تتوارد
تساؤلات جمّة لدى كثيرين تتعلق بمكان وظروف قضاء الإجازة الصيفية. سّيما مع اقترابها
وكثرة الذين حزموا حقائبهم استعداداً للسفر والسياحة. بدوافع ورغبات مختلفة؛ منها ما
قد يكون لمجرد التقليد لجيران وزملاء لا يلتزمون بكثير من أخلاق الإسلام، مما قد يسبب
مشاكل أخلاقية واجتماعية ومادية؛ ومنها ما قد يكون بنوازع أخرى، ذلك أن الأسر أو الشباب
قد يتصرفون بناءً على أنهم لا يريدون أن يشذوا عن الجيران أو الأصدقاء أو الزملاء..دون
النظر إلى عواقب ومآلات الأمور من حيث قيمة الوقت الذي هو رأس المال في هذه الحياة.
يقول أبو الوليد الباجي:
إذا كنت أعلم علماً يقيناً
... بأن جميع حياتي كساعة
فلم لا أكون ضنيناً بها
... وأجعلها في صلاح وطاعة.
لقد
جعل الله سبحانه الليل والنهار ظرفيْن للحياة وما اكتنفته من الأعمال والأقوال.
وليست
العطلة الصيفية إلا نموذجاً من ذلك؛ بل هي فرصة للراحة المشروعة ووقت للاستجمام المأذون
وفرجة يبتعد من خلالها الإنسان عن ملل الحياة وسأم الدراسة أو الوظيفة وما فيها من
زحام ونصب. وعلى ذلك أصبحت الإجازة الصيفية هاجِساً يؤرِّقُ مضاجع شتى صنوف فئات المجتمع
من آباء وأبناء على السواء.
ففي
الوقت نفسه الذي يضغط فيه الأولاد لإقناع الآباء بالظروف الشبابية التي يرونها مناسبة
لقضاء الإجازة في نظرهم، يحتار الآباء لما ينتابهم من القلق والاضطراب، خوفاً على أولادهم
من الانحراف والضياع، الذي قد يجرهم إليه أصحاب السوء وقرناء الانحراف، ولُصوص الأوقات
الذين يركبون موجة العطلة الصيفية للإفساد والإضلال.
وعلى
هذا يتساءل الآباء عن أنجع السبل لحماية أولادهم من الوقوع في قبضة الأشرار.
وباستعراض
النعمة العظيمة بهذا الدين الحق تكون الهداية من الحيرة والأمن من المخاوف. هذا الدين
الذي علّم أتباعه كل طريق موصل إلى الخيرات، وأدّبهم فحلاهم بأكمل الأخلاق، وهيأ لهم
منهجاً صحيحاً متكاملاً يتمكنون بالتزامه من الوصول إلى السعادة والطمأنينة، ويستطيعون
عبره من تحديد أولوياتهم واستغلال أوقاتهم في ما يعود عليهم بالنفع الديني والدنيوي،
وبما يحفظهم ويحميهم من مخاطر صحبة السوء ويُجنبهم مهيع الأشرار.
إن
العطلة الصيفية مناسبة كاشفة عن حقائق المعطلين وطموحات المصيفين؛ ذلك أن الذين يحملون
هموم الأمة وآمالها ويسعون إلى تضميد جروحها ومعالجة آلامها يستغلون فرصة الراحة للدعوة
إلى الله تعالى ومطالعة أحوال المسلمين للمساهمة الجادة في كشف كرباتهم بالسعي الجاد
والعمل الدؤوب لإعادتهم إلى مشكاة النبوة وإزالة الوهن الذي اعتورهم بسبب ما دبّ في
نفوسهم من أجيج التعلق بالماديات والابتعاد عن تعاليم هذه الشريعة المباركة التي جاءت
لإنقاذ البشرية من أتون الضلال وحمايتها من الباطل وغواية المبطلين.
كما
أن العطلة أيضاً مسبار كاشف لأحوال المنافقين الذين يبذلون قصارى جهودهم للصد عن سبيل
الله تعالى وذود الناس عن منهاج النبوة مستهونين في سبيلهم ذلك أغلى ما يملكون، رغم
استعظامهم لأتفه الأشياء في محجة إحقاق حق أو إبطال باطل، أولئك الذين صدق عليهم قول
الله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن
يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ
فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}.
