الاتحاد الكونفيدرالي لأوروبا:
الاتحاد الاوروبي هو عبارة عن اتحاد كونفيدرالي
من الدول التي تعهد الإدارة اليومية للكثير من النطاقات السياسية إلى ذراع إداري
(المفوضية الأوروبية) والسياسة المالية إلى البنك المركزي الأوروبي. والقضايا
السياسية الهامة، مثل الدفاع والسياسة الخارجية والضرائب، تظل ضمن صلاحيات الدول
القومية. وتلتقي الدول في أشكال مختلفة للتعامل مع تلك المشكلات. ويجب أن تصل الدول الأعضاء في منطقة اليورو إلى اتفاق بالإجماع بشأن الحلول للمشكلات المالية لليونان
وإيرلندا والبرتغال، مثلما يجب أن تتفق أيضًا على مشاركتها في الحملة العسكرية على
ليبيا داخل سياق الاتحاد الأوروبي. ومن أجل استصدار أي قرار هام يجب أن تلتقي
الدول الأعضاء وأن تبحث وتصل إلى حل مقبول يتفق عليه الجميع، والذي عادة ما يفرز
نتائج غير حاسمة كنتيجة للمواءمات التي تحدث بين الدول.
والمثال الأوفق لحالة الاتحاد
الأوروبي الآن لا يوجد في التاريخ الأوروبي، ولكن في التاريخ الأمريكي. فقد كان
ذلك في الفترة ما بين الحرب الثورية الناجحة في عام 1783 وما بين التصديق على
الدستور الأمريكي عام 1788. ففي تلك الفترة التي استغرقت خمس سنوات، كانت الولايات
المتحدة تحكمها مجموعة من القوانين المشكلة في إطار القانون الكونفيدرالي. فالدولة
ككل لم يكن لديها أية رئيس تنفيذي واحد أو حكومة أو حتى جيش كما كانت بدون سياسة
خارجية موحدة، وكانت الولايات تحتفظ بجيوشها الخاصة والقليل منها كان لديه سفن
بحرية بسيطة، وكانوا يمارسون سياسة خارجية وسياسة تجارية مستقلة عن رغبات الكونجرس
العام، والذي كان آنذاك عبارة عن هيئة فوق قومية كان لديها صلاحيات أقل من
البرلمان الأوروبي الآن (هذا بالرغم من المادة السادسة من مواد الاتحاد
الكونفيدرالي، والتي كانت تنص على أن الولايات لا تستطيع أن تمارس سياسة خارجية
مستقلة بدون موافقة الكونجرس).
فكان من المفترض من الكونجرس أن يجمع
تبرعات من الدول ليموّل المؤسسات مثل الكونجرس والجيش وأن يدفع تعويضات ومزايا
للمحاربين القدماء من الحرب الثورية ويعيد القروض التي أعطتها لهم القوى الأوروبية
أثناء الحرب ضد البريطانيين. ولكن الولايات رفضت أن تعطي الكونجرس الأموال، ولم
يكن يستطيع أي فرد أن يفعل شيئًا حيال ذلك. فقد أجبر الكونجرس على طباعة الاموال،
مما أدى إلى أن أصبحت عملة الاتحاد بلا قيمة.
وبمثل تلك البنية المفككة للاتحاد،
فإن الدولة الناشئة آنذاك لم تستطع أن تتحمل نفقات الحرب الثورية حتى النهاية، فقد
أدت طبيعة النظام الدولي في تلك الحقبة إلى تحريش الدول بين بعضها البعض وضد القوى
الأوروبية العدوانية، مما أدى إلى الإضرار بصورة كبيرة بالاستقلال الأمريكي ككل
وكذلك استقلال الولايات وحد من قدرات الحكومة، فقد ثبت أن الأعباء الاجتماعية
والاقتصادية والأمنية كبيرة للغاية ولا تستطيع أن تتحملها كل ولاية على حدة، وكان
من الصعب على الكونجرس الذي كان بلا صلاحية أن يواجهها أيضًا.
