المصالح الأمريكية تربك الوحدة الأوربية
تحاول روسيا تثبيت الإنجازات الأمنية التي ححقتها في إقليم دونباس شرق أوكرانيا وتحويلها إلى واقع سياسي يمكن الركون إليه في إبعاد خطر تهديد حلف شمال الأطلسي (الناتو) لأمنها القومي، وهذا الأمر في نظر روسيا يشمل مراجعة النظام الأمني الأوروبي بشكل كامل، ويحد من الرهان الأوروبي على الإدارة الأمريكية لتحديد المصالح الأمنية المشتركة للطرفين ويعزز من إرباك العلاقات العسكرية المتواصلة بين واشنطن والقارة العجوز منذ الحرب العالمية الثانية.
فشلت محاولات لصنع السلام بين أوكرانيا وروسيا مدفوعة بدعم من بروكسل منذ بداية الأزمة عام 2014 حيث قامت روسيا بدعم انفصال الإقليم الشرقي الذي يعتقد 40 في المئة من سكانه بأنهم ينتمون للهوية السوفيتية، وتسببت تلك الأزمة بتهجير الملايين من اللاجئين وقتل الآلاف من الأوكرانيين وقدرت خسائر روسيا السنوية بملياري يورو، بالإضافة إلى سلسلة من العقوبات الأوروبية الامريكية المشتركة التي استهدفت شركات ورجال أعمال ولم تنجح حتى الآن في تغير الموقف الروسي تجاه منح فرصة لإستقلال سياسي في أوكرانيا.
يوجد إصرار أمريكي على أن الحرب في أوكرانيا هي حرب ضمن حدود الكتلة الغربية وتأتي ضمن أولويات الأمن الأوروبي وتهدف روسيا من وراء ذلك ضمان عدم تحويل أوكرانيا إلى حاضنة للمؤسسات الاقتصادية والأمنية الغربية ويظهر التوجه الروسي الحالي أن الاستمرار في استنزاف أوروبا أمنياً وإيقاف توسيع دائرة الدول المنطوية تحت راية بروكسل أهم بكثير من استدامة وتوسيع المنفعة الإقتصادية المشتركة بين الجانبين.
منذ نهاية الحرب الباردة عام 1991م، يعتبر الكرملين أن الكتلة الغربية التي تمثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة هوية معادية للنفوذ الروسي في ما تعتبره موسكو مجالها الطبيعي وهنا يشار إلى المحيط المباشر لروسيا. في الجهة المقابلة تدرك القيادة السياسية الأوكرانية أن الدعم العسكري الغربي حاسم في مواجهتها مع روسيا وهذا الأمر قد يراه الروس مبرراً كافياً لمخاوفهم من تحول كييف إلى حاضنة لتهديدات غربية تستهدفهم، لكن عدم اندفاع كييف في مواجهة مفتوحة مع الروس ومحاولتها البحث عن السلام أكثر من الحرب قد يبرره التردد الغربي في تحديد نوعية المواجهة فمنذ انطلاق الهجوم الروسي اكتفت بروكسل بتوفير دعم عسكري يقتصر على المعدات والأسلحة وفرض المزيد من العقوبات الإقتصادية على موسكو ولم تتدخل بصورة مباشرة في المواجهة رغم انها تعتبرها جزء من المخاطر التي تستهدف حلف (الناتو).
وعدت واشنطن وبروكسل الروس برفع العقوبات في حال التزمت موسكو بتنفيذ الإلتزامات التي تم التوافق عليها في إتفاقات (مينسك) برعاية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا خلال عامي 2015 و 2016، لكن موسكو ذهبت إلى مسار المماطلة ورفضت تغيير أي معادلة أمنية على الأرض والاكتفاء فقط بالتخلص من العقبات التفصيلية الصغيرة مثل السماح بفتح بعض الطرق والجسور وتبادل الأسرى.