إضافة
إلى ديدنهم في الفري في أعراض الدعاة وطلبة العلم الذين يتجشمون عناء الأسفار ويتعنون
المشاق كالأطباء يتحسسون المرض في جسم المجتمع الإسلامي لمداواته، ويبحثون عن التائهين
من البشرية لإرشادهم والحيارى من بني آدم لإنقاذهم.
لقد
قربت الإجازة وبدأ بعض الناس يعد عدته للسفر بنوايا مختلفة! منهم من يريد الدنيا ومنهم
من يريد الآخرة، ولكن الله تعالى بيّن أن من لم يستغل وقته في طاعة ربه فهو في خسران
مبين، كما قال تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا
بالحق وتواصوا بالصبر}. فالأولى للمعطلين أن يستغلوا الإجازة في ما يعود عليهم
بالنفع، وأجدر ما صرف فيه الوقت الانكباب على طلب العلم، وإن كان لا بد من السفر والترفيه
فما أجمل الرحلة إلى مكة المكرمة وطيبة الطيبة للاعتمار وزيارة المسجد النبوي.
ومع الحديث عن بداية الإجازة الصيفيَّة لا بد من
عود على بدء لمخاطبة حاملي هموم الأمَّة الإسلامية من علماء ودعاة ومحتسبين، بأن يتَّقوا
الله تعالى ويتذكروا حقوق المسلمين عليهم في أطراف الأرض ومناطقها النائية، ويستشعروا
أهميَّة السفر إليهم، والسياحة الدعويَّة في سبيل الله معهم؛ لتعليمهم أمور دينهم وإكسابهم
مهارات دنياهم، فأكثرهم يرفل في جهل عجيب ومستوى من الخرافة غريب، وبدائيَّة لا يكاد
عقل تصديقها، فما أحوجهم إلى التوجيِه من حملة الرسالة النّصَحَة، وما أحقهم بإرشادات
إخوة مشفقين، فقد أجلبت عليهم ملل الكفر ونحل النفاق بخيلها ورجلها وعتادها مستغلة
فاقتهم ومنتهزة جهلهم ومرضهم، فكانت أول ما سعت إلى سلبه منهم عقيدتهم وأخلاقهم قبل
أن تغير على أراضيهم وتعيث فساداً في ديارهم وتهتك حرماتهم وتنتهك أعراضهم وتأسر رجالهم
وتسبي نساءهم...فإن لم يواسهم إخوتهم في الدين فمن لهم؟ وإن لم يغثهم أشقاؤهم في الملة
فمن يرجون؟؟؟ وإن لم ينصرهم أحبتهم في الله فبمن يستنصرون؟؟ وإن لم تكن المواساة والغوث
والنصرة فما ثم إلا الخذلان والتواطؤ مع الأعداء...
إن
تعليم أولئك وتثقيفهم وإرشادهم وتخفيف آلامهم نظراً لعظمة أجره يحتاج إلى كثير من الصبر
والأناة وهضم النفس والتعلق بما عند الله تعالى واحتساب الأجر والاستعلاء على الحسابات
الأرضية، فلدى كثير منهم حواجز نفسية ولغوية وبيئية تحتاج إلى مستوى كبير من الترفق
معهم والإهداء إليهم والابتسام في وجوههم. واقتيادهم إلى طريق الهدى باللين والإحسان
والتفنن في فعل الجميل حتى يتم الوصول إلى قلوبهم لتحبيب الحق إليها واستمالتها إليه،
وعندها يستطيع الداعية أن يعود بهم إلى المحجة البيضاء وهم مقتنعون بذلك واعون لضرورته
متلهفون إليه.
مع
العلم أن هناك جوانب إيجابية كثيرة تسهل عمل الداعية في شرائح واسعة من هذه المجتمعات
الإسلامية؛ فرغم اختلاف بيئاتها وبعدها عن جادة الصواب في كثير من أمور الإسلام فإنها
ظلت تحتفظ للدين بعاطفة جياشة وحب مستميت ورغبة في العودة إليه عز نظيرها، لكن الجهل
أقعدهم عن الصعر إليه والخرافة عاقتهم عن الرجوع إلى أصوله، وصدهم إله الهوى وبعد الشقة
عن الاهتداء بسبيله، ولم يجدوا ناصحا أمينا رفيقا يدلهم عليه. ولذا فبمجرد أن يعثروا
على من يستنيروا بخطاه في منهج الحق تجد أكثرهم حريصاً على أداء الفرائض، وارتياد المساجد
وتلاوة القرآن، في إصرار مذهل على الالتزام الأخلاقي والديني.