وما أدى إلى تدهور الأوضاع أيضًا هو
الثورة التي اندلعت في ماساتشوستس الغربية التي قادها دانييل شايز عام 1787،
فثورته في جوهرها كانت كارثة اقتصادية، فقد أثقلت الديون المستحقة للدول الأوروبية
كاهل الأمريكيين وطالبوهم بدفع ديونهم نظير الحرب الأمريكية، فانهارات اقتصادات
الولايات ومعها حياة العديد من الأسر والمزارعين في المناطق النائية، الكثير منهم
كانوا مقاتلين سابقين في الحرب الثورية والذين سبق أن وعدوا بمزايا مالية. وتم فرض
إجراءات تقشف ـ عادة ما كانت في صورة مصادرة أراض ـ على الفقراء في المناطق
النائية لدفع الديون الأوروبية، وقد تم التنسيق لثورة شايز بدون مساعدة الكونجرس
ولكن على يد مليشيات من ماساتشوستس التي كانت تعمل بدون أي مراقبة فيدرالية عليها،
وتم إخماد تلك الثورة ولكن العجز الأمريكي كان ظاهرًا للعيان، سواء داخليًا أو
خارجيًا.
فالأزمة
الاقتصادية والقلاقل الأمنية الداخلية والخوف المستمر من الهجمات المضادة
البريطانية ـ فالبريطانيون لم يسحبوا قواتهم من القلاع التي كانت تسيطر عليها من
الجانب الأمريكي من البحيرات العظمى ـ كل ذلك أدى إلى وجود انطباع لدى الولايات
الراغبة في الاستقلال أن "اتحادًا أكثر كفاءة" أصبح ضرورة حتمية، فتكونت
الولايات المتحدة الأمريكية بالشكل الذي نراه اليوم. فقد تنازللت الولايات عن
حقوقها في أن يكون لها سياسة خارجية خاصة بها أو وضع سياسات تجارية مستقلة لكل
ولاية على حدة، كما خصصت "الولايات المتحدة الجديدة" فرعًا تنفيذيًا له
صلاحيات شن الحرب وممارسة السياسة الخارجية، بالإضافة إلى جهاز تشريعي لا يمكن
للولايات تجاهله بعد ذلك. وفي عام 1794 أظهر رد الحكومة على ما سمي آنذاك ثورة
الويسكي في غرب بنسلفانيا مدى قوة الترتيبات الفيدرالية التي وضعتها الدولة
الناشئة، في تناقض تام لمعالجة الكونجرس لثورة شايز السابقة. فقد نشرت واشنطن
جيشًا من أكثر من عشرة آلاف رجل لقمع بضع مئات من عمال تقطير الخمر الذين رفضوا
دفع ضريبة جديدة على الويسكي من أجل تمويل الدين العام، وبالتالي أرسلت الدولة
رسالة واضحة بشأن مدى قوتها الجديدة العسكرية والسياسية والمالية.
وعندما ندرس
تطور الاتحاد الكونفيدرالي الأمريكي وتحوله إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فإننا
نستطيع أن نجد أوجه تشابه كثيرة مع الاتحاد الأوروبي، وذلك بوجود مركز ضعيف يتكامل
الجميع حوله، دول مستقلة، أزمة اقتصادية وديون متضخمة. ولكن الاختلاف الأبرز بين
الولايات المتحدة في أواخر القرن الثامن عشر وبين أوروبا في القرن الحادي والعشرين
هو مستوى المخاطر الخارجية. ففي عام 1787 كانت ثورة شايز مؤثرة في الكثير من
السياسيين، وبخاصة جورج واشنطن والذي أزعجته الأزمة كثيرًا، ولفتت انتباه لمدى
هشاشة الدولة آنذاك. فإذا استطاعت مجموعة من المزارعين أن تهدد واحدة من أقوى
الولايات في الاتحاد، فماذا تستطيع القوات البريطانية التي لا تزال متمركزة في
حامياتها على الأرض الأمريكية وفي كيبيك في الشمال أن تفعل؟ فالولايات تستطيع أن
تصارع من أجل علاج الأزمة الاقتصادية، ولكنها لا تستطيع أن تمنع هجوم مضاد بريطاني
أو حماية أسطولها التجاري من هجمات القراصنة، فالولايات المتحدة لم تكن تستطيع أن
تنجو من ذلك التشوه في شكل الدولة بذلك العجز في الجيش والسياسة.
