم الفرنسيين ولخدمة مصالحهم الاستعمارية في المنطقة، بينما سارعت الدولة العثمانية، بالتدخل لإخماد الفتنة، ومعاقبة المتسببين فيها من الولاة العثمانيين وغيرهم، وفي الوقت نفسه، اتخذت الإجراءات التي تكفل إيجاد حل لهذه المشكلة المعقدة، والتي تقف وراءها الأصابع الأجنبية.
وقد تمثل ذلك الحل، بوضع العثمانيين لما سمي بـ "نظام المتصرفية"، وذلك نتيجة ضغوط مارستها عليها الدول الاستعمارية الأوروبية الفتية والصاعدة كبريطانيا وفرنسا والنمسا.
وبموجب هذا النظام " نظام المتصرفية"، أصبح جبل لبنان الصغير، ولاية مستقلة ذاتيا، في إطار الحكم العثماني، ويحكم هذه الولاية متصرف نصراني، لا يُعين ولا يُعزل، إلا بموافقة الدول الأوروبية الكبرى، ويعاون هذا الحاكم، مجلس مكون من اثنى عشر ممثلا عن الطوائف.
وكان هذا إيذانا ببداية الوصاية الأجنبية المباشرة على الأقليات في بلاد الشام، وتدفق الإرساليات الدينية على المنطقة من مختلف البلدان الأوروبية، بل وحتى أمريكا، وانفتح الباب واسعا للدول الأوروبية، ممثلا في قناصلها، للتدخل في الشئون الداخلية للدولة العثمانية، التي كانت، إذ ذاك، في سن الشيخوخة، وكانت متدهورة اقتصاديا وعسكريا وسياسيا وثقافيا، ولاسيما بعد الهزائم الكبيرة التي تعرضت لها على أيدي جيوش محمد علي باشا والا مصر، المنشق عنها، وتورطها في عقد القروض الربوية مع دول أوروبا.
والجدير بالذكر أن هذا النظام أي "نظام المتصرفية"، مقصورا على جبل لبنان الصغير، ولم يكن يضم بيروت، ولا طرابلس، ولا صيدا، ولا البقاع. وكان غالبية سكان هذه المدن والمناطق من المسلمين السنة، وكانت مرجعيتهم الكبرى هي دمشق: حاضرة الشام في كل العصور.
وعندما احتلت فرنسا سوريا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، وفقا لاتفاقية سايكس بيكو، التي عقدت بينها وبين بريطانيا عام 1916، بادرت بضم جميع المدن والمناطق السابقة الآهلة بالسكان المسلمين أقصد بيروت وطرابلس وصيدا والبقاع، والتي تشكل في الوقت الحاضر، ثلاثة أرباع مساحة الدولة اللبنانية، قامت بضمها إلى ذلك الجبل الصغير، وصنعت منها كيانا سياسيا جديدا، وفصلته على مقاس النصارى الموارنة، يعني وضعت تلك المدن والأقاليم، ووضعت سكانها المسلمين، تحت حكم الأقلية المارونية، دون أن تأخذ رأي المسلمين، أو تستشيرهم. وكان ذلك في الفاتح من أيلول عام 1920، وكان ذلك جزءا من الاتفاق بين فرنسا وبريطانيا، وتمهيدا لتحويل فلسطين، إلى وطن قومي لليهود، من قبل بريطانيا، تحقيقا لوعد بلفور الصادر عام 1917.
ولذلك، فقد عارض زعماء المسلمين السنة الذين هم أبناء المنطقة وأهلها وسكانها، هذا الإجراء الظالم، والمتعنت، والمذل، الذي اتخذته فرنسا، أي ولادة كيان مسيحي في الشام، قلب العالم الإسلامي، تحت حماية دولة استعمارية صليبية، معروفة بحقدها الأسود للمسلمين وعدائها الشديد لهم، قديما وحديثا، وهي فرنسا، فوق كون هذا الكيان المصطنع، يعني فصلهم، أي المسلمين، عن بقية إخوانهم في بلاد الشام، أو ما كان يعرف حينها بسورية الكبرى.
ولم ينخرط في هذا الكيان الجديد من المسلمين السنة، في البداية، إلا فئة محدودة، من ذوي التوجه العلماني، أو من المشائخ اللاهثين وراء مصالحهم الضيقة.
ففي عام 1926، أصدر المسلمون بيانات متتالية تعارض هذا الضم، وأعلن مسلمو صيدا، "أن جميع أفراد الطائفة الإسلامية التي تؤلف الأكثرية الحقيقية في هذه البلاد، لن يرضوا عن إلحاقهم بمتصرفية جبل لبنان، ذلك الإلحاق الذي أرغموا عليه إرغاما. وعلى هذا الأساس قررت الطائفة الإسلامية، في صيدا بإجماع الآراء عدم الاشتراك في سن الدستور اللبناني، وتكرير المطالبة بشأن الوحدة السورية".
وصدرت بيانات مماثلة عن قضاة المسلمين في طرابلس، وبيروت، وبعلبك، ولكنها لم تجد آذان صاغية، نظرا لانفراط عقد الخلافة، وانهيار وحدة المسلمين، بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى.
وكانت مدينة طرابلس، من أبرز المدن المعارضة للانفصال عن سورية، والمتمردة عن الانخراط في هذا الكيان الجديد الكسيح (لبنان الكبير)، والذي لن يكتب له البقاء إلا بالاعتماد على الخارج مثله مثل الدولة الصهيونية في فلسطين، ولا تزال كذلك بصورة أو أخرى، حتى هذه اللحظة، وهذا من أهم العوامل في مأساتها وعزلتها، وهو سبب الحصار الطويل المفروض عليها.
وهكذا، ونتيجة لهذا الضم القسري، حقق الموارنة مكاسب ضخمة، فمتصرفية جبل لبنان كانت معزولة جغرافيا، وليس لها منفذ على البحر المتوسط، كما أن الجبل كان شحيح الموارد الاقتصادية، وكان غالبية أهله يعملون في زراعة الأرض، ولم يكن الدخل كافيا في كل الأوقات، بل كانوا عرضة أحيانا للمجاعات، كما حدث في الحرب العالمية الأولى (1914-1917)، على سبيل المثال، ولهذا كانت الهجرة نحو الأمريكتين شائعة بين أهله، منذ وقت مبكر.
وهذا على عكس المدن والمناطق السنية المضمومة، التي كانت مدنا ساحلية تعج بالنشاط الاقتصادي، أو مناطق زراعية خصبة وافرة المياه.
ونتيجة لذلك، فقد انقلب الحال، وتضخمت دخول الموارنة، وشبعوا حتى بطروا، وظنوا أنفسهم أسيادا وبقية من حولهم عبيد لهم، وذلك نتيجة لسيطرتهم على السلطة السياسية والاقتصادية في الكيان الجديد، وتسلطهم عليه وعلى خيراته، وبدأوا بالزحف تدريجيا على مدينة بيروت السنية من الشرق، وشيئا فشيئا ظهرت مدينة بيروت الشرقية، وبعد ذلك جاء الشيعة فقطنوا في ضاحيتها الجنوبية، فصار المسلمون السنة في بيروت بين فكي كماشة، وهذا حالهم اليوم.
وقد استمرت سيطرة الموارنة على هذا الكيان الجديد حتى نهاية الحرب الأهلية (1975-1990)، لتبدأ بعدها سيطرة الشيعة اتباع نظام ولاية الفقيه الكهنوتي في إيران، بقيادة حزب الله.