كذلك
وبما أنه على المسلم المستسلم لربه المنقاد لأوامره مسؤولية في ما يأتي ويذر؛ فإنه
ومع اقتراب الإجازة وكثرة الذين حزموا حقائبهم استعدادا للسفر والضرب في الأرض، يكون
لزاماً أن تتم العودة إلى الكتاب والسنة؛ لاستقاء الأحكام منهما، ذلك أنه لا يجوز لامرئ
مسلم بلغ حد التكليف أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه؛ مما يستوجب تعلم الأحكام
المتعلقة بالسفر والآداب المرتبطة به.
لقد
ذكر القرآن الكريم السفر في عدة آيات، منها ما ورد في ثنايا امتنان الله تعالى على
أهل سبأ؛ يقول جل شأنه: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا
فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا
آمِنِينَ}[سبأ:18]. فالأصل في السفر الإباحة إلا إذا قصدت به معصية أو خالطته.
ذلك أن السفر إذا أنشئ لمحرم صار محرماً، وإذا كان في أصله سفر طاعة ثم غلب على ظن
المسافر احتفافه بمعاصٍ وذنوب فإن الواجب عليه العدول عن ذلك السفر؛ لأن دفع المفاسد
أولى من جلب المصالح...
لقد
كرّم الله تعالى بني آدم ومنحهم طاقاتٍ عظيمة وقدراتٍ كبيرة وأرشدهم إلى سبل استثمار
تلك الطاقات لتقديم أكبر قدرٍ من الإنجاز والعطاء. فينبغي أن يستحضر المربون من الدعاة
والطلاب أن العطلة الصيفية تمثل مرحلة فاصلة بين مرحلتين حيويتين، فلا بد أثناءها من
العمل على تنمية وتفعيل الجوانب الدينية والاجتماعية والثقافية. وذلك بالسعي إلى تعلم
السنة والالتزام بها، وحسن التعامل والاقتداء بالعلماء الربانيين، ومجالسة الصالحين
من أهل السنة والاستقامة؛ لتحصيل جميل الخصال وكريم الطباع.
كما
ينبغي أن يهيئ الدعاة جواً تنافسياً ينعم به هؤلاء الشباب، ويقدمون من خلاله الأفكار
الدعوية العملية لفائدة المجتمعات الإسلامية، ويمارسون عبره أنشطة دعوية تلامس الواقع
وتواكب حركة المجتمعات الإسلامية، وتكون زادا للدعاة ورافعة لشحذ هممهم في ميادين الدعوة
إلى الله تعالى، وعامل تطوير لفنون الدعوة ووسائل تأثيرها...
إن
بذل الجهود لإزاحة المعوقات من طريق الدعوة سواء كان ذلك عبر برامج تعليمية شاملة أو
أفكار مبتكرة، أو رسائل مؤثرة أو مقالات دعوية جادة أو قصص واعظة تربي ناشئة المجتمع
على الجد والاجتهاد وعلو الهمة وتستثمر ميولهم، وتوجهها التوجيه الأمثل بإعداد أنشطة
جادة ومفيدة يقيمونها في إجازتهم الصيفية؛ بعيداً عن تسليمهم للشاشات ومحطات الفساد
والإفساد، ذلك أنهم أمانة لابد من إعطائها ما تستحق من رعاية وصيانة وحماية؛ كما جاء
في حديث عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ
عَنْ رَعِيَّتِهِ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ
فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ
زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ
وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". قَالَ: (وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: "وَالرَّجُلُ
رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ
عَنْ رَعِيَّتِهِ") [1].
فلا
بد إذاً من الاهتمام بالوقت، واستثمار الإجازة بأمثل ما يكون نضجاً ووعياً، فالإنسان
- وخاصةً المسلم - ثروته الحقيقية تتمثل في وقته، فإن استثمره بالشكل الصحيح؛ تحققت
كل طموحاته، وفاز بمرضاة الله جل وعلا واستكمل السعادة الدنيوية والأخروية، وحصل العلم
وحاز الثقافة، وعاش حياة ملؤها الاستقرار والطمأنينة والانسجام الحيوي.