الانتخابات الامريكية.. هل تنهي تأثير الدولة العميقة؟!
لم يكن جزء من قناعاتي يوماً أن تلك الإمبراطورية التي تدير إقتصاد وأمن العالم بمفهومها الرأسمالي منذ قرون قد تترك رأس الحكم فيها خياراً حراً للشعبوية المتنوعة في أعراقها والمتمزقة في هويتها الثقافية والفكرية.. ففكرة الدولة القائمة عليها الولايات المتحدة لا تخرج عن السياق الإستعماري الذي نشأت عليه تلك الدولة منذ إبادة الهنود الحمر وإحلال الانجليز والأوروبيين محلهم، وهذا الأمر عزز دائماً إنشاء منظمات متعلقة بإدارة هذا الكيان الضخم الذي يمتلك أضخم ترسانة سلاح على مستوى العالم والتي لم تصنع للتجارة بقدر ما صنعت للهيمنة وممارسة السلطة والسيطرة. فلا تزال السلطات الأمريكية حتى يومنا هذا رغم مرور عقود على إغتيال الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي ترفض الخروج برواية واضحة للعملية أو المنفذ، سواء كان الحدث نفذ بواسطة المخابرات الروسية أو الموساد الإسرائيلي أو حتى المخابرات الأمريكية التي كانت قلقة بشأن السياسة المرنة التي أراد اتباعها كينيدي مع الروس. وكذلك ما صنعه مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) لإجبار الرئيس ريتشارد نيكسون على الإستقالة إثر فضيحة "ووتر غيت" التي لا تقارن بفضائح الرئيس الحالي دونالد ترامب، لذلك حينما نحاول التعمق في تفسير الانتخابات الأمريكية والتصارع ما بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري والذي لا يوجد سواهما على الساحة الأمريكية يستطيع المشاركة في هذا المارثون، يجب أن نعي جيداً أن كلاهما لديه نفس مقومات الدعم و البقاء والإستمرار ولا يمكن أن يخرج من أي حزب مرشح دون دعم مالي وسياسي من الكتل الاقتصادية الموجودة على الساحة الأمريكية، لسبب وجيه جداً لا يتعلق بالنفوذ فقط بل بالتكاليف المالية الضخمة التي تحتاجها الحملات الانتخابية والتي تتجاوز عشرات الملايين من الدولارات.
انتهى الثلاثاء الكبير الأسبوع الماضي بإنسحاب المزيد من المتنافسين في الحزب الديمقراطي وكانت تلك الانسحابات جميعها تصب في صالح المرشح جو بايدن بعد أن كان منافسه بيرني سانردز متصدراً نتائج الانتخابات التمهيدية. فقد انسحبت السناتور إليزابيت وارن عقب انسحاب رئيس بلدية نيويورك مايكل بلومبرج ثم أعلن بيت بوتيدجيدج المنافسة الأبرز لساندرز انسحابه لصالح بايدن، وبذلك تخلق صفحة من الانتخابات التمهيدية للديمقراطيين لتفتح صفحة جديدة يتم خلالها المقارنة بعمق بين بيرني سانردز وجو بايدن.
لا يختلف بايدن عن سانردز في الحفاظ على أولوية إبقاء الدور الأمريكي على المستوى العالمي مثلما كان عليه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وتجاهل التقليص الذي يحاول صنعه الرئيس الحالي دونالد ترامب. هناك مرشحان يتمتعان بحوالي 100 عام من الخبرة السياسية وليس كظاهرة ترامب الذي يمارس دور رجل الأعمال من مقعد الرئاسة! فبايدن يمتلك رؤية سياسية تقليدية تتبنى نهج ما قبل صعود ترامب، في حين أن ساندرز الذي يتبنى فكراً إشتراكياً ولا يخفي إعجابه بالأنظمة الشيوعية يريد التركيز على القضايا الداخلية مثل الرعاية الصحية.
فبايدن كما تقول مجلة فورين بوليسي يتبنى شعار إعادة الاستعمار الأمريكي فهو صاحب مشروع تقسيم العراق، وينظر للإدارة الأمريكية على أنها شركة عالمية رائدة يجب أن تمارس دورها في الهيمنة ومنافسة الصين وتنمية المشاعر القومية والشعبوية لدى البيض، بعكس ساندرز الذي ينتهج نهجاً مرناً في التعاطي مع القضايا الخارجية والحفاظ على التحالفات القائمة مع الولايات المتحدة.
ويتفق كلاً من ساندرز وبايدن على السياسات السيئة التي تبنتها إدارة ترامب في الشرق الأوسط وما توصف بــ"التجاوزات خلال الحرب على الإرهاب"، وترك الفوضى القائمة في الشرق الأوسط دون الحد منها وصنع حالة من التوازن السياسي هناك.
ولا يمانع المرشحان إكمال الصفقة النووية مع إيران دون شروط جديدة متخلين بذلك عن سياسات ترامب المتشددة التي مارسها منذ صعوده للسلطة، وهذا الأمر لا يعني سهولة إنهاء الازمة الحالية بين إيران والولايات المتحدة. النقطة المهمة التي لا يجب تخطيها هي أزمة الانتخابات الإسرائيلية التي أفرزت نتائجها خسارة لمحور بنيامين نتنياهو واحتمال وجود تحالف بين بيني غانيتس والقائمة العربية المشتركة لتشكيل حكومة في خطوة قد تنهي حياة نتنياهو السياسية للأبد، وهذا الأمر يأتي بالتزامن مع تصريحات لبيرني سانردز وصف فيها مؤتمر "آيباك" الذي يمثل اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة بأنه منصة للتعصب ورفض المشاركة في مؤتمراته وكذلك يعتبر المستوطنات غير قانونية، وهذا الأمر قد ينطبق على أعضاء آخرين في الحزب الديمقراطي الذي اختتم مسيرته في الحكم في عهد باراك أوباما بأزمة حادة مع الحكومة الإسرائيلية، كذلك هناك حالة جماهيرية أمريكية أصبحت تنظر إلى "إسرائيل" على أنها مصدر إنقسام حزبي كبير داخل الولايات المتحدة وعزز ذلك خطة جاريد كوشنر التي تجاهلت سياسات الحزب الديمقراطي في التعاطي مع الفلسطينيين رغم أن القضية الفلسطينية لا تأتي في سلم أعلى 10 أولويات للسياسة الخارجية الأمريكية.
يعقتد بايدن أنه يدافع عن المشروع الأمريكي التقليدي الذي يقود العالم وينشر الديمقراطية بحاضنة شعبوية قومية لا تختلف كثيراً عن شعبوية ترامب لكنه أكثر تشدداً في التعاطي مع الحلفاء قبل الأعداء ويميل إلى إعادة ترتيب الملفات الدولية بما يناسب السياسات الأمريكية في العالم، بعكس سانردز الذي لا يمتلك الكثير من التفاؤل بشأن ما يمكن تحقيقه من برنامجه الانتخابي، فأبرز شعارات باراك أوباما كان إغلاق سجن غوانتانامو لكنه فشل في ذلك فشلاً ذريعاً لرفض صانع القرار الأمني .
في الختام يبقى فوز ساندرز الذي يعرف بكبر سنه ومرضه ونزوحه نحو الإشتراكية أكثر إبهاجاً من فوز بايدن بالنسبة لدونالد ترامب الذي يترقب بحذر ما ستفرزه نتائج الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي والتي على الأرجح ستفرز بايدن بصورة لم تكن مجرد صدفة بل في سياق خطة محكمة أعدها الحزب الديمقراطي لتوحيد جمهوره على أمل طرد الجمهوريين من البيت الأبيض.