• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
من أوابد الوعاظ

من أوابد الوعاظ

 

تدفع العاطفة القوية صاحبها دفعةً ربما أخلّت بتوازنه ، وربما تحكمت كثيراً فيما يطرحه ، وأدت به إلى عدم اتزان ، ومبالغات تحوي مخالفات شرعية .

استمعت لأحد الوعاظ الغيورين يتحدث للمصلين مع مطلع شهر رمضان حول القنوات الفضائية ، وانطلق في حديثه من قوله : (يا باغي الخير أقبل) وأقسم أيْماناً عدة أنه ليس في جميع هؤلاء من يبغي الخير ومن يريده .

إنه وإن كان كثير من هؤلاء يعلن المعصية ويظهرها ، إلا أنهم ليسوا في درجة واحدة ، وربما كان فيهم من المصلين البعيدين عن الفواحش والآثام ، لكن غلبه هواه ، أو ضعفت قوامته على أهله .

وبعد ذلك بأيام سمعت آخر يتحدث عن أولئك الذين لا يشهدون الصلاة مع المسلمين إلا في رمضان ، فقال : (والله إنهم يحبون الله ورسوله ، ويريدون الخير لكن يغلبهم هواهم) إنه تطرف آخر .

إن المسلم لا يمكن أن يشهد للمصلين الخاشعين أمامه بهذه القضية ؛ التي هي قضية قلبية ، فكيف يقسم على أن جميع الذين لا يشهدون الصلوات مع المسلمين في غير رمضان يحبون الله ورسوله ؟ أليس التخلف عن صلاة الفجر والعشاء من علامات أهل النفاق بنص كلام النبي ؟ فعن أُبي بن كعب -رضي الله عنه- قال : صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً الصبح فقال : (أشاهدٌ فلان ؟ ) قالوا : لا ، قال : (أشاهدٌ فلان ؟ ) قالوا : لا ، قال : (إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين ، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على الرّكب..)[1] .

ويذكر الشيخ عبد اللطيف السبكي أن أحد الخطباء في الأزهر خطب حول حديث : (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) ، فهوّن أمر المعصية ، وذكر أن الله فطر الناس عليها ، حتى قال بالحرف الواحد : (إن الله لم يقل للناس لا تسيئوا ، ولكن قال إذا أسأتم فاستغفروا) .

إذن فما معنى أن تكون السيئة سيئة ؟ ومن أين له في كتاب الله وسنة رسوله-  صلى الله عليه وسلم- أن الله لم يقل للناس : لا تسيئوا ؟ وأين هؤلاء عما أُثِر عن علي -رضي الله عنه- أنه قال : (ألا أنبئكم بالفقيه حق الفقية : من لم يقنط الناس من رحمة الله ، ولم يُرخص لهم في معاصي الله ، ولم يؤمنهم مكر الله)[2]  .

لقد غلّب الرجل الأول جانب الخوف ، وأشفق مما يرى من كثرة الفساد وطرقه ، والأخرون غلّبوا حرصهم على هؤلاء العصاة ورغبتهم في إعادتهم إلى ركاب الطائعين .

فما أجدر الدعاة والوعاظ أن يكونوا معتدلين فيما يطرحونه للناس بأن يعتدلوا في حماسهم لمشروع أو برنامج أو ظاهرة من الظواهر ، وأن يعتدلوا حين يخاطبون الناس ويزنوا ألفاظهم بميزان الشرع ؛ فالإفراط والمبالغة قد تؤدي إلى نتائج معاكسة لما يريد صاحبها ، وسنة الله قائمة في الكون أجمع على الاعتدال .

إن استخدام الأسماء والألفاظ الشرعية ، وسعة الثقافة والاطلاع ، وعمق النظر للقضايا ، والشمول وعدم نظر الأمور من زاوية واحدة ، وهدوء الطبع والاتزان ، والتربية السليمة ، إن ذلك كله يمكن أن يسهم إلى حد كبير في التخفيف من اللغة واللهجة الحادة التي تسيطر على حديث بعضنا أحياناً .

اللهم إنا نسألك السداد في القول والعمل ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .

 



(1) رواه أحمد (30758) ، وأبو داود (554) ، والنسائي (843) .

(2) تذكرة الحفاظ (1/13) .

 

أعلى