لا شك أن التوجهات الروسية تؤكد أن الطبيعة الجيواستراتيجية للمنطقة المنفصلة تشير إلى أن المشكلة الأمنية الروسية الأوروبية تجاوزت أوكرانيا وتعزز من الفجوة الكبيرة بين الطرفين وفي حال بحثت تلك الأطراف عن السلام فيجب أن يكون ليس فقط سلام إطاري ينهي الأزمة الأمنية بين أوكرانيا وروسيا بل أيضاً يشمل مفهوم الأمن الأوروبي والعلاقات الروسية مع الغرب، وأبرز الملفات العالقة وهي التي تتعلق بالتسلح المتزايد على الحدود الروسية الأوروبية ونشر منظومة صواريخ باتريوت الأمريكية على حدود بولندا وتوسيع دائرة الانتشار الروسي على الحدود البحرية الأوروبية في مناطق النزاع مثل سوريا وليبيا.
يمكن التأكيد أن الروابط التاريخية والثقافية والعائلية بين إقليم دونباس وروسيا جعل من السهل على الأخيرة الاتجاه إلى ترسيخ الهوية الروسية كجزء من أوكرانيا للحفاظ على دور هام ومؤثر في مستقبل أوكرانيا السياسي، وهذا الأمر يفضي إلى ما سعت إليه روسيا دائماً وهو تحجيم توسيع قوة الناتو وتحديد الهوية الأمنية للقارة الاوروبية، حتى أنها بدأت بتصميم جوازات سفر خاصة بسكان الإقليم كجزء من هويتهم الروسية.
بالنسبة للقيادة الأوكرانية فإن البحث عن السلام أهم بكثير من تأجيج الصراع لذلك يوجد اتهامات جماهيرية للرئيس الحالي فلاديمير زيلينسكي تتعلق بتقديمه تنازلات سيادية لروسيا مقابل تحقيق السلام في المنطقة الخاضعة للإنفصاليين، لكن ذلك لا ينفي تطلعات الأوكرانيين وسعيهم للانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي رغم أن المواجهة مع روسيا قد أبعدت هذا الحلم قليلاً عنهم مع إصرار روسيا على أن تبقى أوكرانيا منطقة محايدة وعازلة بينها وبين الكتلة الغربية.
تظل الولايات المتحدة وحلفائها الاوروبيين حذرين بشأن مخاطر التصعيد المسلح مع روسيا، وهذا الأمر أكده عدم وجود إلتزام منهم بالدفاع عن أوكرانيا، ولا يبدو أي منهم مستعد لخوض مواجهة مباشرة في هذا الصراع، وهذا الأمر يؤكد تغيرات في المشهد الأوروبي الذي يحاول الانفصال عن الموقف الأمريكي اتجاه الأزمة، وقد يبرر ذلك محاولة بعض الدول الأوروبية عدم التماشي مع الرغبة الأمريكية بتشديد العقوبات على موسكو، فاعلاقات التجارية بين الطرفين في أوج نشوتها إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا والاتحاد الاوروبي 300 مليار يورو، بالإضافة إلى وجود تباين في المواقف بين الدول الأوروبية اتجاه روسيا، فقد رفض الاتحاد الأوروبي العقوبات الأمريكية التي استهدفت الشركات الروسية المشاركة في بناء انبوب الغاز الروسي المتجه إلى أوروبا "نورد ستريم 2"، كما أيد مجلس الشيوخ الفرنسي بغالبية في يونيو 2016 تخفيف العقوبات عن روسيا، وهذا الأمر يؤكد أن العلاقات بين الكتلة الأوروبية وروسيا تأخذ مسارين الأول يتعلق بالموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي وهو متوافق مع الموقف الأمريكي والموقف الفردي للدول الأعضاء في الاتحاد.
