كورونا والهلع
"جاءت إلينا في مستشفى العزل إحدى البنات في العشرينات من عمرها مصابة بحروق من الدرجة الثالثة في كل جسمها، والسبب أن أمها وأختها أغلقوا عليها إحدى الحجرات في المنزل وأضرموا فيها النار عندما عرفوا انها مصابة بكورونا، ثم ما لبثت أن دخلت العناية المركزة نصف ساعة وتوفاها الله:
هذا ما ترويه طبيبة تعمل في إحدى مستشفيات مصر، كان هذا مشهدا واحدا عززته مشاهد كثيرة منها، قيام سكان إحدى القرى دفن ابنة قريتهم وهي طبيبة والتي توفاها الله بمرض كورونا برفض دفنها في المقابر، خوفا من نقل العدوى لهم وظل الجثمان مطرودا حتى أتت الشرطة وأجبرت الأهالي على القبول بالدفن.
هذه المشاهد تعكس حالة الخوف والفزع التي انتشرت في أوساط الجماهير، ليس في دولة أو منطقة معينة بل استشرت في كثير من الدول والمناطق.
هذا الرعب الذي يجتاح العالم، وحالة التضخيم في المرض الذي هو بإجماع المتخصصين في الطب هو نوع من أنواع الانفلونزا، وبعدها يختلفون في توصيف الشدة عند مقارنته بغيره في قوته وتأثيره، بل هناك أمراض أشد منه فتكا وانتشارا ومميتة ولا تشكل فوبيا وتخويفا مثل ما حدث وما يحدث في كورونا.
فلماذا اذن انتشار الفزع والخوف في صفوف البشر، لدرجة أن أم تقوم بإحراق ابنتها، أو أناس من البشر يرفضون دفن أحدهم، أو زوج يلقي بزوجه من الشرفة خوفا من المرض، وغيرها من آلاف الحوادث التي تحدث في صورة شبه يومية وتملأ الاعلام ووسائل السوشيال ميديا؟
هناك عدة عوامل تفسر حالة الهلع التي لدى الناس من كورونا منها:
أولا: العلاقة المتبادلة بين الفرد والمجتمع خاصة من الناحية الفكريّة:
فمن المصطلحات شائعة الاستعمال في وصف العلاقة الفكرية بين الفرد بالجماعة مصطلح ثقافة القطيع، حيث يطلق هذا المصطلح على السلوك الذي يتبعه الأفراد المنضويين في مجتمع ما، حيث تتحول أفعالهم وردود أفعالهم من تصرفات مبنيّة على التخطيط والعقلانيّة إلى تصرفات متأثرة بسلوك هذه التجمع، وقد استمد هذا المصطلح تسميته هذه من سلوك الحيوانات في قطعانها أو أسرابها أو جماعاتها التي تلتحق بها.
فمثلاً نجد أن فردا ما قد يكون مقتنعاً بفكرة من وجهة نظره، ولكنه وعندما يختلط داخل مجتمعه تتحول مواقفه الأولى إلى مواقف تتشابه إلى حدٍّ بعيد مع مواقف هذا المجتمع.
ولذلك فإن الأفراد الذين استطاعوا إحداث التغييرات الجوهريّة عبر التاريخ الإنساني، هم أولئك الأشخاص الذين تمردوا على الأفكار المتوهمة في مجتمعاتهم، والتي ليس لها سند من الواقع وتختلط فيها الحقائق بالأوهام، واحتفظوا بقدرتهم على التفكير المستقل فصاروا بذلك قادرين على توجيه الجماهير وإدارتها، وقيادتها نحو تحقيق أهدافهم بصرف النظر عن نوع أو تقييم تلك الأهداف.
ثانيا: انتشار ظاهرة الخوف الغير صحي
"الخوف يجعل الناس أكثر حذرًا، وأكثر طاعة، وأكثر عبودية"، هذه مقولة الفيلسوف الإغريقي سقراط ذكرها منذ القرن الخامس قبل ميلاد....
أي أن الخوف أصبح فكرة وأداة يتم غرسها في الفرد من الهياكل والأبنية المختلفة داخل المجتمع ليتحقق بها السيطرة والتوجيه، ووفقاً لـ اريك فروم في كتاب (جوهر الإنسان) يقوم الموجهون في المجتمعات بالتلاعب بعقول الناس، لإقناعهم بأن هناك عدواً يتهددهم وبذلك يخلقون رد فعل ذاتي لدى الأتباع، الذي يؤدي إلى العدوانية والتسلح والهجوم كرد فعل لهذا التهديد...!