ولكن لمصلحة
الولايات المتحدة فإن كافة الولايات كانت تشترك آنذاك في بيئة جغرافية متشابهة
بالإضافة إلى وجود ثقافة ولغة جامعة لكل الولايات؛ فبالرغم من أنهم كانت لديهم
سياسات اقتصادية واهتمامات مختلفة، إلا أنهم جميعًا في النهاية كانوا معتمدين على
التجارة القادمة من المحيط الأطلنطي، والتهديد بأن تلك التجارة يمكن تحطيمها على
يد قوة بحرية متفوقة، أو حتى قراصنة الشمال الإفريقي، فإن ذلك كان خطرًا واضحًا
وآنيًا على الجميع. أما خطر قيام البريطانيين بشن هجمات مضادة من الشمال فربما لم
يكن تهديدًا وجوديًا على الولايات الشمالية، ولكنهم أدركوا أنه إذا ما سقطت
نيويورك وماساتشوستس وبنسلفانيا، فإن الجنوب لن يحظى سوى باستقلال اسمي وسيعود مرة
ثانية سريعًا إلى حالة الاحتلال البريطاني من الناحية الفعلية.
ولكن في أوروبا
لا يوجد مثل ذلك الوضوح بشأن ما الذي يمثل الخطر الأكبر على الكيان، فبالرغم من أن
هناك شعورًا عامًا، على الأقل بين النخبة الحاكمة، بأن الأوروبيين يتشاركون في
الاهتمامات الاقتصادية نفسها، فمن الواضح للغاية أن اهتماماتهم الأمنية ليست
متكاملة بين بعضهم البعض. فلا يوجد تصور مشترك يتفق عليه الجميع بشأن أي تهديد
خارجي بعينه، فبالنسبة لدول وسط أوروبا والتي انضمت مؤخرًا إلى الاتحاد الأوروبي
والناتو، فإن روسيا لا تزال تمثل خطرًا. وقد طالبوا من الناتو (وحتى من الاتحاد
الأوروبي نفسه) بإعادة التركيز على القارة الأوروبية وعلى حلف الأطلنطي بأن يعيد
تطمينهم بشأن التزامه بأمنهم. وفي المقابل، فقد رأوا فرنسا تبيع مروحيات متقدمة
إلى روسيا، وإلى ألمانيا وهي تبني مركز تدريب عسكري متقدم في روسيا.
إنشاء
أمن إقليمي أوروبي:
إن أزمة
منطقة اليورو، والتي دهمت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الذين يستخدمون
اليورو وأيضًا تعد هامة لكافة الاتحاد الأوروبي، هي بالتالي أزمة ثقة. فهل
الترتيبات السياسية والأمنية الحالية في أوروبا ـ الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلنطي
ـ تعالج بصورة صحيحة تلك المصالح المختلفة للدول القومية؟ هل الدول الأعضاء في تلك
المنظمات تشعر حقيقة أنهم يتشاركون في نفس المصير الحتمي؟ هل هم راغبون، كما رغبت
المستعمرات الأمريكية في نهاية القرن الثامني عشر، في التخلي عن استقلالهم من أجل
إنشاء جبهة مشتركة ضد التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية؟ وإذا كانت الإجابة
على تلك الأسئلة بالنفي، إذن ما هي الترتيبات البديلة والتي تلبي اهتمامات الدول
القومية في أوروبا؟
على الجبهة
الأمنية، توجد لدينا إجابة بالفعل: أقلمة المنظمات الأمنية الأوروبية، أي تحويلها
إلى منظمات أمن إقليمي؛ فالناتو توقف عن الاستجابة الفاعلة لمصالح الأمن القومي
للدول الأوروبية، فألمانيا وفرنسا سارا في اتجاه توافقي مع روسيا، وهو ما أغضب دول
البلطيق ووسط أوروبا. وكرد على ذلك، فإن تلك الدول الأوروبية في وسط القارة بدأت
في ترتيب بدائل. فالدول الأربعة لوسط أوروبا التي تشكل مجموعة "فايسيجراد"
الإقليمية ـ بولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا والمجر ـ استخدمت تلك المجموعة كقالب
لإنشاء مجموعة قتال لوسط أوروبا. أما دول البلطيق والتي تشعر بالتهديد من عودة
الظهور الروسية على المسرح العالمي، حاولت أن توسع من تعاونها العسكري والأمني مع
الدول الشمالية، مع توقع بانضمام ليتوانيا في المجموعة القتالية الشمالية، والتي
أستونيا عضو بالفعل فيها. أما فرنسا والمملكة المتحدة فقد قررتا تحسين التعاون
بترتيبات عسكرية موسعة بنهاية 2010، وعبرت لندن أيضًا عن اهتمامها في أن تصبح
قريبة من المشاريع العسكرية التعاونية الناشئة بين دول الشمال الأوروبي ودول
البلطيق.