فقبل اندلاع الأزمة طورت الكتلة الأوروبية مع موسكو اتفاقات استراتيجية تتعلق بالطاقة ومكافة "الإرهاب" والأسلحة النووية والتعليم والأمن، والتعاون في مجال الربط الكهربائي، ولكون الأرقام تؤكد أن روسيا هي رابع شريك تجاري للإتحاد الروسي فقد انخفضت الصادرات الأوروبية إلى روسيا بنسبة تزيد عن 20 في المئة وهذا الأمر يؤكد تضرر الطرفين في هذه الأزمة لذلك رغم موقف بروكسل استمرت عدة دول في الاتحاد الأوروبي بتجاوز الأزمة وقامت بتوقيع إتفاقية ثنائية مع روسيا. ففي عام 2018 أظهرت إحصائيات أن إيطاليا كانت سادس مورد للاسواق الروسية، وتضخمت استثماراتها في روسيا من 27 مليار إلى 36 مليار يورو.
وفي عام 2017، صدّرت الشركات الألمانية سلعًا بقيمة 25.8 مليار يورو إلى روسيا ، كذلك فإن مشروع نورد ستريم2 الذي تقوم بدشينه روسيا لإيصال الغاز إلى ألمانيا متجاوزاً أوكرانياً يعد أحد أهم الأوراق المؤثرة في طبيعة العلاقات الألمانية الروسية. في مارس 2018 أعلنت السلطات البريطانية عن قيام المخابرات الروسية بتسميم الضابط السابق فيها سيرجي سكريبال وابنته يوليا سكريبال في بريطانيا، وعلى غرار الأزمة اتهمت الحكومة البريطانية موسكو بانتهاك سيادة أراضيها وأعلنت عقوبات دبلوماسية على إثرها طردت الدبلوماسيين الروس ورغم تضامن حلف الناتو وكندا واستراليا والولايات المتحدة مع لندن إلا أن النمسا وسلوفاكيا وسلوفينيا واليونان وبلغاريا والبرتغال لم تطرد أي دبلوماسي روسي.
القيادة الأوكرانية بزعامة زيلينسكي يبدو أنها تتكيف مع الواقع السياسي الجديد لذلك تبحث عن طريقة لإنهاء الحرب وإضعاف آثار الأزمة على المستقبل السياسي للبلاد لكن في ظل وجود إرتباط كامل بالشركاء الأوروبيين والإدارة الأمريكية التي تعد أوكرانيا فرصة كبيرة لإستنزاف روسيا فإن الموقف الأوكراني ضعيف ولا يمتلك مساحة واسعة للمناورة سواء فيما يتعلق بجزيرة القرم أو إقليم دونباس الشرقي، لذلك يتوقع أن يمنح استمرار الأزمة الراهنة وإطالة أمدها فرصة كبيرة لعودة حلفاء روسيا إلى السلطة. من خلال ما سبق يمكن التأكيد أن المصالح الأوروبية المشتركة بين روسيا والولايات المتحدة أضحت تختلف عن الهوية الوطنية للشعوب الأوروبية وهذا الأمر ظهر جلياً عقب ممارسة الإدارة الأمريكية ضغوط كبيرة على الأوروبيين لزيادة إنفاقهم على حلف شمال الأطلسي "الناتو" وهذا الأمر جعل الرئيس فرنسي إيمانويل ماكرون يطالب بالبدء بتدارس تشكيل جيش أوروبي يجعل أوروبا مستعدة للتخلي عن الحماية الأمريكية التي استنزفتها سياسياً وعسكرياً في صراعاتها، وهذا الأمر أكدته أيضاً تصريحات بريطانية صادرة في ديسمبر 2018 عن الوزير ،غافين ويليامسون، الذي قال في تصريحات صحفية ملخصاً سياسة بريطانية الدفاعية في الفترة المقبلة:"هذه لحظتنا الكبرى، كأمة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث يمكننا أن نعيد صياغة أنفسنا بطريقة مختلفة. ونستطيع أن نلعب على المسرح الدولي الدور الذي يتوقعه العالم منا".