فما تغرسه التربية الاسرية والمدرسية في الطفل منذ نعومة أظفاره، أصبحت في جزء كبير منها تعتمد على الخوف من كل شيء: من أول الرسوب في الامتحانات حتى فوات الرزق والوظيفة أو المهنة التي يؤمن دخلها حياته، فالحضارة المعاصرة نجحت في زرع الخوف في نفوس الناس من كل شيء، من حادثة أو فاجعة أو حتى مرض يصيب جسده ويجعله يبدو عاجزا، وبات لا يتوقع إلا الأسوأ.
والآن استغلت الحضارة المعاصرة مشهد الخوف من انتشار فيروس كورونا المستجد، وتحوله إلى وباء عالمي يحصد أرواح أعداد مهمة من البشر ولم يتم اختراع دواء مضاد له حتى الآن: استغلت ذلك الوباء لتصنع منه فوبيا، عززتها وسائل الاعلام على الفضائيات أو على السوشيال ميديا، وهي تنقل الشوارع الخالية من الناس أو الناس الذين يتساقطون من المرض أو الشاشات التي تنقل الاحصائيات المتهافتة عن عدد المصابين وقتلى الفيروس، أو حرق جثث المتوفين من المرض أو حتى مشاهد أماكن العزل التي شبهها البعض بالزنازين.
ولكن لا تعطي الوسائل تلك للناس نظرة واسعة وشاملة وأعمق، فنحن لا نتحدث عن مليارات الناس في جميع أنحاء العالم الذين يتعرضون فعلياً للفناء بسبب الفقر والعنف والجوع والأمراض التي لا يمكن الوقاية منها، ولكننا نتحدث عن وهم خيالي زرعته آلة الخوف المستعرة في أذهان البشر على امتداد العالم.
ثالثا: الاستسهال
فثقافة الاستسهال امتدت من المجال العملي الى الفكري، فقضت على روح المثابرة والصبر في التفكير وفحص جميع وجوه المشكلة، ووصلت حتى الى الجامعات ومراكز الدراسات التي من المفترض فيها ان تكون مجالا لعصف الذهن وتوليد الافكار ومعرفة اتجاهات الظاهرة الماضية والحاضرة ومن ثم توقع امتداداتها المستقبلية، ولذلك أطلق عليها مخازن الافكار ولكن الواقع تغير وانقلب الحال في هذه الجامعات والمراكز.
وانعكست ثقافة الاستسهال ليس على الأكاديميين وحدهم بل على جميع فئات المجتمع، فالطبيب مثلا لا يريد التعمق في المرض ومقارنته بالأمراض الأخرى، يظن أن كونه طبيبا يعطيه الحق في تقدير خطورة المرض دون دراسة ومقارنات، لا يريد التخلص من الهالة الدعائية والإعلامية المصاحبة، فأصح مجرد ترسا يساهم في اعطاء انطباعات خاطئة عن المرض وتفشيه.
ولكن كيف نتخلص من حالة الهلع والفزع تلك؟
الحل كما هو في أي كارثة تواجه الانسان هو العودة إلى الله، والتعرف والتفاعل مع العقيدة ومنهج المولى في إصلاح البشر.
الاسلام في حقيقته هو تحرر من العبودية أي عبودية لغير الله وجعلها لله وحده.
لقد فهم هذه الحقيقة البسيطة البدوي الاشعث الأغبر مبعوث جيش المسلمين الذي دخل على رستم قائد الفرس في ملكه الفخم العظيم، فنظر الى البدوي في ملابسه الرثة وسأله ما الذي أتى بكم؟ فأجابه ببساطة: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد الى عبادة رب العباد.
وفهمها أيضا القائد المسلم عندما وصلت جيوشه الى شاطئ المحيط الاطلنطي، ليدفع فرسه في الماء ويقول يا رب يا رب لولا هذا البحر المحيط لمضيت في البلاد مدافعا عن دينك مقاتلا من كفر بك وعبد غيرك.
هذا هو جوهر رسالة السماء، تحقيق العبودية الكاملة لله تلك العبودية التي تحرر الانسان، تحرره من نمط التفكير السائد لينطلق عقله مفكرا باحثا عن السنن والقوانين التي أودعها رب الكون في كونه، تحرره من ثقافة " “إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مهتدون” لينطلق في رحاب وآفاق المعرفة.
والعبودية تتجلى معانيها في أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فالإسلام جاء ليحرر الانسان من الخوف: الخوف على حياته ورزقه وصحته وولده، فالآجال مكتوبة، والأعمار محددة من قبل ان يولد الانسان، وكذلك شقائه وسعادته، وصحته وهرمه.
الإسلام هو الذي أنتج شخصيات مقدامة على كل خير، جريئة في الحق لا تخاف إلا الله لا يرهبها عدو أو ضيق في رزق أو ابتلاءات أو محن أو مرض.
وتلك هي الوصفة الناجعة للتحرر من أوهام كورونا.