إن الأقلمة
هي الأوضح الآن في الشئون الأمنية الأوروبية، ولكنها فقط مسألة وقت قبل أن تبدأ في
فرض نفسها في النواحي السياسية والاقتصادية أيضًا، فعلى سبيل المثال كانت
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل صريحة بشأن رغبتها في أن تسرع بولندا وجمهورية
التشيك من جهودهما للدخول في منطقة اليورو. ومؤخرًا أشارت كلا الدولتين إلى أنهما
يشعران بالارتياح تجاه فكرة الدخول إلى منطقة اليورو. وهذا القرار بالطبع متعلق
بدخول منطقة اليورو في حالة أزمة، ولكننا لا نستطيع التقليل من الشعور العام في وارسو
بأن برلين ليست ملتزمة بأمن بولندا. فدول أوروبا الوسطى ربما لا تكون الآن ضمن
منطقة اليورو (سوى إيستونيا وسلوفينيا وسلوفاكيا)، ولكن مستقبل منطقة اليورو
متضافر ومتشابك ويمثل إغراء لبقية أوروبا ككتلة واحدة اقتصادية وسياسية. فكافة
الدول الأوروبية ملزمة بدخول منطقة اليورو (سوى الدنمارك والمملكة المتحدة، واللتي
تفاوضتا على الخروج)، فمن وجهة نظر ألمانيا، فإن عضوية جمهورية التشيك وبولندا
أكثر أهمية من الدول الأخرى في أطراف أوروبا، فتجارة ألمانيا مع بولندا وجمهورية
التشيك وحدها أكبر من تجارتها مع أسبانيا واليونان وإيرلندا والبرتغال مجتمعة.
الأقلمة الأمنية لأوروبا ليست مؤشرًا طيبًا على مستقبل منطقة
اليورو، فالاتحاد النقدي لا يمكن زرعه في حالة من عدم الاتحاد الأمني، وخاصة إذا
كان الحل لأزمة منطقة اليورو يصبح باتجاه المزيد من الاندماج. فوارسو لن تعطي
برلين حق النقض (الفيتو) على ميزانيتها وإنفاقها إذا كان الاثنين ليسا على توافق
بشأن ما الذي يمثل تهديدًا أمنيًا لهما. كما أن فرض الضرائب يعد واحدًا من أهم
أشكال سيادة الدولة، ولا يجب مشاركتها مع الدول الأخرى التي لا تشترك معها في
المصير السياسي والاقتصادي والأمني.
وهذا ينطبق على أي دولة، ليس فقط بولندا، فإذا كان الحل لأزمة
منطقة اليورو هو مزيد من الاندماج، إذن فإن مصالح تلك الدول المندمجة يجب أن تنحاز
عن قرب على أكثر من مجرد الأمور الاقتصادية، فالنموذج الأمريكي من أواخر القرن
الثامن عشر يوضح ذلك بصورة كبيرة، فالولايات الأمريكية كانت لها مصالح اقتصادية
متنوعة أكثر من الدول الأوروبية اليوم، ولكن مخاوفهم الأمنية جمعتهم معًا، ففي
الحقيقة فإن اللحظة التي تقلص فيها التهديد الأمني الخارجي في منتصف القرن التاسع
عشر بسبب الإرهاق الأوروبي في حروب نابليون، اهتزت الوحدة الأمريكية بسبب الحرب
الأهلية، فقد ظهرت الاختلافات الاقتصادية والثقافية أثناء الحرب الثورية واندلعت
في صورة حريق هائل في اللحظة التي أزيل فيها الخطر الخارجي.
إن الخط الأساسي هو أن الأوروبيين يجب عليهم أن يتفقوا على
أكثر من مجرد تخطي عجز الموازنة في أي دولة عن 3% كأساس لمزيد من الاندماج وهو شرط
انضمام الدول للاتحاد الأوروبي طبقًا لمعاهدة مايستريخت، فالسيطرة على الميزانية
تنتقل إلى قلب سيادة الدولة، والدول الأوروبية لن تتخلى عن سيطرتها إلا إذا علموا
أن مصالحهم الأمنية والسياسية سوف تؤخذ على محمل الجد من الدول المجاورة لهم.
- دولة أوربا المقسمة (1/3)
- دولة أوربا المقسمة (2/3)
- دولة أوربا المقسمة (3/3)